تركيا ولعبة التوازن في الأزمة العراقية
محمد المعرفي
يحظى الشأن العراقي بشكل عام والتطورات الأخيرة في العراق خصوصا باهتمام بالغ في الأوساط التركية سياسيا واقتصاديا. ولم تستطع الخلافات بين البلدين؛ ولا سيما فيما يرتبط بالامن الحدودي والمياه أن تضع حاجزا أمام إقامة علاقات لأنقره مع بغداد حكومة وأحزابا.
تركيا والعراق ـ العهد الجديد
ونعود قليلا ـ من أجل فهم السياق الحاضر ـ إلى تاريخ العلاقات ولا سيما مع مطلع القرن الواحد والعشرين، حيث اتخذت منعطفا كبيرا من الجانبين، تركيا: وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة في تركيا في العام 2002، ولا يزال يمسك بها بقوة منذ ذاك الوقت، وعراقيا: التغيّر الجذري الذي حدث في 2003، وما تبعته من متغيرات سياسية وأمنية.
ويمكن القول أن مرحلة أخرى تأسست في العلاقات التركية ـ العراقية، وتأثرت بعدد من العوامل، ومنها:
في الجانب التركي:
ـ سياسة حزب العدالة والتنمية في الانفتاح التركي خارجيا على دول الجوار، حيث تبدو الساحة العراقية أرضا خصبة وبكرا لتوسيع النفوذ وترسيخ العلاقات مع القوى العراقية ومنافسة اللاعبين الإقليميين لتحقيق أهداف سياسية وأمنية واقتصادية ـ سنشير لها ـ، بالإضافة إلى دوافع مذهبية وتاريخية.
ـ رغبة قادة الحزب في إثبات قدرتهم على حسم ملفّات تقليدية عجزت الحكومات السابقة في التعاطي معها ومن أبرزها هواجسها الأمنية الحدودية.
ـ الحاجة التركية إلى إيجاد حلول وبدائل جديدة للوضع الاقتصادي ولا سيما بعد خسارة الوعود المالية الأميركية وبدء التوتر ـ لاسباب كثيرة ـ في علاقات تركيا مع أميركا وأوروبا وامتناع الأخيرة عن فتح الباب لدخول انقره في الاتحاد الأوروبي.
في الجانب العراقي:
ـ اعتماد القوى السياسية العراقية على العامل الخارجي لتقوية مواقفها وإمكاناتها الداخلية، وبالتأكيد فإن تركيا تعد من كبار اللاعبين الإقليميين.
ـ التحديات الأمنية ومحاربة الإرهاب وضرورة التنسيق مع دول الجوار.
ـ الحاجة الكبيرة إلى إعادة البناء وانعاش التجارة والسياحة، وتركيا من أكبر الدول المنتجة في المنطقة في مختلف المجالات، كما أنها تمثل سوقا وممرا في الوقت ذاته للنفط العراقي، ولا سيما من الشمال.
تركيا والأزمة السياسية العراقية
منذ انتخابات 2021 في العراق ودخول القوى السياسية نفق تشكيل الحكومة، تنامى الدور التركي في جذب البوصلة السياسية، محتفظا بتصاعد حضوره الذي اكتسبه في الأعوام الأخيرة، وبالتزامن مع تراجع الدور الإيراني الذي كشفته الانتخابات.
ورغم عمق العلاقات بين تركيا والقوى العراقية إلا أنها تعمل بدبلوماسية ناعمة متعددة الاتجاهات، وتحرص على إيجاد حالة من التوازن في علاقاتها، مع اهتمامها الكبير بما يحصل في العراق ولا سيما في الأزمة السياسية الأخيرة.
الاتصال بالمكون السني
القصور الرئاسية في انقره وإسطنبول تحولت إلى وجهة للسياسة العراقية، ولعلّ أهمها وأحدثها هي زيارة رئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي وشريكه خميس الخنجر ولقائه القادة الأتراك.
ففي قصر وحيد الدين في إسطبنول استضاف الرئيس التركي رجب طيب اردوغان ضيفيه الحلبوسي والخنجر في اجتماع مغلق وبحضور رئيس الاستخبارات.
اللقاء تضمن ـ حسب بيان مكتب الحلبوسي ـ مناقشة "التعاون في تبادل المعلومات الأمنية والاستخبارية"، والعلاقات الثنائية والتنسيق الاقتصادي والتجاري، "فضلاً عن دعم العراق في مجال مكافحة الإرهاب".
وفي تعديلها لخبر الزيارة تجاهلت وكالة الأناضول ذكر البرلماني خميس الخنجر رغم أنها ارفقت الخبر بصورة تضعه على جانب المسؤولين الحاضرين.
وسبق للدور التركي أن نجح وبمشاركة أطراف أخرى في الجمع بين رأسي الحلبوسي والخنجر بعد الانتخابات، بعدما وصلت الخلافات بينهما قبلها إلى حد تبادل الاتهامات والإهانات.
هذه الزيارة المختصرة والمغلقة لم تمرّ دون تفاعل وردود فعل في الداخل والخارج، في الداخل من القوى السياسية المنافسة، ولا سيما أحزاب "الإطار التنسيقي"، التي توجست من الزيارة دعما لتشكيل حكومة الاغلبية السياسية ودفعها خارج الإطار الحكومي، كما تلقتها إيران من الخارج كإنذار لاستمرار انحسار عمقها السياسي في المنافسة الإقليمية، فرغم أن العلاقات بين أنقره وطهران قوية وتربطهما مصالح مشتركة ولا سيما اقتصاديا وتجاريا، إلا أن ذلك لم يمنع من صراع نفوذ ظاهر في المنطقة ولا سيما في سوريا والعراق.
حصول تركيا على ورقة تحالف الحلبوسي والخنجر (عزم) الذي حاز ثاني أكبر عدد من المقاعد في الانتخابات العراقية بعد التيار الصدري، يعدّ مكسبا سياسيا أساسيا، يعزز التصاعد المستمر للدور التركي على الساحة العراقية، خصوصا أن (عزم) ضمن مشاركته في الحكومة المقبلة من خلال الاتفاق مع السيد مقتدى الصدر والديمقراطي الكردستاني، والأخير هو بالطبع من أكثر الأحزاب العراقية قربا وعلاقات مع تركيا، ويمكنها أن تسعى من خلال الحليفين إلى مدّ الجسور مع الصدريين، وهم يمثلون القوة السياسية الأبرز ـ حسب نتائج الانتخابات ـ ضمن المكون الشيعي، وبهذه المعادلة يمكن لأنقره كسب الجولة في تحقيق التوازن الذي استهدفته أمام طهران.
لكن الإيرانيين لم يكتفوا أيديهم إزاء ما يحدث، إذ عملوا على تحشيد كل أشكال الضغط على القوى السياسية، شيعيا وكرديا وسنيّا، فإيران لا ترى أنها أقل قدرة في تحريك الضغوط على أصدقائها الجدد والقدامى من المكونات العراقية، حيث تربطها علاقات قديمة سياسية واقتصادية مع الديمقراطي الكردستاني، كما أنها تعتبر نفسها مدينة للحلبوسي على سنوات الدعم وتقرأ في تحركاته الأخيرة، ولا سيما زيارته لتركيا، انقلابا استدعى نفاد صبرها، وليس من المؤكد ما إذا كان الحلبوسي مستعدا للمجازفة في معاندة العناد الإيراني، والذي يمكن أن يهدد حظوظه السياسية، ولا سيما أن طهران حذّرته ـ عبر رسائل عديدة ـ من المضي في مسار استبعاد الإطار، كما أنها لن ترضى أن يعتمد على تركيا لتحقيق طموحاته المستقبلية، لإن ماضي صعوده كان بالتحالف مع حلفائها في انتخابات 2018.
الاتصال بالمكون الكردي
وكان للكرد السبق في التواصل مع تركيا عموما وفي القضايا المتصلة بتشكيل الحكومة والأزمة الراهنة، ففي مطلع شهر فبراير/ شباط الماضي كان المجمع الرئاسي في أنقره موقع اللقاء الذي جمع الرئيس التركي أردوغان بمهندس العلاقات الكردية التركية؛ نيجرفان بارزاني، وذلك قبل أيام قليلة من موعد الجلسة التي كان من المفترض عقدها في 7 فبراير/شباط والتي كانت مخصصة لحسم منصب رئيس الجمهورية الذي جرت العادة على تخصيصه للكرد، ولكن لم يكتمل نصابها.
زيارة نيجرفاني ـ حسب بيان من رئاسة الإقليم ـ تضمنت مناقشة "مجالات التعاون المشترك والأوضاع السياسية العراقية وآخر التطورات في المنطقة" و"رغبة الطرفين في توطيد العلاقات التجارية والاقتصادية"، لأن "تركيا شريك أساسي لإقليم كردستان، إذ يبلغ حجم التبادل التجاري مع الإقليم أكثر من 10 مليارات دولار سنويا، ومثلها مع حكومة العراق، كذلك فإن نفط الإقليم يصدّر عبر الأنابيب إلى ميناء جيهان التركي، فضلا عن الاتفاقات طويلة الأمد" بينهما، كما شملت المشاورات ملف "المباحثات بين حكومة إقليم كوردستان والحكومة الاتحادية العراقية وآخر الخطوات المتخذة لحل الخلافات، والتوترات الحدودية.
لم يكن توقيت الزيارة مفاجئا فهي جاءت بعد احتدام الجدل في الداخل، وإن كانت بعض المواقع والأطراف عبّرت ظاهرا عن استغرابها من توقيت الزيارة وعدم الإعلان عنها مسبقا، فيما يعلم المراقبون أن الطرف الكردي لا يمكن أن يتجاهل موقف الأتراك ورأيهم فيما يحدث في الجوار، ويتجاهل في المقابل رأي القوى العراقية بشأن الزيارات الدبلوماسية أو العلاقات الاقتصادية التي تربط الإقليم بالخارج بشكل عام.
ولم تتأخر تركيا في الرد على رسالة إيران وإدانة الهجمات الصاروخية الاخيرة على أربيل في منتصف شهر مارس/ أذار، والتي أعلن الحرس الثوري مسؤوليته عنها، حيث أدانت أنقره بشدّة هذه الهجمات ووصفتها بـ"الأعمال الرامية لتقويض السلام والاستقرار في العراق".
ويمكن قراءة هجوم أربيل كرسالة شديدة اللهجة من طهران للكرد، عبّرت فيها عن عدم ارتياحها للتحركات السياسية والأمنية التي تجري في شمال العراق وجواره، وترى إيران أنها تشكل تهديدا لمصالحها وأمنها، كما تريد تذكير الإقليم بقدرتها وعدم تجاهل نفوذها.
العلاقات مع المكون الشيعي
منذ العام 2003 لم تتبلور علاقات واضحة للمكون الشيعي مع أنقره، وعلى العكس كانت علاقاته وطيده مع منافستها طهران.
ومع تولي رئيس ائتلاف دولة القانون نوري المالكي رئاسة الوزراء تصاعدت لهجة العداء، وكانت تمثل فترة هبوط في العلاقات بين البلدين، حيث كان المالكي يتهم علنا نظيره التركي بإثارة الوضع في العراق، فيما يردّ السيد اردوغان باتهام المالكي بالسعي لإثارة حرب أهلية في البلاد.
وبالطبع تمثل مواقف وتصريحات المالكي عنوانا لطبيعة علاقات القوى القريبة من إيران بتركيا، ومن الأسباب التي تساق لهذا التدهور: العمليات العسكرية التي تقوم بها القوات التركية على الحدود مع العراق، والاتفاقيات الاقتصادية بينها وبين سلطة الاقليم ومنها اتفاقيات النفط التي وقعتها اربيل دون موافقة بغداد.
ومع وصول حيدر العبادي إلى رئاسة الوزراء لم تتحسن الأوضاع مع الجانب التركي، بل ربما ساءت أكثر، للأسباب ذاتها. ورغم أن التيار الصدري لا يحسب على أحزاب "الإطار التنسيقي" بل على العكس، إلا أن زعيمه السيد مقتدى الصدر لطالما أثار اعتراضه على النقطتين المشار لهما.
التطورات الدولية والإقليمية وموقع العراق
خلال رحلة عودته بالطائرة من أوكرانيا إلى تركيا مطلع شهر فبراير/ شباط الماضي، بدا أن الرئيس التركي رجب طيب اردوغان، توجّس تداعيات الازمة الروسية ـ الأوكرانية، ولا سيما على قطاع النفط والغاز.
السيد أردوغان صرح أن العراق قد يزود بلاده بالغاز الطبيعي، رغم تأكيده أن تركيا لا تواجه في الوقت الراهن نقصا في مخزون الغاز.
واشار الرئيس التركي إلى أن ثمة أصوات داخلية في تركيا تدعي نقص مخزون الغاز الطبيعي بالبلاد، موضحا أن حقيقة ذلك مشكلة مؤقتة مصدرها الجانب الإيراني، وقد تم حلّها، ولم يخف السيد أردوغان أنه ناقش إمكانية تزويد تركيا بالغاز الطبيعي مع رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني خلال زيارته الأخيرة.
وسبق أن كشفت مصادر نفطية عن حراك في مشروع تصدير الغاز إلى تركيا من حقلي خورمو الغازي في أربيل، وجمجمال في السليمانية، وأبدى الأتراك اهتماما شديدا بهذا الملف، إحياء لتفاهمات سابقة، حيث يقع عليها دور تطوير واستثمار هذين الحقلين وغيرهما.
وينبغي الإشارة إلى أن الحظر الذي فرض على روسيا بسبب أزمة أوكرانيا، وضع عددا من الدول كتركيا في موضع حرج، وأكد وزير الطاقة التركي ألب أرسلان بيرقدار بصراحة أن بلاده ستواصل شراء النفط والغاز من موسكو حيث أنها تعتمد على الأخيرة بنسبة %45 من طلبها على الغاز الطبيعي و17% من النفط و40% من البنزين، وأنها لا يمكنها بهذه السرعة تعويض إمداداتها من روسيا كـ"مورد قديم موثوق به".
وترغب عدد من الأطراف العراقية إلى التعجيل باستثمار تركيا للغاز العراقي، بالقول أن العراق يمكنه أيضا الاستفادة منه لسدّ حاجته المحلية، والتخلص من الاعتماد على إيران، إلا أن هذه الرغبة تصطدم برغبة معاكسة.
وفي المحصلة يمكن بوضوح تشخيص أن الدور التركي في العراق يتجه نحو الصعود عموما، وكانت له سمة واضحة من خلال الأزمة الحالية، حيث كان لها دور في تقريب القوى والأحزاب السنية، كما تواصل تعميق صلاتها مع الكرد، وتتضح رغبة أنقره في ضمان علاقات قوية مع الحكومة والقوى العراقية، وهذه الحاجة بدأت بالازدياد بشكل فوري مع التطورات الأخيرة.