العراق والوقود امال بالاكتفاء وطموح بالتصدير
هاشم الحسيني
مقدمة
يعد العراق من أوائل البلدان التي تم فيها اكتشاف الموارد الهيدروكربونية (نفط وغاز) وبكميات تجارية حيث تم في العام 1927 اول تدفق للنفط من بئر بابا كركر في حقل كركوك وهو من الحقول العملاقة في شمال العراق وما زال مستمر بالإنتاج لحد الان أي ما يقارب القرن من الزمن.
وبعدها توالت الاكتشافات للحقول الأخرى في شمال وجنوب العراق لتضعه في مقدمة البلدان النفطية حيث بلغت احتياطاته النفطية اكثر من 145 مليار برميل محتلا المركز الرابع عالميا والغازية 131 تريليون قدم مكعب ليأتي في المركز 11 عالميا وعلى الرغم من ذلك فقد عانى العراق من أزمات وحروب بددت هذه الثروة وافقدته القدرة على الاستفادة منها في تحقيق الاكتفاء الذاتي وسد حاجته المحلية من الوقود بسبب عدم اكمال البنى التحتية المرتبطة بالصناعة النفطية او في بعض الحروب تدمير تلك المنشئات كما حصل في حربي الخليج الأولى والثانية , وهذا الامر جعل العراق متأخرا بأشواط عن نظراءه من البلدان, فمما يثير الاستغراب ان العراق ثاني اكبر المصدرين في أوبك يستورد مشتقات نفطية ووقود غاز بمليارات الدولارات سنويا بسبب نقص البنى التحتية والمنشآت التحويلية او بتقادم تلك المنشآت التي مر عليها اكثر من ضعف عمرها التشغيلي
كما يفتقر العراق لمشاريع استثمار الغاز المصاحب حيث يعد العراق ثاني أكبر بلد حرقا لهذا الثروة بعد روسيا والبلد الوحيد على مستوى العالم يحرق الغاز في حقوله النفطية ويستورد الغاز لسد حاجته المحلية المتمثلة في استخدامه كوقود لمحطات توليد الطاقة الكهربائي
تطور الصناعة النفطية العراقية
تنقسم الصناعة النفطية الى قسمين أساسيين هما: الصناعة الاستخراجية والصناعة التحويلية، وتعنى الاستخراجية بكافة العمليات والأنشطة التي تهدف الى استخراج النفط من المكامن النفطية، واما الصناعة التحويلية فهي التي يتم فيها معالجة وتحويل النفط من مادة اولية الى مواد ومشتقات نفطية يتم استخدامها في الصناعات الأخرى وبدورها تنقسم الصناعة التحويلية الى عدة اقسام منها التصفية والتكرير والصناعات البتروكيمياوية وغيرها
شهدت الصناعة الاستخراجية العراقية دورات ازدهار تليها فترات تقهقر وتراجع وان هذه الفترات لها اسبابها فهي مرتبطة بصورة أساسية اما بالحروب كما ذكرنا سابقا او بحالة السوق العالمية حيث مر بثلاث دورات تقدم وتراجع منذ 1973-2017 اذ حدث اول انهيار في 1980 بعد وصول انتاج النفط الى رقم قياسي حيث بلغ 3.75 مليون برميل وبعدها انهار الى ما يقارب 500 الف برميل بسبب الحرب العراقية الإيرانية وبعد تعافي الإنتاج واستعادة الكميات حيث وصل قرابة ال3.5 مليون برميل عام 1991 لينهار الى شبه توقف بسبب اجتياح الكويت وحرب الخليج وبعدها بدأ التعافي التدريجي بصورة بطيئة جدا بسبب الحصار الاقتصادي على العراق لينتعش قليلا بعد برنامج النفط مقابل الغذاء وحتى عام 2003 حيث وصل الإنتاج الى ما يقارب المليونين برميل ثم انهار بسبب حرب التحرير ليبدأ بعدها مرحلة التعافي والخطط الطموحة جدا لتوفير السيولة المالية لإعادة الاعمار حيث خطط العراق للوصول الى 12 مليون برميل بحلول 2012 ولكن هذا الهدف هو هدف مجنون لعدة اعتبارات لا نريد الخوض بها
ان هذا المسار التاريخي لصناعة النفط الاستخراجية رافقه نفس المسار بالنسبة للصناعة التحويلية وربما بصورة أكبر من النكبات حيث عانت البنى التحتية من نقص كبير واستهداف مستمر لمنشأت التصفية والتكرير في كل مرة مما جعل العراق يعاني من أزمات وقود على الرغم من انتاجه الكبير فهو اليوم يستورد المشتقات النفطية مقابل تلكؤ وتباطؤ في اكمال المشاريع التصفية وعدم اكتمالها في مواعيدها المقررة كما في مصفاة كربلاء والتي من المقرر ان تدخل حيز الإنتاج في 2018 ولكنها الى اليوم لم تبدأ الإنتاج الفعلي
الصناعة النفطية التحويلية
تشمل هذه الصناعة عمليات تحويل النفط من المادة الخام الى المشتقات النفطية او المواد الأخرى المستخرجة من النفط وهي صناعة واسعة ومتعددة ولكن سنقتصر في حديثنا هنا عن جزء بسيط منها وهو عمليات تكرير النفط او المصافي.
يمتلك العراق ثلاث شركات عامة للمصافي هي شركة مصافي الجنوب وتمتلك 3 مصافي نفطية هي الشعيبة، مسيان، ذي قار ومصفاة قيد الانشاء هي مصفاة الفاو بطاقة تكريرية كلية تقارب 570 ألف برميل يوميا، وشركة مصافي الوسط وتتألف من 4 مصافي هي الدورة، النجف، السماوة والديوانية وثلاثة قيد الانشاء هي مصفاة كربلاء الانبار والكوت وطاقتها التكريرية مجتمعة 610 ألف برميل وشركة مصافي الشمال والتي تمتلك 6 مصافي هي بيجي كركوك الكسك الصينية حديثة والقيارة بقدرة تكريرية كلية تصل الى 400 ألف برميل يوميا. اهم خسائر العراق التي تكبدها في مجال صناعة التكرير هي خسارته لمصفاة بيجي الواقعة في محافظة صلاح الدين خلال احداث 2014 حيث كانت هذه المصفاة هي الأكبر من حيث الطاقة الإنتاجية والتي تغطي ما يقارب 20% من حاجة العراق للوقود. ان القدرة الإنتاجية للمصافي أعلاه في قدرتها القصوى تبلغ 1.7 مليون برميل/يوم ولكن التكرير الفعلي لا يتجاوز 700 ألف برميل/يوم بسبب خروج مصفاة بيجي ذات الإنتاج الكبير (قرابة 310 ألف برميل يوميا) عن الخدمة عام 2014 ووجود بعض المصافي قيد الانشاء وبعضها لا تعمل بطاقتها القصوى لأسباب تتعلق بتقادم تلك المصافي وأسباب تقنية أخرى. حسب المخطط فان مصفاة كربلاء ذات الطاقة التكريرية 140 ألف برميل يوميا ستدخل العمل الفعلي نهاية العام الحالي كما ان عودة مصفاة بيجي الى قدرتها الإنتاجية 310 الف برميل/يوم والتي من المقرر ان تتم العودة التدريجية بعد اصلاح الوحدات الأساسية في هذه المصفاة وان بقية المصافي قيد الانشاء مثل مصفاة الفاو التي تم توقيع العقد على انشائها مع الجانب الصيني العام الماضي والتي من المقرر اكمال المشروع عام 2025 والتي تعد من اكبر المصافي بطاقة تكريرية 300 الف برميل/ يوم. أيضا المصافي التي بحاجة الى الصيانة او استبدال الوحدات المتهالكة والخارجة عن الخدمة بسبب التقادم او الاضرار الحربية هي الأخرى التي سترفد عملية التكرير بما يحتاجه السوق من المنتجات والتي تساهم في الاستغناء التدريجي عن الاستيراد. تقدر إيرادات المشتقات النفطية في الداخل بحدود 5.3 مليارات دولار، لكن هذه الإيرادات لا تستثمر محلياً وإنما تُنفق مرة أخرى في استيراد مشتقات نفطية غير متوفرة محلياً.
صناعة الغاز
يمتلك العراق احتياطات غازية كبيرة تضعه في المرتبة الحادية عشرة في تسلسل الدول باحتياطي يقدر حوالي 131 تريليون قدم مكعب قياسي موزعة على ثلاثة أنواع وهي حقول الغاز الحر والغاز المصاحب وغاز القبة حيث يمثل النوع الأول الغاز الموجود بصورة حرة في حقول غازية منفردة ومستقلة عن الحقول والمكامن النفطية اما النوع الثاني فهو الغاز المصاحب للنفط ويوجد بصورة ذائبة في النفط في المكامن تحت الضغوط العالية ويتحرر بمجرد زوال الضغط عند الإنتاج اما النوع الثالث فهو الغاز الموجود على شكل قبة غازية فوق المكامن النفطية.
ان الغالبية العظمى من الاحتياطي المؤكد من الغاز هو من النوع المصاحب حيث يمثل هذا النوع ما نسبته 71% من احتياطات العراق من الغاز ويتواجد بصورة رئيسية في المكامن النفطية في جنوب العراق يليه الغاز الحر بحوالي 20% اما غاز القبة فهو الأقل ويمثل قرابة 9% من الاحتياطات المؤكدة
ترتبط صناعة الغاز ارتباط وثيق مع الصناعة الاستخراجية النفطية كون الاحتياطات الغازية العراقية من الغاز المصاحب وهو غاز مرتبط بالنفط ويخرج بطريقة الإنتاج العرضي لعمليات استخراج النفط فلا طريقة لخزنه او الاستفادة منه الا بعزله واستثماره او حرقه وهو ما لا يتم حاليا حيث تهدر هذه الثروة بسبب نقص مشاريع والاهتمام بعمليات استخراج النفط على حساب استثمار الغاز المصاحب.
ويوجد في العراق عشرة حقول للغاز الحر خمسة منها تقع في شرق وشمال ـشرق العراق وهي : حقول كور مور، چمچمال، خشم الأحمر، جريا يكا والمنصورية وتحتوي فيما بينها على حوالي 11 تريليون قدم مكعب (نحو 300 مليار متر مكعب) كاحتياطي ثابت. ويحتوي كل من حقل سيبة (30 كيلومتر جنوب البصرة) وحقل عكّاز (في الصحراء الغربية قرب الحدود السورية) على ما يزيد قليلاً على تريليوني قدم مكعب (نحو 100 مليار متر مكعب) من الاحتياطي الثابت لكل منهما اما النوع الثالث وهو الغاز القبة الذي يغطي المكامن النفطية فهو النوع الأقل أهمية بسبب كونه أداة الدفع الطبيعي لإنتاج النفط ولا يمكن انتاجه الا في المراحل النهائية للحقول النفطية حيث يستنفذ النفط ويتم الاستغناء عن هذا الغاز كرافع للنفط
تعد صناعة الغاز من الصناعات المهمة والتي لا تقل أهمية عن الصناعات النفطية فهي العنصر الأساسي وحجر الزاوية في عملية التحول من الوقود الاحفوري الى الوقود النظيف او الطاقة النظيفة حيث يعد الغاز حلقة الوصل في عملية الانتقال فهو المادة الهيدروكربونية ذات الانبعاث الغازي القليل والتلويث القليل بالمقارنة مع بقية أنواع الوقود الاحفوري.
الحاجة المحلية من الوقود
تنقسم حاجة العراق من الوقود الى الاحتياجات التالية: مشتقات نفطية للاستهلاك المحلي وغاز لمحطات توليد الطاقة الكهربائية
1- الحاجة من المشتقات
ان الطاقة التكريرية الفعلية لمصافي العراق تقدر بحوالي 700 ألف برميل يوميا بينما الحاجة المحلية اليومية هي بحدود 1.3 مليون برميل أي هناك فجوة تقدر ب 600 ألف برميل وهي تعادل نسبة 40 % يغطيها الاستيراد
ان استيراد العراق اغلبه من وقود الجازولين بنوعيه قليل وعالي الاوكتان والذي يدعى تجاريا بالبنزين العادي والمحسن وهو المنتج الخفيف والذي يستخدم كوقود للسيارات حيث استورد العراق في عام 2021 حسب بيانات شركة تسويق النفط
· كميات زيت الغاز المستوردة بلغت مليون و74 ألف طن أي ما يقارب 7 مليون برميل بقيمة 657 مليونا و442 ألف دولار.
· بلغت كميات الجازولين 3 ملايين و457 ألف طن أي ما يقارب 21 مليون برميل بقيمة مليارين و543 مليونا و620 ألف دولار.
· بلغت كميات النفط الأبيض 163 ألف طن بقيمة 102 مليون و340 ألف دولار.
ان اهم أسباب ارتفاع الحاجة المحلية من الوقود ليس بسبب الصناعات او المعامل ولكن اغلب الوقود المستورد يذهب لتغطية الحاجة اليومية لوسائل النقل الخاص سبب انعدام وسائل النقل العام التي تختصر الكثير من استخدام العجلات الشخصية التي تستهلك الوقود بكميات كبيرة حيث تقدر العجلات الشخصية في بغداد حسب إحصائية مديرية المرور العامة لعام 2021 ما يقارب 2.5 مليون سيارة
تقدر الطاقات التكريرية بحدود 680 ألف برميل يومياً، بينما الحاجة الفعلية تتراوح ما بين 1.100 مليون الى 1.400 مليون برميل يومياً..
2- الحاجة المحلية من الغاز
تنقسم الحاجة المحلية من الغاز الى قسمين هما الغاز السائل والذي يحقق العراق اكتفاء منه كما يصدر كميات كبيرة سنويا بلغت عام 2021 من المكثفات 139 الف طن بقيمة 71 مليون دولار كما ان صادرات العراق من الغاز السائل قدرت ب 456 الف طن بقيمة 288 مليون دولار
اما القسم الاخر فهو الغاز الجاف والذي يستخدم كوقود لمحطات توليد الطاقة الكهربائية والذي يعاني العراق نقصا منه يقدر بحوالي ضعف انتاجه
يمتلك العراق 26 محطة توليد تعمل بالغاز وان الحاجة الفعلية لهذه المحطات مجتمعة تمثل حاجة العراق الكلية للغاز والتي تبلغ 3300 مقمق يوميا، ينتج العراق ما يقارب 3000 مقمق يوميا يحرق ما يقارب 1650 بسبب نقص مشاريع العزل والمعالجة ولو أراد العراق الوصول الى انتاج كهربائي كامل من استخدام الغاز فهذا يعني حاجته الى مضاعفة الكمية المستثمرة
ويستورد العراق الكميات المتبقية والتي تبلغ حوالي 1500 مقمق من إيران وبمبالغ تفوق 5 مليار دولار وفقا لبيانات وزارة النفط العراقية
تحقيق الاكتفاء الذاتي والتحول الى التصدير
يتحقق الاكتفاء الذاتي من الغاز الجاف في حال اكمال مشاريع الغاز التي يجري العمل بها ومن المؤمل اكمالها جميعا في نهاية 2025 هي مشروع استثمار غاز الناصرية بطاقة 200 مقمق يوميا ومشروع استثمار حقل الحلفاية بطاقة 300 مقمق يوميا ومشروع حقل ارطاوي في مراحله الثلاثة بطاقة 600 مقمق يوميا بالإضافة الى مشاريع استثمار الحقول النفطية (الغاز الحر) والتي من أهمها حقول عكاس والمنصورية
اما في حالة المشتقات النفطية فان الاكتفاء منها مرهون بإكمال المصافي قيد الانشاء وإعادة الوحدات المتضررة في مصفاة بيجي وهذه جميعها قد تصل بالإنتاج الى أكثر من الحاجة الفعلية مما يؤدي الى التحول من الاستيراد الى التصدير والذي سيكون رافد قوي لموازنة الدولة وهو ما خططت له الورقة الإصلاحية (الورقة البيضاء) في جزئها الثاني الفقرة 33 الخاصة بإصلاح قطاع التصفية وتنويع صادرات العراق من المشتقات النفطية
مما تقدم يتبين ان تحقيق الاكتفاء الذاتي بل التحول من مستورد الى مصدر للمشتقات النفطية والغاز هي ليست بالمهمة المستحيلة وان العراق يحتاج الى الإرادة السياسية بصورة رئيسية للوصول الى تحقيق اكتفاء ذاتي من الوقود بنوعيه المشتقات النفطية والغاز حيث ان المصافي الحالية والتي هي تحت الانشاء ومشاريع العزل والضغط الخاصة بالغاز المصاحب والتي تعاقدت عليها وزارة النفط لو عملت في طاقتها القصوى لحققت الاكتفاء.
ان الاستغناء عن استيراد المشتقات النفطية والغاز سيوفر قرابة 10 مليار دولار سنويا يمكن استخدامها لإدامة مشاريع التكرير ومشاريع الغاز واضافة مشاريع ووحدات جديدة والتوسع في هذه المشاريع يساهم في تنويع العراق لصادراته التي تعاني من احاديتها