نبذه عن التدريب

فكرة الحكم لا تخرج مِن باستور

[شارع باستور في طهران، حيث يقع مكتب المرشد ومكتب رئاسة الجمهورية]

الوداع مع الملك الفيلسوف الأفلاطوني

«السياسة مسألة خطيرة للغاية، لا يمكن تركها لِلسياسيين».  (شارل ديغول) روح الأمين سعيدي

ترجمة: رضا الغرابي القزويني

نعرف جميعاً أنَّ الجمهورية الاسلامية الإيرانية تـَمرّ بإحدى أهم حقب حياتها المصيرية منذ انتصار الثورة الاسلامية. إنَّ التجارب المريرة -وذات العِبرة في آن- خلال السنوات الماضية في مجال الدبلوماسية والتفاوض مع القوى العظمى، والمواجهة مع واحدة مِن أشرس نظم العقوبات الاقتصادية الدولية التي فرضت على دولة في العهد الحديث، مِن شأنها أن تكون مفيدة لساستنا مع مختلف مسؤولياتهم لإدارة البلد خلال السنوات القادمة، لإيصال إيران إلى بَرّ الأمان وتجاوز هذه الحقبة العسيرة. اليوم يمكن القول بصرامة إن الكثير من الأخطاء الفادحة لبعض المسؤولين عن السياسة الخارجية وسوء فهمهم الذي أدّى إلى اتخاذ القرارات الخاطئة، هي نتيجة إدراكهم الخاطئ للتغييرات والتطورات الناتجة عن السياسة والاقتصاد العالمي.

عبارات مثل «إنَّ قرارات مجلس الأمن الدولي مجرد أوراق دون قيمة» أو «العالم بحاجة إلينا أكثر من حاجتنا إليه» أو «في حال فرض العقوبات على قطاع النفط الإيراني سيصل سعره إلى مئات الدولارات» عبارات خطرة بقدر خطورة كلمات مثل «العالم متحمّس للتعاون معنا بعد الاتفاق النووي» أو «إذا قامت الولايات المتحدة بإعادة العقوبات لا يتبعها أحد» كما أنها تدل على عدم المعرفة بوقائع الساحة الراهنة.

لو كنا نمتلك إدراكاً حقيقياً عن الحقائق الحديثة في السياسة والاقتصاد العالمي لكنّا ندرك  في وقتها أن القوى السِّت العظمى لن تقبل أبداً بمفاوضات بمبدأ «اربح-اربح»، أو «لعبة المجموع الإيجابي» مع مجرد قوة إقليمية؛ وإنَّ أمريكا لن تترك آلية العقوبات -التي أدركت أنها أكثر الوسائل الفعالة للضغط على الجمهورية الإسلامية- بسهولة. وهكذا لو كنّا نعرف أن في الاقتصاد المعولَـم والخارج عن إطار اللوائح والقوانين المبني على دور الأفراد والشركات الخاصة، لا تستطيع الدول الأوربية، حتّى لو أرادت، أن تعمل الكثير من أجل إجبار أو ترغيب الشركات الخاصة في بلدانها للاستثمار في الاقتصاد الإيراني. وبالطبع لا ترغب هذه الشركات بالفوائد القليلة المستحصلة من السوق الإيراني مقابل العقوبات الأمريكية الهائلة من مبدأ تحليل التكلفة والفائدة؛ في حينها لكنّا ندرك أن الشبكة العالمية للتبادلات المالية والمصرفية طالما تكون مغلقة أمامنا، فلا نستطيع حتى مطالبة جارنا العراق لتسديد ديونه الضخمة وهكذا العديد من الحالات الأخرى.

بعد مرور أربعة عقود من حياة الجمهورية الإسلامية حتى لم نصل إلى إجماع شامل نخبوي خصوصاً على مستوى مراكز السلطة السيادية حول كيفية التعامل مع الاقتصاد العالمي واعتماد أنموذج مناسب للتنمية، فمازال البعض منا يتحدث عن الاقتصاد المقاوم والاكتفاء الذاتي والاستقلال الاقتصادي، والآخر يتكلَّم عن حتمية الاندماج في الاقتصاد العالمي وقبول متطلبات ذلك، منها اتّباع التوصيات والآليات الليبرالية لصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، بينما كنا عاجزين عن اعتماد أنموذج وسطيّ للالتحاق بالتجارة والاقتصاد العالمي مع الحفاظ على السيادة. ومازلنا لانعرف ماذا نريد، هل نريد السير نحو الغرب والاتكاء على إجماع واشنطن (Washington Consensus) في مواصلة طريقنا للتنمية؟ أو ننظر نحو الشَّرق ونفضّل اجماع بكّين؟ أو نريد تطبيق النموذج الإسلامي الإيراني الخاص بنا للتنمية؟ عدم وجود هذا الاتفاق بين النخب والحركة البندولية في السياسة الخارجية أنتجت حركة متعرجة وغير آمنة للبلد، وأهدرت الكثير من مصادرنا وطاقاتنا. كما شاهدنا أنَّ سياسة الاكتفاء الذاتي والاستقلال السياسي لحكومة أحمدي نجاد لا تستطيع إنقاذنا من التوحّد الاستراتيجي، ولا تفاؤل حكومة روحاني الخيالي والمفرط بالغرب استطاع رفع الثقل عن كاهل البلد. يبدو أن هذا العجز في وضع خطة وبرنامج لتنفيذ برنامج جامع يدمج كل التوجهات، بمعنى الحفاظ على السيادة السياسية والاقتصادية من جهة، والتعامل مع المجتمع الدولي والاندماج في الاقتصاد العالمي مِن جهة أخرى، يمثّل أهم سبب لضعف السياسة الخارجية الإيرانية.

الوقت يمر بسرعة بالنسبة لنا، وحالياً متأخرون جداً عن الكثير من منافسينا الإقليميين. يبدو أن الوقت قد حان، وربما قد تأخّر، لِـمعالجة التحديات الموجودة في السياسة الخارجية للبلد من خلال حوارات نخبوية جدية في أعلى مستويات الحكم، وأن يتم التوافق والإجماع على الحلول والمعالجات التي تعنى بمثل هذه التحديات: تحدي المصادر المتعددة للهوية، والتحدي بين المثالية والواقعية، وتحدي تعدد الخطابات، وتحدي العقلانية المتعددة، وتحدي الأدوار الوطنية المتعددة، والتحدي بين المصالح الوطنية والمصالح الإسلامية، وتحدي الأهداف ذات الأولوية، وتحدي استراتيجية السَّير نحو الغرب أو الشَّرق، والتحدي بين أداء الواجب بصرف النظر عن العواقب أو الحصول على النتيجة، وتحديات أخرى.

سيكون جيداً لو تقوم الحكومة الجديدة التي هي في بداية مشوارها أن تفترض نفسها "حكومة توليف" من حيث الخطاب والإجراء، وذلك يعني التوجّه نحو خطاب واتجاه واقعي وسطي ومعتدل مبني علی التجارب السابقة بالاستفادة من اتجاه الافراط والتفريط للحكومات المحافظة والإصلاحية / الاعتدالية خلال السنوات الست عشرة الماضية.

لكن هل يمكن أن نتوقع ذلك من الحكومة الجديدة؟ يجب أن نكون صادقين. ما شاهدناه حتى الآن كان بعيداً عن التوقعات. طبعاً مِن السابق لأوانه الحكم على ذلك، ويجب إعطاء الفرصة والقيام بالرصد والتقييم. مازالت هناك الكثير من الأسئلة والغموض حول الحكومة. هل تركيبة حكومة الرئيس ترتقي إلى مستوى توقعات المراقبين حول فعاليتها؟ هل يوجد التجانس والتقارب اللازم بين أعضاء الفريق الاقتصادي للحكومة؟ مَن هم أعضاء الحلقة الاستشارية العليا للرئيس؟ مَن هم الذين يقدمون له الأفكار والخطط ونصوص خطاباته؟ ما هي الاستراتيجية التي اعتمدت عليها الحكومة في إدارة علاقاتها الخارجية خصوصاً مع القوى الكبرى؟ هل ثمّة خطة واضحة لرفع العقوبات؟ كيف ستجري المفاوضات النووية الجديدة، وما هي الأجندة؟ والسؤال الأهم: أي خطاب سياسي تتبناه الحكومة؟ وهل تمثل خطاباً سياسياً خاصاً؟

على غرار السياسة الخارجية هناك تحديات كبيرة ومتراكمة على ساحة السياسة الداخلية، ومعالجة تلك التحديات بحاجة إلى نموذج فعال ومؤهل للحكم. خصوصاً خلال السنوات الثمان الماضية، كان إصرار حكومة روحاني على النظر نحو جميع القضايا مِن منظار السياسة الخارجية والمفاوضات النووية وعدم امتلاكها لأيّ نموذج واضح لتدبير وإدارة شؤون المجتمع الإيراني، جعلنا نواجه كماً هائلاً ومتراكماً من الملفات المفتوحة والملحة:

كيف بإمكاننا ايجاد الحلول لِلتضخم المنفلت والبطالة وضعف الإنتاج وكساده والانخفاض المستمر لِلعُملة الوطنية وانهيار سوق الأسهم وإغلاق المصانع وهروب الاستثمارات والتهريب وفشل النظام المصرفي الداخلي؟ أمّا فيما يتعلق بالقضايا الاجتماعية والثقافية والبيئية، لم تكن القضايا العالقة قليلة: زواج الشباب والجرائم والانحرافات الاجتماعية وقضايا النساء والعالَم الافتراضي وتلوث الهواء وأزمة شحّة المياه ونتائجها، والركود العلمي المقلق في الجامعات والمدارس في زمن كورونا، والوضع المؤسف لسوق النشر والكتب والصحافة وهجرة النخب والكثير من الأمور الأخرى.

السؤال هو: هل علينا أن نتوقع الإجابة عن كلّ هذه الاسئلة من رئيس الجمهورية -الرئيس الحالي- أو أي رئيس آخر؟ الكلام الذي نقلته عن ديغول في بداية المقال يحتوي على مفهوم ملفت للغاية. أدعو إلى قراءته مرةً أخرى. ربما هذه هي مشكلتنا اليوم في المجتمع الإيراني، حيث تعودنا لسنوات طويلة أن نسلّم السياسةَ لِلسياسيين، ونرسم صورة خيالية عن رئيس الجمهورية في أذهاننا، صورة المنقذ والبطل الأسطوري الذي يأتي لكي يحل جميع المشاكل ويصنع المعاجز. نتوقع أن يكون السياسي ورجل الدولة فيلسوفاً ومنظّراً ومفكراً ويأتي بنموذج مؤهل ومناسب للحكم. وخلال فترة الإعلان الانتخابي المثيرة والمشوّقة نتعلق دوماً بشخصية نعتقد أنها هي ضالتنا التي تتمكّن مِن إصلاح جميع المشاكل، لكن عندما يأتي الشخص ولم يفلح في مهمته، تخيب آمالنا ونقوم بالبحث عن شخصية أخرى لنعلّق آمالنا عليه من جديد.

ربما تكمن المشكلة في مكان آخر وتوقعاتنا من الرئيس ورجل الدولة توقعات خاطئة بالأساس. رئيس الجمهورية هو مجرّد وسيط تنفيذي، وليس فيلسوفاً أو مفكراً أو صانع الأفكار. انظروا إلى المجتمعات المتقدمة والمتطورة، حيث يتمّ تحجيم الحكومة بالقدر الممكن، إذ تقلصت نفقاتها ولا تتدخل في قضايا المجتمع مثل الاقتصاد أو الثقافة والتعليم، ولا تمتلك دخلاً أو جيباً، ولا تقوم ببيع الموارد الطبيعية، بل من أجل نفقاتها البسيطة، هي بحاجة إلى ضرائب الناس. وفي المقابل عليها أن تكون شفافة دائماً أمام دافعي الضرائب. لا يتوقّع أحدٌ في هذه المجتمعات من رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء أن يقوم بالتنظير. هذه مهمة الجامعات والأوساط النخبوية.

إنتاج العلم وتحليل النظريات ووضع الخطط النموذجية للحكم لا يتم في قصر كرملين أو قصر بكنغهام، بل يتم كلّ هذا في مثل جامعة هارفارد وأوكسفورد وغرف الفكر وحلقات التنظير.

رجل الدولة يستطيع أن يكون فقط سالك السبيل الذي بُني مسبقاً نتيجة اتفاق نخب المجتمع.

يمكن القول أن سر نجاح المجتمعات المتقدّمة يكمن في وجود مجتمع مدنيّ قوي أكثر من الحكومة القوية. يعني المكان الذي لا تُترك السياسةُ لِلسياسيين فقط، بل يشارك الجميع من الأحزاب والنقابات العمالية ومنظمات المجتمع المدني، حتى الإعلام والجامعات في مقدمة الأمور. إنَّ العبور مِن مفهوم الحكومة (government) والوصول إلى مفهوم الحوكمة (governance) فيه إشارة واضحة نحو هذا التطور المطلوب. هذا يعني أن الحكومة في هذه المجتمعات –بوصفها مؤسسة تنفيذية ترمز إلى سلطة الدولة- ليست سوى واحدة من الفاعلين النشطين في الحكم وإدارة المجتمع، وتسعى إلى جانب باقي مؤسسات المجتمع المدني لأداء مهامّها.

في هذا النموذج مازالت الحكومة تحمل الدور الأساسي ولديها السلطة، لكنّها تقوم بذلك بصورة غير مباشرة ومن خلال شبكات يتواجد فيها ناشطون ذوات المصالح المشتركة وتتأسس العلاقات المتبادلة وفق التعامل المتبادل والثقة ووحدة المصالح. رواج مصطلح العولمة من الأسفل (globalization from below) يؤكد على أن الناشطين في المجتمع المدني العالمي  يملكون أدواراً مؤثرة في الحوكمة العالمية (global governance) و تسيير وإدارة شؤون النظام العالمي لم يعد حصراً بيد الحكومات الوطنية حتى الأقوى بينها.

وباختصار إذا كنّا نجلس وننتظر خاتمي وأحمدي نجاد وروحاني ورئيسي حتى يفتحوا حقائبهم بُعيد الاستقرار في مكتب [شارع] باستور ليخرجوا لنا النظريات والأفكار ونماذج الحكم المناسب، علينا أن نغسل يدنا من تلك التوقعات، فمثل هذه الآمال لن تتحقق أبداً. كان أفلاطون يعتقد أنَّ «المدن والجنس البشري لا تنجو مِن الشرور والفساد والمرض؛ إلا إذا أصبح الفلاسفة ملوكاً أو الملوك فلاسفة». يجب الاعتراف أنَّ عهد الفلاسفة الملوك قد انتهى، وإنَّ توقّعنا بأن يكون الشخص الذي يمسك زمام الإدارة فيلسوفاً منظّراً لا يزيدنا إلا إحباطاً. لذلك الأفضل أن ننظر إلى كلّ الأمور بطريقةٍ أخرى في الأشهر الأولى مِن عمر الحكومة الجديدة. لقد كنّا مخطئين لِفترةٍ طويلة في الحصول على عنوان الطريق الصحيح، إذ أن فكرة الحكم لا تخرج مِن [شارع] باستور.


فكرة الحكم لا تخرج مِن باستور
فكرة الحكم لا تخرج مِن باستور