العراق والمحيط الإقليمي ضرورة التقارب والاندماج
أ.م. د. أثير ناظم الجاسور.
كلية العلوم السياسية/ الجامعة المستنصرية
من بديهيات الدول ان تندمج وتتقارب بمجموعة من العلاقات التي تحدد نقاط واضحة تعبر عن تصور ومعرفة بدورها في مجالاتها الحيوية ومناطقها المهمة، والتي تسعى من خلالها ان تتخذ خطوات نتائجها تحقيق مصالحها التي تُعد هي أساس العمل في مختلف الجوانب، فضلاً عن ان الدول ضمن نظام متكامل تلعب فيه أدوار مختلفة سيما وانها ايضاً تعمل ضمن منظومة متشابكة ومعقدة لكن لا يمنعها من محاولة الولوج إلى ادق تفاصيل النظام والتفاعل مع احداثه، فهذه العلاقات سواء على المستويين الإقليمي أو الدولي تتطلب دراسة معمقة لسلوك القوى الحاكمة الأساسية في كلا البيئتين اللتين تحددان مجمل الحركة السياسية والاقتصادية والعسكرية للدول من خلال استخدامها للأدوات والعناصر التي تساعدها على فتح قنوات مختلفة في كيفية بناء استراتيجيات تؤثر على المتلقي سواء كان فاعلاً رسمياً او غير رسمي، بالمحصلة القوى تُسهم في إيجاد الطرق المناسبة لتوضيح موقعها السياسي والدبلوماسي بالإضافة إلى دورها وتفاعلها في الاحداث الحاصلة، وعالم اليوم لم يعد يأخذ في الحسبان حجم الدولة بقدر النظر لأهميتها الجغرافية وقدراتها الاقتصادية ودورها السياسي في انجاز متطلبات البقاء والاستمرار.
بالنسبة للعراق مر بمجموعة من التحديات منذ تأسيس الدولة ولغاية اليوم أسهمت ان يكون في دائرة التنافس والصراع الإقليمي والدولي لاعتبارات الجغرافيا والموارد وعوامل أخرى اجتماعية وثقافية متداخلة بتعقيدها وتشابكها، جعلت منه نقطة أساسية في التفكير الاستراتيجي للقوى التي تعمل في اتجاهيين الأول تعاملت معه على اعتباره عامود ساند للتوازن الإقليمي وحليف من الممكن الاعتماد علية لفرض قوته، الاتجاه الثاني على اعتباره مهدد للأمن الإقليمي والعالمي من خلال قراءة سلوك نظامه السياسي الذي بات خطراً على امن المنطقة لطموحاته التوسعية والعدائية، فضلاً عن أهميته الجيو - استراتيجية التي جعلته ضمن أولويات مصالحها السياسية والاقتصادية، فيما بعد اصبح ارض خصبة للجماعات المتطرفة الإرهابية وساحة صراع للقوى المتنافسة التي تحاول تصفية حساباتها على ارضه من خلال طرح مشاريعها واجنداتها، كل هذا جعل القوى الإقليمية والدولية تعمل على تحجيم دوره سواء قبل او بعد احتلاله من قبل الولايات المتحدة الامريكية عام 2003، فعراق ما بعد هذا التاريخ لم يعد عامل توازن للقوى في المنطقة لا بل تم تصنيفه على انه منتج لعدم الاستقرار مما سهلت هذه الحجة من عملية التدخل في شؤونه الداخلية والتحكم بقراره السياسي، وبناء نظام سياسي هش تتحكم في مخرجاته نتاجات الهويات الفرعية التي كبرت وتعاظم دورها على حساب الهوية الوطنية الجامعة، لكن هذا لا يعني من ان القوى الإقليمية لازالت تتعامل مع العراق بحذر شديد وخوف من تعاظم دوره من جديد والعودة لطموحاته السابقة، بالتالي تعمل القوى الإقليمية على تأكيد فكرة بقاء العراق موحد ضعيف حتى افضل من ان يكون مقسم قوي كل قسم تدعمه قوة على حساب الأخرى لينتج صراع جديد داخله على الموارد
فكرة احتلال العراق والقرارات الصادرة من قبل الحاكم المدني آنذاك "بول بريمير" كانت كفيلة من ان يكون خالِ من محتواه السياسي العسكري والاقتصادي والأمني والأخطر من كل هذا فكرة اضعاف بنيانه الاجتماعي مما أنتج حالات خطيرة وغريبة انعكست على سياسته الداخلية المتسمة بالفوضوية والغير مستقرة وفي كافة المجالات، ان عملية الاحتلال كان لها الدور في ان تكون لدول إقليم العراق وجواره بشكل خاص اليد الطولى في تحديد مستويات العمل داخله من خلال قضيتين الأولى الدعم المستمر للأحزاب والشخصيات ضمن هوياتهم الدينية والطائفية والقومية من خلال رسم سياسة حزبية ثابتة تؤشر دور الهوية الفرعية فيها، والثاني التدخل المباشر في رسم السياسة العراقية الداخلية وصنعها بشكل عام، التي بالضرورة اثرت بشكل كبير على سياسته الخارجية وتعاملاته مع الدول كلٌ وفق ما تراه مناسباً لمصالحها داخله، بهذه الطريقة تم اضعاف النظام السياسي العراقي الذي تحول إلى مشروع اجندات إقليمية بعد غياب القرار السيادي العراقي المساعد في تحقيق المصلحة العراقية.
السؤال هنا كيف يتعامل العراق مع الطموحات الإقليمية الداعية إلى ابقائه ضمن خطة التابع والمتبوع؟، هنا لابد من تقسيم العمل الحكومي الذي يدور في اطار عمل الدولة ككل من خلال تحديد عناصر التعامل وضروراته، خصوصاً وان الرقعة الجغرافية التي تضمن العراق هي من نقاط العالم المهمة التي تدار فيها عدة قضايا ثابتة في العقل الاستراتيجي للقوى الكبرى، لذلك فان العراق تاريخياً وبالرغم من انه محط انظار وتأثير القوى عليه، فان مشكلته الأكبر هو التضارب في سياستيه الداخلية والخارجية بالإضافة إلى سيكولوجية صانع القرار والمعتقدات والانساق وطريقة التفكير بالإضافة للسلوك الفردي والجماعي في عملية اتخاذ القرار كانت عامل ضعف له، إلى جانب ان الوحدة القرارية العراقية تتأثر بمحيطها الإقليمي على الدوام سواء كان العربي او غير العربي، فكل نظام سياسي قبل العام 2003 وبعده يخلق مجموعة من المنافسين والاعداء والأصدقاء كل من هذه المجاميع يتعامل معها وفق انساق وقيم صانع القرار وايديولوجيته بأوجه مختلفة مما يعمل على ان يكون قراره متناسق مع مجموعة الأصدقاء المسيطرين او بالأحرى المهيمنين اما على التفكير او على سلوك إدارة الدولة، بالمحصلة فأن واقع العمل السياسي العراقي لا بد من ان يكون صانع القرار جاد في دراسة حال الواقع الإقليمي بمعزل عن التجاذبات والميول من خلال عملية التجرد من أي مؤثرات خارجية في سبيل اتخاذ قرار عراقي خالص.
بالتالي لابد من أتباع خطوات أساسية يمكن ان تُحقق التقارب والاندماج مع المحيط الإقليمي دون الركون لعوامل الانجذاب والتخندقات الداخلية المؤثرة على السياسة الخارجية، والذهاب صوب العمل على أن تكون المصلحة الوطنية الهدف الأسمى والتي لابد ان تصبح من بديهيات العمل السياسي والدبلوماسي، وهي بالطرق التالية:
1- استثمار التنوع الداخلي (الديني – القومي – المذهبي – الاثني) كمصدر قوة يدفع باتجاه مسارات التعايش السلمي، وربطها بأسس التواصل الثقافي والحضاري مع الأمم والشعوب بما يتلائم مع حفظ الحريات والحقوق واحترام الاخر.
2- ايمان صانع القرار العراقي والمشاركين بالعمل السياسي من أحزاب ومنظمات وشخصيات بمكانة العراق الإقليمية والدولية والعمل الجاد على تعزيزها وتفعيل دورها من خلال عمله الدبلوماسي ليكون حلقة وصل بين القوى المتصارعة وتقريب وجهات النظر، وهذا يأتي من خلال الايمان بالدور الذي يخلق أجواء مناسبة لعملية التكامل الاقتصادي والسياسي بناءً على ما يمتلكه من موارد وقدرات مادية وبشرية تساعده في كل ما له علاقة من تعزيز توجهاته الاقتصادية وعملية التبادل بينه وبين الدول وتعزيز مكانته، من خلال تحديد المصالح العليا والاهداف الاستراتيجية التي لا بد من ان تكون من مسلمات العمل الخارجي.
3- العمل على خلق أرضية صلبة لبناء سياسة خارجية مبنية على احترام الاخر وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، ومنع التدخل في شؤونه من أي طرف كان.
4- اتباع سياسة خارجية مبنية على التوازن والاستقرار من خلال رسم دبلوماسية وطنية اساسها التعامل بالمثل ومن منطلق القوة الإيجابية لا على أساس مبدأ القوي والضعيف او التابع والمتبوع في القضايا المهمة التي تمس امن وسلامة العراق (الحدود والمياه والإرهاب) الخ...
5- تفاعل السياسة الخارجية مع الاحداث مهما كانت أهميتها وحجمها، وان تعمل على اثبات وجود العراق كعنصر مساعد ومهم في تذليل العقبات ويأخذ على عاتقه زمام المبادرة والتحرك باتجاهات تؤكد دوره الفاعل على كل الصُعد.
6- العمل المشترك مع دول الجوار والاقليم للحفاظ على الامن الذي بدوره عامل مؤثر سواء على الامن الداخلي لكل دولة على مختلف المستويات، والاعتماد على قدرة الدولة في سياستها الخارجية التي بدورها تلعب على مساحة جعله بوابه للأشقاء والأصدقاء من خلال طرح المبادرات التسويات الداعية للسلام وضمان الامن.
7- العمل المستمر على ايصال رسائل لدول الجوار والاقليم على ضرورة تفعيل اتفاقيات التعاون المشترك وضرورة إرساء السلام في المنطقة لما لها من أهمية سياسية واجتماعية، وتفعيل التعاون العسكري واللوجستي في محاربة الإرهاب ومنع الاعتداء بين الدول ومغادرة توازن القوى الهش والغير مستقر في المنطقة.
8- استثمار المحافل الدولية والإقليمية لطرح المشاريع التي تساعد العراق على ان يكون طرفاً إقليميا ودولياً ولاعباً اساسياً في مبادرات فرض الامن ومحاربة التطرف خصوصاً وهو اليوم يمتلك من الخبرة في مكافحة التطرف ما تؤهله ان يكون محور هذا العمل على اقل تقدير.
9- اللعب على ما يمتلكه من الطاقة التي تعد بالضرورة مصدراً اساسياً لجذب القوى الدولية والإقليمية لما يصب في مصلحتها في هذا الجانب، وبما ان المنطقة تعاني من مشكلة الهاجس الأمني والاضطرابات التي أنهكت سياساتها الأمنية والاقتصادية، بالتالي فان العراق لابد من توجيه سياسته في مجال الطاقة لتكون ضمان الامن الداخلي وحتى الخارجي بعد ان يتجه صوب ثنائية الطاقة والحماية، واستغلال الطاقة لخلق خيارات مختلفة من العلاقات تأخذ مسارات متعددة.
هذه الخطوات وغيرها لا يمكن تحقيقها إلا إذا تم الترابط بين السياستين الداخلية والخارجية على اعتبار ان الأخيرة امتداد للأولى، وهذا من خلال اتباع إجراءات واتخاذ قرارات وفق منطق عملي مستقر ومتوازن، فالمرحلة القادمة تؤشر ان العراق لا بد ان يسير نحو التفاعل الجاد ضمن دائرته الإقليمية اولاً التي باتت مؤثرة بشكل فعلي على سياساته، ويلعب دوراً في تحديد النقاط التي ينطلق منها نحو تثبيت وجوده، بالتالي فان الأكثر واقعية لما هو قادم ان ينتهج العراق سياسة الحياد الإيجابي والذي يُعد الحل المناسب لعبور مرحلة الشد التي يعيشها اليوم فهي الاسلم والأكثر ضماناً له.