نبذه عن التدريب

الأزمة السياسية في تونس: تحديات راسخة.. ومسارات قلقة

 

كرم سعيد // باحث متخصص في الشؤون الاقليمية // مساعد رئيس تحرير مجلة الديمقراطية- مؤسسة الأهرام

 

تشهد تونس تصاعد حالة عدم الاستقرار السياسي منذ الإجراءات الاستثنائية التي فرضها قيس سعيد في 25 يوليو 2021، وتضمنت إقالة حكومة هشام المشيشي، وتجميد البرلمان، وبلغت الأزمة ذروتها في 6 فبراير الحالي بعد قرار قيس سعيد حل المجلس الأعلى للقضاء، الذي وصفه بانه “يتهاون في التعامل مع عدد من الملفات، وصار مجلسا تُباع فيه المناصب، ويتمّ وضع الحركة القضائية بناء على الولاءات".

واثارت خطوة حل المجلس القضائي جدلا غير مسبوق في البلاد، ففي الوقت الذي هلل أنصار الرئيس لهذه الخطوة، رفضتها قطاعات واسعة من القوى السياسية، كما هاجم عضو مجلس الشيوخ الأمريكي "كريس ميرفي" هذا الإجراء، وقال في بيان له في 8 فبراير الحالي "أنه من المستحيل تصديق ادعاءات الرئيس قيس سعيد بأنه ملتزم بالانتقال للديمقراطية". وأضاف أن "قرار الرئيس سعيّد بحل المجلس الأعلى للقضاء يشير إلى مواصلة انزلاق تونس نحو السلطوية".

وعلى الرغم من اعتماد تونس الآليات الديمقراطية في إدارة المشهد السياسي، وخاصة العملية الانتخابية، وتفكيك الهياكل السلطوية في الدولة، إلا أن التوتر بين مكونات السلطة الحاكمة لا يزال على أشده، وكشف عن ذلك مساعي حركة النهضة تدويل الأزمة التونسية من خلال بث رسائل للمجتمع الدولي مفادها أن الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها الرئيس قيس سعيد أدخلت البلاد في نفق مظلم، وأدت إلى فرض حالة من العزلة الإقليمية والدولية على البلاد، وأدت إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.

في هذا السياق، فإن تجربة الانتقال السياسي في تونس تبدو مرشحة للدخول في دوامة الأزمة، خاصة مع إصرار الرئيس على المضي قدماً في إعادة ترتيب المشهد مقابل مساعي قوى المعارضة وفي الصدارة منها حركة النهضة نحو بناء تحالفات سياسية واسعة لمواجهة النظام الحاكم، وتجلى ذلك في إعلان القيادي في حركة النهضة “العجمي الوريمي” في نهاية شهر يناير الماضي، عن وجود تفاهمات سياسية بين حركة النهضة، وبعض الأحزاب السياسية المعارضة مثل حزب “حراك تونس الإرادة” وحزب “قلب تونس” وحراك توانسة من أجل الديمقراطية”؛ لتشكيل جبهة سياسية جديدة على غرار حراك مواطنون ضد الانقلاب” الذي شكلته الحركة قبل عدة أشهر.

لذلك، فأن ترسيخ التحول الديمقراطي، على الأمد البعيد في تونس لا يتوقف فقط على قدرة الرئيس قيس سعيد على إيجاد خارطة طريق لإعادة معالجة النظام السياسي الذي يمثل أحد جوانب الأزمة الراهنة. ولا يتوقف على قدرة المؤسسات الديمقراطية، والكيانات الحزبية على التجاوب مع التحديات الراهنة، والتفاعل مع الأحداث عبر آليات عملية، وبعيدة عن الانحيازات الإيديولوجية الضيقة، خاصة أن الأزمة التونسية هي أزمة معقدة ومتداخلة الأبعاد منها ما هو سياسي متعلق بطبيعة النظام التونسي الذي تأسس على دستور 2014 ناهيك عن التركيبة المتناقضة وغير المنسجمة للقوي السياسية والاجتماعية في النظام.

فأحد الأبعاد الرئيسية اللازمة لنجاح التجربة علاوة على العوامل المؤسسية والإجرائية، تتمثل في الدعم الجماهيري للنظام الديمقراطي نفسه، ومعالجة حالة الانقسام التي أضحت سمة بارزة في الشارع التونسي، والتي تعمقت بفعل العقلية الاقصائية لحزب الأغلبية في البرلمان – حركة النهضة بزعامة الغنوشي – والتي سعت إلى تفصيل المشهد السياسي على مقاس طموحاتها السياسية، وتثبيت هيمنتها، وغرس أنيابها في جسد الدولة والمجتمع بعد حيازتها السلطة التشريعية.

ورغم مرور عشر سنوات على أحداث يناير 2011، وسقوط نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي، لم تتمكن تونس من تحقيق استقرار سياسي أو استعادة عافيتها الاقتصادية، بل تحول الاستقطاب السياسي إلى سمة رئيسة في البلاد، وظهر ذلك عشية تكليف الرئيس التونسي في 29 سبتمبر 2021 نجلاء بودن بتشكيل الحكومة استناداً إلى الأمر الرئاسي رقم"117"، فبينما دعا 90 نائباً تونسياً من حزبي النهضة، وقلب تونس والكتلة الوطنية وبعض المستقلين، لعودة البرلمان للعمل، وأهمية حصول رئيسة الحكومة المكلفة بالحصول على ثقة البرلمان كشرط لمنح الشرعية لحكومتها المقبلة، دعت منظمات المجتمع المدني الرئيس قيس سعيد لمنح الصلاحيات الكاملة لبودن.

 

أولا: الانتقال السياسي في تونس: تحديات متنوعة

منذ عام 2011، اُعتبرت تونس نموذجًا للانتقال الديمقراطي، بعد إجراء انتخابات حرة ونزيهة، وإقرار نظام متعدد الأحزاب ناهيك عن زيادة جاذبية النموذج التونسي منذ تمكنت في إنها حكم بن على الذي وصل إلى السلطة في العام 1987، وتبنى في حكمه أسلوبا قائماً على قتل السياسة لقاء التبشير بالتنمية الاقتصادية، ورفع المستوى المعيشي للمواطن، أي تبني معادلة التنمية من دون ديمقراطية.

اليوم وبعد عقد من التحول الديمقراطي، لا يزال مسار تونس غير مؤكد، وتبدو التجربة التونسية أشد تعقيداً مما كان عليه الوضع أيام حكم بن على، فالأصوات الغاضبة لا تزال تتردد في شوارع تونس، والصراعات بين الرئاسيات الثلاثة في تونس- الرئاسة والبرلمان والحكومة-، أصبحت أكثر تعقيداً مع اتجاه الرئيس سعيد في 25 يوليو نحو إقالة الحكومة وتجميد البرلمان ثم الإعلان الرئاسي في 20 سبتمبر الماضي عن أن العمل بالتدابير الاستثنائية المعلنة في 25 يوليو سيستمر لحين وضع قوانين انتقالية وتعديل القانون الانتخابي.

على صعيد متصل تزايدت تحديات المسار الديمقراطي في تونس، في ظل تزايد ضغوط المعارضة لتدابير 25 يوليو، والتمديد لها، فقد وصف رئيس حزب النهضة الإسلامي راشد الغنوشي قرارات الرئيس قيس سعيّد بمواصلة تجميد أعمال البرلمان وتعليق بنود في الدستور لتعزيز صلاحياته بأنها "انقلاب كامل الأركان ضد الديمقراطية" داعيا إلى "النضال السلمي" ضد "الحكم الفردي المطلق الذي قامت الثورة ضده". كما أعلنت بعض الأحزاب "تحالفا ديمقراطيا" من أجل مواجهة ما أسمته "انقلاب قيس سعيّد". ومن جهته حذر الاتحاد التونسي للشغل رغم عدم معارضته قرارات 25 يوليو، من مخاطر حصر السلطات في يد الرئيس، وقال إن "احتكاره لتعديل الدستور والقانون الانتخابي يمثل خطرا على الديمقراطية".

وبالرغم من محاولات القوى السياسية التونسية طوال السنوات التي خلت للتوافق، وبناء نموذج ديمقراطي، إلا أن ثمة مجموعة من التحديات والمتغيرات متعددة الجوانب والمجالات تجعل عملية الإصلاح السياسي، وتجذير الديمقراطية في البلاد مهمة عسيرة، وهو ما يمكن تناولها على النحو التالي:

1-  تعقيدات النظام السياسي: تمت صياغة النظام السياسي التونسي الحالي وفقا للدستور الذي اقره وصادق عليه المجلس الوطني التأسيسي في 26 يناير 2014، وذلك بعد انتهاء العمل بالدستور المؤقت الذي جاء بعد ثورة 2011. وشهدت جلسة المصادقة على الدستور العديد من المظاهر الاحتفالية، أهمها حضور شخصيات دولية كرؤساء مجالس النواب العربية والعالمية وسفراء البلدان الأجنبية في تونس وممثلي المنظمات الدولية العالمية. كما تعددت التصريحات الرسمية التي احتفت بالدستور، وفي الصدارة منها تصريح رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي الذي وصفه بأنه "دستور تاريخي توافقي سيشهد له العالم".

لكن رغم ذلك، يمكن النظر إلى الأزمة التونسية الراهنة على أنها أزمة سياسية/دستورية في المقام الأول، فدستور 2014 برغم أنه هو الثالث في تاريخ تونس المعاصر بعد دستوري 1861، و1959. وعلى الرغم من كونه أيضًا نتاجًا للثورة التونسية، إلا أن جملةً من الإشكاليات ذات الصلة بصلاحيات الرئيس نتجت عن هذا الدستور، أصابت النظام السياسي بالشلل، أولها: يرتبط بغياب الوضوح في طبيعة واختصاصات هياكل السلطة السياسية في دستور 2014، حيث أن ما تم  التنصيص عليه في دستور 2014  بخصوص تنظيم السلطات كان ينقصه الوضوح لدرجة عدم قدرة بعض الخبراء على تحديد نوع نظام الحكم في تونس، أو بتعبير الدكتور قيس سعيد أستاذ القانون الدستوري آنذاك، "الصحن التونسي الذى يأخذ من كل شيء بطرف "، وأضاف سعيد بعد إقرار الدستور، وقبل أن يكون رئيساً، "أن الأطراف السياسية لم تعمل على إقامة توازنات جدية بقدر محاولتها "إقرار" صلاحيات معينة حسب ما يتوافق مع رؤاها السياسية وقد انتهت هذه المحاولات بإضافة بعض الصلاحيات لرئيس الجمهورية ليبقى مركز الثقل الحقيقي بيد الحكومة". وتابع سعيد أنه يمكن اعتبار هذا النظام " نظاما مزدوجا " ولكن ليس مزدوجا بالمعنى التقليدي نظرا لأن حقيقة السلطة تبقى بيد البرلمان، ورئيس الحكومة مما يجعله نظاما مزدوجا أقرب للنظام البرلماني، أو هو أساسا نظام برلماني أُدخلت عليه بعض التعديلات التي جاءت إثر صراعات سياسية بين مكونات المجلس التأسيسي. وتعود الإشكالية الثانية، إلى ضعف صلاحيات الرئيس، حيث نجحت مناورات حركة النهضة خلال إعداد دستور 2014 في تقليص صلاحيات موقع الرئاسة، وذلك من خلال تقديم تنازلات في المسائل الأيديولوجية الدينية، منها على سبيل المثال التنازل عن إدراج الشريعة في الدستور، مقابل التمسك بتقليص صلاحيات الرئيس في الدستور للحيلولة دون تكرار تجربة الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي.

وبحسب الدستور التونسي تنحصر صلاحيات رئيس الجمهورية وفقاً للفصل 77 من الباب الرابع، في: تمثيل الجمهورية، وضبط السياسات العامة في مجال الدفاع والعلاقات الخارجية والأمن القومي بعد استشارة رئيس الحكومة. في المقابل منح الدستور التونسي صلاحيات أكبر لرئيس الحكومة على حساب المنصب الرئاسي.

ويلاحظ مما سبق، اقتصار صلاحيات رئيس الجمهورية في مجالي السياسة الخارجية والدفاع مقابل ضعف الصلاحيات الممنوحة له في إدارة السياسات العامة الداخلية لمصلحة الحكومة. في هذا السياق، فإن نصوص دستور 2014 وفرت بيئة خصبة لشتل بذور الصدام والشقاق بين مكونات السلطة التونسية. أما الإشكالية الثالثة، فترتبط باستمرار تنامي مساحات الخلاف بين مكونات السلطة التونسية طوال العاميين الماضيين، فبينما تجاوز رئيس البرلمان آنذاك راشد الغنوشي صلاحيات الرئيس سعيِّد فيما يتعلق بملف السياسة الخارجية، وعلاقة تونس بدول الجوار والقوى الإقليمية والدولية، تفاقم التباين بين الأخير ورئيس الحكومة هشام المشيشي قبل إقالته في 25 يوليو 2021 في أكثر من مناسبة، وكان أبرزها انتقاد سعيٍّد لاختيارات المشيشي لبعض المستشارين المنتمين إلى عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، والمتورطين في بعض قضايا الفساد المالي والإداري. كما دخل الرئيس التونسي في يناير 2021 معركة كسر عظم مع رئيس البرلمان قبل تجميده، ورئيس الحكومة السابق هشام المشيشي على خلفية معارضة الأول التعديلات الوزارية التي أجراها المشيشي على حكومته آنذاك،  فقد أعلن الرئيس التونسي في اجتماعه مع مجلس الأمن القومي رفضه التعديل الوزاري، مشيرا إلى أنه لن يقبل بأن يؤدي وزراء تحيط بهم شبهات فساد القسم الدستوري أمامه، كما وصف التعديل بــ "غير الدستوري"، خاصة وأن الفصل 89 من الدستور التونسي ينص على  أن "يؤدي رئيس الحكومة، وأعضاؤها اليمين الدستورية أمام رئيس الجمهورية، كشرط أساسي لمباشرة عملهم، بعد نيلهم ثقة البرلمان.

على صعيد ذي شأن، فقد دخلت العلاقة بين الرئاسيات الثلاثة في أبريل 2021 مناخ الشحن، على خلفية إعلان الرئيس التونسي خلال الاحتفال بعيد قوات الأمن الداخلي، في 18 أبريل 2021، نفسه قائدًا أعلى للقوات المسلحة المدنية (الشرطة، والحرس الوطني، والجمارك)، إضافة إلى صفته الدستورية قائدًا أعلى للقوات المسلحة العسكرية. وتزامن هذا الإعلان مع استعمال الرئيس قيس سعيد في 5 أبريل 2021 لأول مرة منذ ثورة 2011 حق النقض، في رفض التصديق على مشروع قانون المحكمة الدستورية الذي مرره البرلمان بالإجماع في 25 مارس 2021 لوجود خرق للدستور، بعد أن تجاوز المجلس المدة الدستورية لإنجاز هذه الخطوة، وأكد الرئيس سعيد بأنه لن يقبل "محكمة على المقاس.

2-  حدود تأثير آليات العدالة الانتقالية: كان للنجاحات غير الملموسة لآليات العدالة الانتقالية التي تأسست في تونس بعد العام 2011 تأثير عميق على مستويات متباينة فيما يخص عملية الإصلاح السياسي، ومسارات النظام الديمقراطي وممارسته، وظهر ذلك على سبيل المثال في ممارسات "هيئة الحقيقة والكرامة" التي تأسست في 23 ديسمبر 2013، وأدى أعضائها يوم 6 يونيو 2014 بقصر قرطاج اليمين الدستورية أمام الرئيس السابق المنصف المرزوقي، للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان التي شهدتها البلاد في عهد النظام القديم. حيث تم تقويض هذه الهيئة في ديسمبر عام 2018، بعد صدور قانون مثير للجدل في العام 2017 يمنح العفو لكبار المسئولين في عهد بن علي المتهمين بالفساد. كما كان للشبكات الاقتصادية، واستمرار احتكار الموالين لنظام بن على ملكية وسائل الإعلام تأثير مماثل على إعاقة عملية التطور الديمقراطي في البلاد.

3-  تردي الأداء الاقتصادي: مثّل المحدد الاقتصادي أحد تحديات بناء العملية الديمقراطية في تونس، حيث لا تزال البلاد تعاني من تردي الاقتصاد، وضعف نسبة النمو منذ عام 2013.وانكمش الناتج المحلي الإجمالي بنحو 0.15 في المئة، ولم يتجاوز النمو حاجز الـ 1.5 في المئة خلال الفترة من 2017 وحتى 2019، قبل أن يسجل انكماشا بنحو 9 في المئة خلال العام 2020. كذلك ارتفعت معدلات البطالة الرسمية من 12 في المئة قبل عام 2010، إلى 18 في المئة بالربع الأخير من 2020. وبحسب استطلاعات نبض الأعمال تشير إلى أن ما يقرب من ربع الشركات الرسمية (23.6٪)، وخاصة في قطاع الخدمات، قد أغلقت إما مؤقتًا أو نهائيًا بحلول نهاية عام 2020.

 ووصلت الأوضاع الاقتصادية تدهوراً غير مسبوق في الفترة الماضية، ومن أبرز مؤشرات ذلك عدم توافر السيولة التي كانت تلزم لتسديد ديون سيادية مستحقة أواخر شهر يوليو 2021، حيث كان يتوجب على الحكومة سداد قرضين تبلغ قيمة كل منهما 500 مليون دولار، أحدهما في 24 يوليو، والثاني في 5 أغسطس من العام 2021. كما أخفقت الحكومة التونسية في إحراز أي تقدم ملموس في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 4 مليارات دولار، وفي ظل الأوضاع الاقتصادية المتأزمة واجهت البلاد خطر العجز عن سداد الديون الخارجية، وتراجع التصنيف الائتماني للبلاد، في ظل غياب برنامج إصلاح اقتصادي جنباً إلى جنب تراجع إيرادات القطاعات الاقتصادية المهمة مثل السياحة بسبب تداعيات أزمة كورونا.

4-  مساعي النهضة لتثبيت الهيمنة: حققت حركة النهضة في أول انتخابات بعد ثورة 2011 انتصاراً تاريخياً بـ 89 مقعداً من مجموع 217 مقعدا في المجلس التأسيسي، وبعدد أصوات بلغ مليون ونصف المليون. أكدت النهضة عشية هذا الفوز على احترامها حالة التنوع الثقافي والأيديولوجي الذي يميز المجتمع التونسي، كما حرصت على الإشارة إلى أنها تمثل تيار سياسي لا يحمل وصاية كهنوتية، أو هي ممثلاً للإسلام.

لكن بعد أن تمرست حركة النهضة فى السلطة، نجحت في بناء شبكات واسعة من النفوذ، وشبكات قائمة على المصالح، والامتيازات إضافة إلى ممارسات مستترة لمقاومة مشاريع الإصلاح التي استهدفت بناء دولة حديثة. وسعت حركة النهضة بعد سيطرتها على البرلمان، وحيازة الأغلبية في برلمان 2019 بمشاركة حليفها الأبرز "قلب تونس" إلى تعزيز هيمنتها على المشهد التونسي، وبسط سيادتها على هياكل الدولة ومؤسساتها، وظهر ذلك في محاولة تشويه التيارات السياسية المناهضة للحركة، وبخاصة الحزب الدستوري الحر الذي تقوده عبير الموسى.

وحصلت النهضة على 54 مقعداً من أصل 217، بينما حصد حليفها حزب قلب تونس (38 مقعداً)، ليهيمنا على الأغلبية بمجموع 92 مقعداً، ثم التيار الديمقراطي الاجتماعي (22 مقعداً)، يليه ائتلاف الكرامة (21 مقعداً)، ثم الحزب الدستوري الحر (16 مقعداً)، وتحيا تونس (14 مقعداً)، ثم حصلت باقي القوى على ما بين مقعد و4 مقاعد بما فيها حزب نداء تونس الذي أسسه الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي.

لم تقتصر استفزازات النهضة على ما سبق، حيث تحركت في أبريل 2021 لإدخال تعديلات على القانون الانتخابي، تتضمن تقليص صلاحيات الرئيس فيما يخص الدعوة إلى الانتخابات أو الاستفتاء. كما تضمن المقترح تحويل صلاحية الدعوة للانتخابات أو للاستفتاء، من رئيس الجمهورية إلى رئيس الحكومة، وهو تحول يقضي على ما تبقى من الصلاحيات المحدودة لرئيس الجمهورية، ويعني عملياً التحول نحو النظام البرلماني رغم أن رئيس الجمهورية منتخب مباشرة من الشعب، بما يعني أنه يجب أن يتمتع بصلاحيات مستقرة كما في النظم الرئاسية. وراهنت حركة النهضة من خلال هذه الخطوة على تجريد سعيّد من إمكانية الدعوة إلى انتخابات مبكرة، في ظل تواصل الأزمة السياسية بين مكونات السلطة الناتجة عن انتخابات 2019..

في هذا السياق، ومع تصاعد انعكاسات ممارسات النهضة على عملية الإصلاح السياسي، والتطور الديمقراطي الذي تشهده البلاد، تصاعدت حالة الرفض الشعبي لسلوكيات الحركة، خرجت الاحتجاجات المناهضة للنهضة فضلاً عن خلق حالة تعبئة عامة في الرأي العام رافضة لتوجهات الحركة، وقد برز ذلك بشكل كبير في الشعارات المختلفة التي تضمنتها الاحتجاجات الداعية إلى إسقاط النهضة والمطالبة بإسقاط الحكومة ورحيل راشد الغنوشي.

5-  تصاعد حدة الاستقطاب البرلماني: كان الاستقطاب هو العنوان الأبرز بين القوى السياسية الممثلة في البرلمان التونسي، وتجلى ذلك في استمرار الخلافات بين الأحزاب العلمانية والمدنية، وعلى رأسهم الحزب الدستوري الحر، والأحزاب ذات التوجهات الإسلامية بزعامة حركة النهضة وائتلاف الكرامة.

ملامح الاستقطاب الحاد ظهرت في جلسة البرلمان التي عُقدت في 30 يونيو 2021، حيث قام النائب الصحبي سمارة المحسوب على "ائتلاف الكرامة"، بالاعتداء بالضرب على رئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي. وكانت الجلسة مخصصة لمناقشة عدة قضايا منها اتفاقية الحكومة مع صندوق التنمية القطري من أجل افتتاح فرع للأخير في البلاد. كما ظلت الخلافات داخل البرلمان التونسي على أشدها، خاصة مع استمرار دعوات الأحزاب السياسية العلمانية- قبل إجراءات 25 يوليو-  لإنهاء ما وصفوه بهيمنة حركة النهضة على البرلمان، وذلك انطلاقاً من أن حل الأزمة السياسية الراهنة يكمن في إنهاء تبعية حكومة المشيشي للبرلمان الذي كان يرأسه آنذاك الأمين العام لحركة النهضة راشد الغنوشي.

ثانيا: أزمة الانتقال السياسي: مسارات محتملة

تبدو العملية الديمقراطية في تونس على ضوء التحديات التي تواجهها خلال المرحلة الحالية، مفتوحة على عدة مسارات متنوعة، والتي يمكن توقعها، وبيانها على النحو التالي:

المسار الأول: إعادة تشكيل خارطة النظام السياسي وتعزيز موقع الرئاسة: تتراكم جملة مؤشرات توحي بأنّ الأزمة السياسية التي تمر بها تونس قد تكون لها انعكاساتها على طبيعة وشكل النظام السياسي التونسي، ويكشف عن ذلك دعوة الرئيس قيس سعيد في 26 سبتمبر 2021 إلى ضرورة تأسيس نظام ديمقراطي حقيقي يكون فيه الشعب بالفعل هو صاحب السيادة ومصدر السلطات ويمارس السلطة بواسطة نواب منتخبين أو عبر الاستفتاء.

بالتوازي مع ذلك، أطلق الرئيس قيس سعيد في 21 أكتوبر 2021 الدعوة لإجراء "حوار وطني افتراضي" يقتصر على مشاركة الشباب عبر المنصات الافتراضية لعرض الأفكار والتصورات حول النظام السياسي والانتخابي. كما أكد الرئيس التونسي في 18 نوفمبر 2021 على إنه يعمل على وضع جدول زمني لإصلاح النظام السياسي، وبناء نظام يقوم على أساس الفصل بين السلطات والتوازن الفعلي بينها، وذلك من خلال إدخال تعديلات على البنية الدستورية.

غير أن رغبة الرئيس التونسي، ودعوته لإصلاح النظام السياسي تواجه عدة تحديات، منها معارضة قوى سياسية، وبالذات حركة النهضة الطرح الرئاسي بشأن إصلاح النظام السياسي بسبب استبعاد الأحزاب ناهيك اتجاه المعارضة السياسية إلى الاستمرار في توظيف الشارع لحسم المشهد، وتجلى ذلك في دعوة الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي في مطلع فبراير الحالي إلى ثورة ضد الرئيس قيس سعيد، كما دعت حركة "مواطنون ضد الانقلاب" للاستمرار في التظاهرات المضادة للنظام.

المسار الثاني: الاستجابة النوعية للضغوط المحلية الخارجية: يرتبط هذا السيناريو باستقرار الأوضاع الداخلية، ونهاية الاحتجاجات التي تشهدها بعض المناطق التونسية، حيث شهدت شوارع عدد من الولايات التونسية طوال الشهور التي خلت خروج المواطنين للتظاهر والاشتباك مع قوات الأمن التونسية، . كما يظل هذا السيناريو مرتبط بإمكانية استجابة الرئيس قيس سعيد، وحكومة نجلاء بودن للضغوط الدولية، وأخرها انتقاد منظمة العفو الدولية في 8 فبراير الحالي تجميد الرئيس التونسي قيس سعيّد أعمال المجلس الأعلى للقضاء والتحركات التي يقوم بها لحله، معتبرة أنها تهدد استقلال القضاء. وسبق هذا الانتقاد إعراب المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس في 7 فبراير الحالي عن قلق بلاده الشديد من قرار الرئيس التونسي قيس سعيّد حل المجلس الأعلى للقضاء وما تم تداوله عن منع الموظفين من دخول المبنى، وكرر طلب بلاده إجراء إصلاح سياسي سريع في تونس.

ويعزز هذا المسار عدة متغيرات أولها: سئم قطاعات واسعة من المواطنين داخل المجتمع التونسي من استمرار الإجراءات الاستثنائية التي لا تزال مطبقة في البلاد منذ يوليو الماضي ناهيك عن تغير المواقف لدى أحزاب كانت تدعم الإجراءات الاستثنائية التي أقدم عليها في الخامس والعشرين من يوليو 2021، مثل الحزب الدستوري الحر الذي ترأسه عبير موسي، وقبله حركة الشعب والتيار الديمقراطي، وكلها تراجعت عن موقفها ووجهت انتقادات بدرجات متفاوتة إلى الرئيس قيس سعيد.  وثانيها: رهن عدد واسع من القوى الإقليمية والدولية استمرار دعمها للحكومة التي عينها الرئيس قيس سعيد في سبتمبر الماضي بقدرتها على التعامل مع التحديات الاقتصادية والصحية والاجتماعية الكبيرة التي تواجهها. وثالثها: يرتبط بتصاعد مخاوف أنصار الرئيس سعيد من حدوث تغيير في المواقف الدولية تجاه حزمة قرارات 25 يوليو، فقد دعا البرلمان الأوروبي في 21 أكتوبر 2021 إلى احترام الحقوق والحريات في تونس، والتأكيد على إن مؤسسات الدولة في تونس يجب أن تعود إلى العمل بشكل طبيعي، كما حث البرلمان الأوروبي السلطات التونسية على حوار وطني شامل.

المسار الثالث دخول البلاد مرحلة الفوضى: بعد مرور نحو عامين على التجاذبات السياسية بين القوى السياسية في تونس، وعدة أشهر على حزمة القرارات الاستثنائية في 25 يوليو، تقف الإصلاحات السياسية في تونس على المحك. كما أن الأزمة السياسية تبدو مرشحة للدخول في مرحلة الفوضى، خاصة مع استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية، وسوء الأحوال المعيشية، وانهيار قيمة العملة التونسية.

المسار الرابع: تدخّل الجيش، وحلّ المؤسّسات المنتَخَبة: يبقى هذا السيناريو مطروحاً إن استمرّت حالة التّجاذب، أو دخلت البلاد مرحلة الفوضى، أو إعادة إنتاج مشاهد الاغتيال السياسي التي شهدتها البلاد في العام 2013، أو تصاعَدَ العنف السِّياسي، على نحوٍ يحيل إلى سيناريو قريب من السّيناريو الجزائري. ويعني هذا الخيار عمليًّا مواجهةً مفتوحةً مع "حركة النّهضة" والأطراف الداعمة لها، وكذلك تحييد مؤسسة الرئاسة وتقليص دورها.

لكن تبقى نسبة احتمال هذا الخيار ضعيفةً، فتونس برغم تفاقم حالة الاستقطاب السياسي بين نخب الحكم إلا أنها تميزت بعامل ارتكاز الحياة السياسية على النخبة المدنية مقابل دور محدود للجيش في الحياة السياسية التونسية منذ الاستقلال في العام 1956.

ختاماً: يمكن القول أن بنية النظام السياسي في تونس تقف حجر عثرة أمام تجذير الانتقال الديمقراطي في تونس، إلا أن ثمة تحديات سياسية واقتصادية واجتماعية تدفع نحو استمرار معضلة عدم الاستقرار في البلاد، وتفتح الباب أمام العديد من المسارات التي قد تشهدها تونس في المرحلة المقبلة.

 


الأزمة السياسية في تونس: تحديات راسخة.. ومسارات قلقة
الأزمة السياسية في تونس: تحديات راسخة.. ومسارات قلقة