الاعتداء التركي على العراق والموقف الرسمي والشعبي
الاستاذ المساعد الدكتور مصطفى ابراهيم سلمان الشمري مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية / جامعة بغداد
اولاً- موقف القوات التركية ووجودها في العراق:
تعد مسألة وجود القوات التركية في العراق حقيقة واقعة، وبحسب معلومات موثقة صادرة من دائرة الاتصال في الرئاسة التركية، وايدتها حكومة اقليم كردستان العراق فان هذه القوات تتمركز بحدود (37) قاعدة ونقطة ارتكاز، وتنتشر في المناطق الحدودية لكردستان العراق، وايضاً في أربيل ودهوك وزاخو وسوران لغاية العام 2020، ويأتي هذا الوجود لمحاربة حزب العمال الكردستاني، علما ان تركيا سعت من اجل تأمين قواتها العسكرية الى التنسيق مع قوات الحدود الايرانية والعراقية وتجنبا لاي صدام مع قوات هذين البلدين .
وعلى الرغم ان التدخل العسكري في شمال العراق يعود الى تسعينات القرن الماضي، إلا انه اكتسب تحولا مهما منذ العام 2018، لاسيما وانه ارتبط بتوسع عمليات تركيا العسكرية في سورية وليبيا، ومن جهة أخرى سعيها لتأمين امدادات النفط العراقية الى تركيا، وحماية خط انابيب النفط الممتد من كركوك الى ميناء جيهان .
فضلاً عن ذلك ان الحرب الروسية – الاوكرانية، وما نجم عنها من عقوبات غربية ضد روسيا بمنع استيراد الغاز الروسي قد زاد من اهمية اقليم كردستان العراق في المدرك الاستراتيجي التركي التي قد يجعل منها بديل محتمل عن امدادات الغاز الروسي الى تركيا او حتى الى اوروبا في وقت لاحق، وبذلك فان تركيا تسعى الى استثمار القرب الجغرافي بجعل اراضيها ممراً لنقل الغاز العراقي الى اوروبا، لاسيما وان الحدود الفاصلة بين محافظة دهوك وتركيا هي (35) كم، علما ان هناك اتفاق تعاون في مجال الطاقة موقع بين تركيا وحكومة اقليم كردستان العراق في العام 2013 تمكنت تركيا بواسطته من اكمال خط الأنابيب الذي يربط حدودها مع شمال العراق بقناة تنقل الغاز الأذربيجاني إلى أوروبا . وعلى الرغم ان المحكمة الاتحادية العراقية العليا الغت قانون النفط والغاز في كردستان العراق في 15 شباط 2022. لكن واقع الحال يؤكد بان هذه المشاريع مستمرة في الانجاز والتطور.
ومن الجدير بالذكر انه على الرغم ان الحكومة العراقية تتفق مع تركيا على مواجهة حزب العمال الكردستاني، غير ان ذلك لم يمنع الحكومة العراقية بين الفترة والاخرى من اصدار بيانات تندد بالتدخل العسكري التركي وبعملياته ضد المدن العراقية في الشمال.
ولابد من الاشارة ايضاً ان تركيا تستغل في هذا الوقت قوتها العسكرية المتطورة وعضويتها في حلف شمال الاطلسي (الناتو) يقابله ضعف القدرات العسكرية العراقية، علما ان هذا الضعف لا يقتصر على الجانب العسكري فقط فالانقسام السياسي الذي يعاني منه العراق مكن تركيا من التدخل في شؤونه الداخلية، بل وكسب اطراف سياسية لصالحها، فضلاً عن حاجة العراق الى مياه دجلة والفرات الذي ينبع من تركيا والتي تتحكم بهما بدرجة كبيرة، واعتماد العراق الكبير على الصادرات التركية وغيرها.
مما يعني ان اقليم كردستان العراق اصبح بمثابة المجال الحيوي لتركيا، لما يحويه من ثروات طبيعية، وبذلك وجدت تركيا الفرصة سانحة لها للتدخل العسكري والسياسي والاقتصادي فيه، الامر الذي جعل تركيا اهم الدول المؤثرة في الاقليم.
ثانياً- الاعتداء العسكري التركي على العراق والموقف الرسمي والشعبي منه:
ادى القصف المدفعي التركي في 2/تموز/2022 على منتجع سياحي في قضاء زاخو الى استشهاد (9) مدنيين وجرح قرابة (30) آخرين، وقد ولد هذا القصف استياء شعبي ورسمي كبير، مما دفع بعض الفصائل المسلحة الى شن هجمات انتقامية ضد القواعد والمعسكرات التركية، إذ تم استهداف قاعدة مدفعية تركية في بامرني في بلدة العمادية شمال دهوك بطائرة مسيرة، وهجوم صاروخي آخر على قاعدة تركية في زيلكان بمحافظة نينوى .
وقد حملت الحكومة العراقية تركيا المسؤولية، وطالبتها بسحب قواتها من العراق، كما استدعت القائم بالاعمال في أنقرة، وعدته انتهاكا صارخا لسيادة العراق وحسن الجوار، وتهديد لامن وسلامة المواطنين، وفي المقابل نفت تركيا أية مسؤولية عن هذا القصف، وحملت المنظمات الارهابية وتحديدا حزب العمال الكردستاني المسؤولية، ودعت الحكومة العراقية الى عدم التاثر بالدعايات الارهابية.
وفي السياق ذاته توجهت وزارة الخارجية العراقية بشكوى رسمية ضد تركيا في مجلس الامن وطلبت عقد جلسة طارئة حول القصف التركي لمنتجع سياحي، وتعهدت باتخاذ "أعلى مستويات الرد الديبلوماسي"، والملاحظ ان بيانات التنديد الرسمية وصفت هذا القصف بـ"الاعتداء الغاشم".
ولابد من التأكيد على حقيقة مهمة وهي ان العمليات العسكرية التركية رغم ادعائها بانها تستهدف حزب العمال الكردستاني، الا ان واقع الحال يؤكد بان العراق تحول الى ساحة حرب، وما له من تداعيات كبيرة تمتد الى المستقبل المنظور، إذ ستؤثر هذه العمليات على امن المواطنين وعلى حياتهم ومعيشتهم، كما ان المخلفات الحربية لهذه العمليات ستؤثر بلا شك على الجانب الصحي، فضلاً عن التداعيات النفسية والاقتصادية وغيرها.
ومن جانب اخر فان هذا القصف قد ولد ردود فعل شعبية كبيرة دعت الى مقاطعة تركيا اقتصادياً، ومحاصرة السفارة التركية في بغداد وغيرها من مظاهر الاستياء والرفض الشعبي.
ثالثاً- الموقف الدولي:
لا شك ان القصف التركي يمثل انتهاكا لسيادة دولة عضو ومؤسس للامم المتحدة، كما انه يعد انتهاك للمواثيق الدولية التي تؤكد على حسن الجوار وعدم الاعتداء، لاسيما وان تكرار هذه العمليات سيفتح المجال امام قوى اقليمية اخرى للتدخل في دول ضعيفة لا اقصد العراق تحديدا، وانما دول اخرى بحكم وجود سابقة دولية تتمثل بتركيا التي عمدت للتدخل العسكري في مجالها الاقليمي وتحديدا في اذربيجان والعراق وسوريا وليبيا عبر المتوسط، وكل ذلك سيعطي مسوغ لبعض القوى للتدخل العسكري في الدول التي تعاني من نقاط ضعف او عدم قدرة على حماية سيادتها الاقليمية من التهديدات الخارجية.
وفي سياق الادانة الاممية فقد أدانت بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) هذا الهجوم، وطالبت بتحقيق شامل، ودعت الى احترام سيادة العراق، وعدم توجية الهجمات الى المدنيين .
وفي سياق الموقف الدولي دعت المانيا الى تحقيق عاجل، وأعلنت "إنها تولي أهمية كبيرة لاحترام سيادة دولة العراق والتمسك بالقانون الدولي". كما قالت السفيرة الأمريكية في العراق (آلينا رومانوسكي): إن "قتل المدنيين أمر غير مقبول، ويجب على جميع الدول احترام التزاماتها بموجب القانون الدولي، بما في ذلك الالتزامات بموجب القانون الإنساني الدولي فيما يتعلق بحماية المدنيين".
والملاحظ على الموقف الدولي بصورة عامة انه لم يحمل بيانات شجب وادانة قوية ويأتي ذلك بسبب مكانة تركيا الدولية، بل وحاجة الدول الغربية الى تركيا لا سيما وانها اصبحت فاعل مهم في الكثير من الملفات الدولية والاقليمية المهمة ولعل أهمها الحرب الروسية – الاوكرانية، بحكم الدور الذي تسهم به في تخفيف الضغط على اوروبا بعد تضييق الخناق على الغاز الروسي المصدر الى اوروبا.
ومن جهة أخرى اعلن المتحدث باسم الخارجية الإيرانية (سعيد خطيب زاده) بان " إيران تعد أمن العراق أمنها الخاص ولن تتردد في تقديم أي مساعدة في هذا الصدد".
رابعاً- رؤية مستقبلية:
يتجه مستقبل العمليات العسكرية في شمال العراق الى اتجاهين:
المشهد الاول- مشهد التراجع:
يقوم هذا المشهد على افتراض ان تركيا ستعمل على انهاء عملياتها العسكرية على افتراض ان حزب العمال الكردستاني سيعمل على مغادرة قواعده من العراق، وان الضغط الرسمي والشعبي العراقي سيحد من تدخلات تركيا العسكرية، وفي الواقع ان هذا المشهد صعب التحقق بالمستقبل المنظور لاسيما وان تركيا قد أسست وجود عسكري لها منذ أكثر من 25 عاماً شمال العراق ومن الصعب ان تتخلى عنها بسهولة.
المشهد الثاني- مشهد الاستمرارية والتطور:
يقوم هذا المشهد وهو الراجح على افتراض استمرار العمليات العسكرية التركية وبقاء قواعدها في شمال العراق، من اجل تحقيق جملة من الاهداف منها: محاربة حزب العمال الكردستاني وتطويقه ومنع تمدده الى داخل تركيا، حماية مصالحها الاقتصادية واستثماراتها في العراق عامة واقليم كردستان خاصة، وتعزيز نفوذها الاقليمي بحكم الترابط الجغرافي مما سيجعل من العراق بوابة مهمة للفضاء الجيوسياسي التركي تجاه الخليج العربي، وغيرها من الاعتبارات التي ترتبط بشكل او باخر بالمنافسة الاقليمية مع ايران، وموازنة الوجود الروسي في سوريا بوجودها في سوريا والعراق معا، وغيرها من الاعتبارات الكثيرة.