تحول الأنظمة السياسية نحو المدنية الحديثة وأثره على التنظيمات الإرهابية
السعودية نموذجاً
إعداد نجاة عبدالقوى عون
باحثة الماجستير بكلية الدراسات الاقتصادية والعلوم السياسية بجامعة الإسكندرية
المقدمة
في السنوات الأخيرة واجهت السعودية اتهامات عدة بإعتبارها عاملاً مسبباً لمقتل الشعب السورى واليمنى والعراقى، وذلك لدعمها المجموعات المسلحة وعلى رأسهم تنظيم داعش. لكن لا يوجد دليل موثوق على أن الحكومة السعودية قدمت الدعم المالى للتنظيمات الإرهابية.
فى الوقت الحالى لوحظ أن السعودية تتجه نحو المدنية الحديثة وتنفض عنها غبار التشدد الذى لاحقها لسنوات عديدة، حيث أصبحت السعودية تعتبر داعش منظمة إرهابية تشكل تهديداً مباشراً لأمن المملكة. وصنفت وزارة الداخلية السعودية رسمياً داعش على أنها كيان إرهابى، وحظرت الوزارة تقديم أى شكل من أشكال الدعم المختلفة للتنظيمات الإرهابية من قبل سكان المملكة. واتخذت السعودية خطوات عديدة لتلحق بركب الدول المدنية المتقدمة في العالم.
الموقف السعودى من الأزمة السورية
عند اندلاع الحرب الأهلية السورية عام 2011، تحركت داعش بسرعة لإنشاء دولة عابرة للحدود من خلال السيطرة على مساحات شاسعة من الأراضي المتجاورة في سوريا والعراق. ويُقال أن السعودية في تلك الفترة كانت أكبر مصدر لتمويل الإرهاب في العالم، كما كانت أكبر مروج للجهاد السلفى الذى يشكل الأساس الأيديولوجي للجماعات الإرهابية مثل القاعدة وطالبان وداعش وغيرها.
حينما اندلعت الحرب الأهلية السورية توترت العلاقات بين سوريا والسعودية، وذلك بسبب قيامها بإرسال أسلحة إلى قوات المعارضة، خشية سيطرة إيران على الداخل السورى، كما كان الملك عبدالله أول زعيم عربى يدين حكومة الأسد في أغسطس 2011.
وفى البداية كانت السعودية مع الحل السلمي للأزمة السورية، ولم تقطع علاقاتها مع نظام الأسد إلا بعد مرور أشهر على بداية الحرب، وبعدما تبين لها أن بشار يتجه إلى تطييف الصراع، ويسعى لتصعيده لا لحله.
ونتيجة لإدراك السعودية بأن الأزمة السورية تمس أمنها الداخلى والخارجى، أصبحت أكثر حذراً من تحول سوريا إلى ساحة قتال تجذب القتلة والمتطرفين، وحينما وجدت السعودية نفسها محملة بثقل الدفاع عن الشعب السورى، والقضاء على المشروع الإيراني في سوريا، ومحاربة استغلال التنظيمات الإرهابية للأزمة السورية، اضطرت إلى تقديم الدعم المالى الغير مباشر للتنظيمات الجهادية الإسلامية حتى تتمكن من محاربة أي أطراف تسعى للتواجد على الأرض السورية وتهدد أمن السعودية القومى.
ولوحظ أن المواطنون السعوديون لعبوا دوراً مهماً في تمويل الجماعات السنية العاملة في سوريا. حيث تم تحويل مئات الملايين من الدولارات من السعودية إلى سوريا بشكل غير مباشر في السنوات الأولى للحرب. وعلى الرغم من ذلك إلا أنه لم يتم الكشف عن حجم المساهمة السعودية في برنامج تسليح الثوار ضد جيش الرئيس بشار الأسد، لكن التقديرات تشير إلى أن السعودية كانت أكبر مساهم في تسليح الثوار وقدرت التكلفة الإجمالية لجهود التسليح والتدريب بعدة مليارات من الدولارات.
ويعد دعم السعودية للمتمردين السوريين ليس سوى الفصل الأخير في العلاقة التي امتدت لعقود بين جهازي التجسس في السعودية والولايات المتحدة، وهو التحالف الذى ذاع صيته من خلال فضيحة إيران كونترا التي كشفت عن قيام كلا الدولتين بتقديم الدعم للمجاهدين ضد السوفييت في أفغانستان، وكذلك قيامهما أيضاً باستخدامهما في الحروب بالوكالة التي اندلعت في أفريقيا، كما ينطبق الأمر أيضاً على سوريا في السنوات الأولى للأزمة السورية.
التصريحات المتعلقة بالموقف السعودى من التنظيمات الإرهابية
في عام 2014، صرح رئيس الوزراء العراقي الأسبق نورى المالكى أن السعودية وقطر بدأتا الحرب الأهلية في العراق وسوريا، وحرضتا وشجعتا الحركات الإرهابية، مثل داعش والقاعدة، وقاموا بدعمها سياسياً وإعلامياً، وساعدوها بالمال والسلاح.
في أغسطس 2014 تسربت بعض رسائل البريد الموجهة إلى جون بودستا والتي ذُكر في إحداها أن السعودية وقطر تُقدمان دعما مالياً ولوجستياً بشكل سري على هيئة مساعدات لداعش وغيرها من الجماعات السنية المتطرفة. وتطرقت رسالة البريد المسربة أيضاً إلى خطة عمل تهدف للقضاء على داعش وورد في الخطة ضرورة ووجوب الضغط على كل من السعودية وقطر من أجل وقف تمويلهما.
في عام 2015، اتهم سيغمار غابرييل، نائب المستشار الألماني، وباتريك كوكبرن السعودية بدعم الجماعات الإسلامية المتطرفة في الأزمة السورية.
في مايو 2016، ذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن السعودية المتحالفة مع الولايات المتحدة قد أنفقت ملايين لا حصر لها للترويج للوهابية، التي تعد الشكل المتطرف للإسلام السني الذي ألهم خاطفي الطائرات في الحادي عشر من سبتمبر والذي أدى الآن إلى تأجيج فكرة إنشاء الدولة الإسلامية.
في أعقاب هجمات طهران عام 2017، اتهمت السلطات الإيرانية، مثل أعضاء الحرس الثوري الإسلامي ووزير الخارجية الإيراني جواد ظريف، السعودية بالوقوف وراء تلك الهجمات.
وصف جيمس وولسى مدير وكالة المخابرات المركزية السابق السعودية بأنها التربة التي تزدهر فيها القاعدة والمنظمات الإرهابية الأخرى.
صرح حميد رضا تراغي المحلل السياسي الإيراني أن داعش تعتمد فكرياً ومالياً ولوجستياً على رعاية السعودية بشكل كامل، وأنهما بمثابة وجهان لعملة واحدة.
وعلى الرغم من كل تلك الاتهامات إلا أن السعودية تنفى الادعاءات بأنها تصدر التطرف الديني أو الثقافي، كما تسعى لإحداث المزيد من التحولات في سياستها الداخلية والخارجية التي تؤكد حرصها على أن تكون من الدول الرائدة في المنطقة في حمل لواء العلمانية بما لا يتعارض مع قيمها وثقافتها الإسلامية.
التحول السعودى نحو المدنية الحديثة
بعد الجهود الغربية الكثيفة التي بذلت للضغط على السعودية لإنهاء دعمها لداعش وغيرها من التنظيمات الإرهابية، أصبحت السعودية حليفاً وثيقا للولايات المتحدة وبريطانيا في مجال مكافحة الإرهاب، حيث وصفت وكالة المخابرات المركزية السعودية بأنها أصبحت من بين أفضل شركائها في مجال مكافحة الإرهاب على مستوى العالم، كما وصف تقرير حكومي بريطاني السعودية بأنها أصبحت حليف وثيق ومهم لبريطانيا في عدد من المجالات، ولاسيما في مجال مكافحة الإرهاب، واعتبر التقرير التعاون البريطاني السعودى أمراً حيويا لكلا الدولتين.
تواصل الحكومة السعودية بناء وتعزيز قدرتها على مكافحة الإرهاب والأيديولوجيات المتطرفة العنيفة، ويتضح ذلك من خلال:
- قيامها باعتقال عدد كبير من الإرهابيين، وتعطيل خلايا إرهابية نشطة في جميع أنحاء المملكة، واستمرار قوات الأمن السعودية فى مواجهة تهديد القاعدة في جزيرة العرب، على الرغم من تقلص نشاط هذا التنظيم.
- قيامها بتعزيز برامجها المتعلقة بمكافحة التطرف وإعادة التأهيل. وشملت تلك الجهود تنظيم ندوات دحضت التفسير والعقيدة الإسلامية المتطرفة، وكذلك إطلاق مؤتمر دولي حول الإعلام والإرهاب.
- قامت السعودية بزيادة عدد حملات التوعية العامة التي تهدف إلى تثقيف وتوعية المواطنين السعوديين بمخاطر التطرف، وذلك لمعالجة التهديدات المتزايدة للشباب المتمثلة في سعى التنظيمات الإرهابية لتجنيدهم وضمهم لصفوصفهم ليصبحوا مقاتلين إرهابيين مثلهم في سوريا وغيرها.
- عملت السعودية على تشخيص مواطن الغلو الديني في المجتمع والسعى لعلاجها، وتعزيز التسامح الديني الوسطي المعتدل، ومنح المرأة البالغة حق الولاية على نفسها. وقد تم تطبيق هذه الحلول الاجتماعية على أرض الواقع في وقت قياسي، وفق العقيدة الإسلامية الصحيحة، وسياسات الرؤية السعودية الجديدة المتوافقة مع المعايير الدولية التي تؤدي إلى النمو الاقتصادي في مجتمع سعودي مستقر، مكوناته من القوى البشرية منسجمة مع بعضها البعض، وتقع على عاتقهم مسؤولية الاستدامة الحضارية السعودية.
وفيما يتعلق بسوريا بشكل خاص، فقد لوحظ بدء ذوبان الجليد بين السعودية وسوريا، وذلك من خلال:
- أعلنت السعودية في قمة الرياض عام 2017 بأنها متبرأة من المعارضة السورية.
- صرح الأمير محمد بن سلمان عام 2018 أن ما تريده السعودية من بشار الأسد هو ألا يسمح للإيرانيين بأن يفعلوا ما يردون فعله بسوريا، كما قدمت السعودية الدعم لقوات سوريا الديمقراطية، واجتمعت في ذات العام مع مسؤولي قوات سوريا الديمقراطية من أجل توسيع الروابط العسكرية.
- صدرت تصريحات لبنانية تدعى أن الأسد رفض عرضا من الأمير محمد لتقديم السعودية مساعدات لإعادة الإعمار في مقابل قطع سوريا علاقاتها مع إيران وحزب الله.
- وفي 2018، أفيد بأن المملكة العربية السعودية وسوريا تتفاوضان على مصالحة سياسية، مع قيام الإمارات العربية المتحدة بالوساطة. وشملت هذه المحادثات التعاون المحتمل ضد جماعة الإخوان المسلمين في المنطقة في المستقبل.
- وفي 2019، ذُكر أن روسيا شرعت في الضغط على السعودية وثلاثة بلدان عربية أخرى ليقوموا بدعم إعادة السماح لسوريا بدخول الجامعة العربية، كما ذكر أن السعودية تسعى للحصول على تأكيدات بأن روسيا ستقلل من النفوذ السياسي الإيراني في سوريا كشرط أساسي للقيام بتقديم هذا الدعم.
- منذ فبراير 2019، توقفت وسائل الإعلام السورية عن انتقاد المملكة العربية السعودية، وركزت بدلاً من ذلك على قطر وتركيا كتهديدين، في حين تجنب وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان آل سعود انتقاد سوريا في خطاباته منذ تعيينه في أكتوبر 2019.
- في مارس 2021، أعرب وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، عن دعم الرياض لعودة سوريا إلى محيطها العربي، مؤكداً أن الحل في سوريا لن يكون إلا سياسياً.
- وزير السياحة السوري زار السعودية في مايو 2021، وهي أول زيارة لمسؤول حكومي سوري للملكة منذ 2011.
السيناريوهات المتوقعة لطبيعة العلاقة بين السعودية وسوريا مستقبلاً
السيناريو رقم 1: قيام السعودية بتضييق الخناق على التنظيمات الإرهابية في سوريا وغيرها
يفترض هذا السيناريو أن يستمر التحالف الذى تترأسه السعودية وإيطاليا والولايات المتحدة في رصد التدفقات المالية إلى الأراضي التي تسيطر عليها التنظيمات الإرهابية في سوريا والعراق والشام من أجل المعرفة بالتغييرات الحاصلة في التمويل، لاسيما من جهة بلدان كان للأفراد الأثرياء فيها تاريخ فى تمويل القضايا الجهادية، مثل السعودية والكويت وقطر.
تشير المؤشرات إلى استمرار السعودية في الحفاظ على علاقتها القوية بالولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب، كما أدانت الحكومة السعودية أنشطة تنظيم الدولة الإسلامية وشاركت في العمل العسكري للتحالف لدحر التنظيم في سوريا والعراق. وأصبحت تفرض الأنظمة الأمنية لقطع سبل ممارسة الجماعات الإرهابية لأنشطتها الدموية على اعتبار المملكة قائد التحالف الإسلامي لمكافحة الإرهاب.
يلاحظ أن السعودية تسير حالياً في طريق تضييق الخناق حول المنظمات الإرهابية، وذلك نظراً لكونها عضواً مؤسساً في المنتدى العالمى لمكافحة الإرهاب، وقد دفع ذلك مسؤولون سعوديون لإصدار بيانات تشجع على تعزيز التعاون بين دول مجلس التعاون الخليجى ودول الجامعة العربية في قضايا مكافحة الإرهاب.
إذا نجحت السعودية في تحقيق هذا السيناريو فمن المتوقع أن تعود سوريا منطقة آمنة بالنسبة للسعودية وغيرها من دول المنطقة، حيث إن أكثر ما يقلق السعودية في الوضع الحالي هو وجود التنظيمات الأصولية المسلحة في سوريا، مثل داعش والقاعدة وبقية التشكيلات الأخرى، التي تعد مصدر خطر للدول المجاورة، ولذا فإن محاربة الإرهاب، وتضييق الخناق على مصادر تمويله، سيصب أيضاً في خانة محاصرة العنف، وهو أمر في صالح السعودية وبقية الدول المؤيدة للاعتدال.
السيناريو رقم 2: استمرار الدعم السعودى غير الرسمى للتنظيمات الإرهابية في سوريا
يفترض هذا السيناريو استمرار المواطنين السعوديين وغير السعوديين الذين يستغلون تواجدهم في المملكة في دعم الجماعات الإرهابية. حيث يواصل الرعاة الخاصون تمويل التنظيم في الخليج العربي وخارجه. كما أن أموالهم ليست مخصصة لداعش فقط، بل تجد هذه الأموال طريقها إلى جيوب العديد من المتمردين السوريين الآخرين الذين يقاتلون نظام الأسد.
وقد غذى هذا التوجه الدور الذى قام به الإعلام السعودى الذى يتخذ موقفاً مناوئاً بشدة للرئيس السورى بشار الأسد، حيث عمد الإعلام إلى تأليب الرأي العام بشكل مستمر ضد تصرفات الحكومة السورية تجاه الأغلبية السنية.
وعلى الرغم من الجهود الجادة والفعالة لمواجهة تمويل الإرهاب داخل المملكة، فمن المحتمل أن بعض الأفراد والكيانات في المملكة العربية السعودية يستمرون في كونهم مصادر للدعم المالي للجماعات الإرهابية، حيث يُزعم أن هذه الأموال يتم جمعها سراً وتحويلها بطريقة غير مشروعة إلى خارج البلاد نقداً، وأحياناً يقوم بهذه المهمة الحجاج الذين يؤدون فريضة الحج والعمرة.
السيناريو رقم 3: إنشاء تحالف جديد بين السعودية ودول الجوار
يفترض هذا السيناريو قيام تحالف يضم السعودية وإيران وتركيا، حيث يلاحظ السير في هذا الاتجاه من التطورات الأخيرة المتمثلة في عقد عدة لقاءات العام الماضى جمعت بين مسؤولين من السعودية وإيران أكثر من أي وقت مضى مما يشير إلى عودة الدفء للعلاقات المتوترة بين البلدين، كما يلاحظ أيضاً أن السعودية تمهد الطريق أمام عودة العلاقات الدبلوماسية مع إيران ويتضح ذلك من خلال الخطوة التي أقدم عليها الملك سلمان بن عبد العزيز في عدم تطبيع العلاقات القائمة مع إسرائيل بشكل رسمي وهو ما تنظر إليه إيران بإيجابية. كذلك تنخرط السعودية في مساعي عودة الحكومة السورية إلى الجامعة العربية وهو الانخراط الذي ترحب به إيران الداعم القوي للرئيس السوري بشار الأسد.
كما شهدت الآونة الأخيرة إشارات للتقارب بين تركيا والسعودية بعد تراجع ملحوظ في العلاقات دام لبضع سنوات. وبالنظر إلى الدولتين في يومنا الحالي، نرى أنه لم تطرأ تغيرات هامة على مواقفهما بخصوص القضايا الإقليمية إلا أننا نلاحظ انخفاض في حدة التوتر ورغبة متبادلة في الارتقاء بمستوى العلاقات. ولكن التطورات التي جرت على الصعيدين الإقليمي والدولي خلال الفترة الأخيرة، دفعت الدولتين إلى التقارب مجدداً. ولعل من أبرز هذه التطورات التي شجعت الطرفين على التعاون، ضعف مظلة الأمن الأمريكية، ومبادرة الحزام والطريق الصينية، والمشاكل الاقتصادية، والتنافس الاقتصادي بين الفواعل الإقليمية.
وفى حالة تمكن السعودية من تحقيق هذا السيناريو، فسوف يتم الحفاظ على التوازن في المنطقة، بالإضافة إلى إنشاء تحالف عسكرى وسياسى جديد بين الدول المتحالفة يجعلها قادرة على مواجهة الابتزازات الغربية التي استنزفت ثروات المنطقة منذ عقود، كما سيؤدى التقارب السعودى-الإيراني على وجه التحديد إلى تخفيف التقاطب السني-الشيعي الذي كان أحد أسباب احتدام المعارك في سوريا وتردي الوضع الأمني في العراق واندلاع الأزمة اليمنية.