المقال

روسيا وأوكرانيا .. حرب باردة جديدة أم مشهد مكرر؟  

إعداد نجاة عبدالقوى عون

باحثة الماجستير بكلية الدراسات الاقتصادية والعلوم السياسية بجامعة الإسكندرية

مقدمة

بدأت العلاقات الثنائية الحديثة بين روسيا وأوكرانيا رسميًا خلال الحرب العالمية الأولى في الحين الذي كانت فيه الإمبراطورية الروسية السابقة تخوض فترة إصلاحها السياسي.

في عام 1920تغيرت العلاقات الثنائية بين البلدين بسبب احتلال الجيش الأحمر الروسي لأوكرانيا. وفي تسعينيات القرن العشرين، أُعيد إحياء العلاقات الثنائية بين البلدين فور حل الاتحاد السوفييتي، الذي كانت روسيا وأوكرانيا جمهوريتين مؤسستين فيه.

انهارت العلاقات بين البلدين منذ الثورة الأوكرانية عام 2014، تلا ذلك ضم روسيا لشبه جزيرة القرم الأوكرانية، ودعم روسيا المقاتلين الانفصاليين من جمهورية دونيتسك الشعبية وجمهورية لوهانسك الشعبية في حرب أودت بحياة أكثر من 13000 شخص بحلول أوائل عام 2020، وفُرض بسببها العقوبات الغربية على روسيا.[1]

خلفية تاريخية عن العلاقات الروسية الأوكرانية

الروابط التاريخية بين روسيا وأوكرانيا عديدة وعميقة، وكان الروس يُطلقون على أوكرانيا اسم "روسيا الصغرى". وفي بعض الحقب التاريخية كانت العاصمة الأوكرانية كييف هي عاصمة روسيا، ومنها انتقلت المسيحية الأرثوذكسية إلى روسيا في القرن التاسع الميلادي.

في القرن التاسع عشر اتّحدت روسيا مع أوكرانيا، وفي القرن العشرين أسّست روسيا الاتحاد السوفيتي، وكانت أوكرانيا أبرز جمهوريّاته. [2]

في عام 1991، كانت أوكرانيا وروسيا، من بين الجمهوريات التي دقت المسمار الأخير في نعش الاتحاد السوفييتي. غير أن موسكو أرادت الاحتفاظ بنفوذها، عن طريق تأسيس رابطة الدول المستقلة (جي يو إس). كان الكرملين يظن وقتها أن بإمكانه السيطرة على أوكرانيا من خلال شحنات الغاز الرخيص. لكن ذلك لم يحدث. فبينما تمكنت روسيا من بناء تحالف وثيق مع بيلاروسيا، كانت عيون أوكرانيا مسلطة دائماً على الغرب.

في عام 1997 اعترفت موسكو رسمياً من خلال ما يسمى بـ"العقد الكبير" بحدود أوكرانيا، بما فيها شبه جزيرة القرم، التي تقطنها غالبية ناطقة بالروسية.

في عام 1991، كانت أوكرانيا وروسيا، من بين الجمهوريات التي دقت المسمار الأخير في نعش الاتحاد السوفييتي. غير أن موسكو أرادت الاحتفاظ بنفوذها، عن طريق تأسيس رابطة الدول المستقلة (جي يو إس). كان الكرملين يظن وقتها أن بإمكانه السيطرة على أوكرانيا من خلال شحنات الغاز الرخيص. لكن ذلك لم يحدث. فبينما تمكنت روسيا من بناء تحالف وثيق مع بيلاروسيا، كانت عيون أوكرانيا مسلطة دائماً على الغرب.

في عام 1997 اعترفت موسكو رسمياً من خلال ما يسمى بـ"العقد الكبير" بحدود أوكرانيا، بما فيها شبه جزيرة القرم، التي تقطنها غالبية ناطقة بالروسية.

صدع في الصداقة

شهدت موسكو وكييف أول أزمة دبلوماسية كبيرة بينهما في عهد فلاديمير بوتين. ففي عام 2003، بدأت روسيا بشكل مفاجئ في بناء سد في مضيق كريتش باتجاه جزيرة "كوسا توسلا" الأوكرانية. كييف اعتبرت ذلك محاولة لإعادة ترسيم حدود جديدة بين البلدين. ازدادت حدة الصراع، ولم يتم وضع حد له إلا بعد لقاء ثنائي بين الرئيسين الروسي والأوكراني. عقب ذلك أوقف بناء السد، لكن الصداقة المعلنة بين البلدين بدأت تظهر تشققات.

أثناء الانتخابات الرئاسية في أوكرانيا عام 2004، دعمت روسيا بشكل كبير المرشح المقرب منها، فيكتور يانوكوفيتش، إلا أن "الثورة البرتقالية" حالت دون فوزه المبني على التزوير، وفاز بدلاً منه السياسي القريب من الغرب، فيكتور يوشتشينكو. خلال فترته الرئاسية قطعت روسيا إمدادات الغاز عن البلاد مرتين، في عامي 2006 و2009. كما قُطعت أيضاً إمدادات الغاز إلى أوروبا المارة عبر أوكرانيا.

وفي عام 2008، حاول الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش، إدماج أوكرانيا وجورجيا في حلف الناتو، وقبول عضويتهما ولكن قوبل ذلك باحتجاج بوتين، وموسكو أعلنت بشكل واضح أنها لن تقبل الاستقلال التام لأوكرانيا. حالتا فرنسا وألمانيا دون تنفيذ بوش لخطته. وأثناء قمة الناتو في بوخارست تم طرح مسألة عضوية أوكرانيا وجورجيا، ولكن لم يتم تحديد موعد لذلك.

ولأن مسألة الانضمام للناتو لم تنجح، حاولت أوكرانيا الارتباط بالغرب من خلال اتفاقية تعاون مع الاتحاد الأوروبي. ففي عام 2013، بعد أشهر قليلة من توقيع الاتفاقية، مارست موسكو ضغوطاً  اقتصادية هائلة على كييف وضيّقت على الواردات إلى أوكرانيا. على خلفية ذلك، جمّدت حكومة الرئيس الأسبق يانوكوفيتش الاتفاقية، وانطلقت بسبب ذلك احتجاجات معارضة للقرار، أدت لفراره إلى روسيا في فبراير عام 2014.

ضم القرم.. علامة فارقة

استغل الكرملين فراغ السلطة في كييف من أجل ضم القرم في عام 2014. كانت هذه علامة فارقة وبداية لحرب غير معلنة. وفي نفس الوقت، بدأت قوات روسية شبه عسكرية في حشد منطقة الدونباس الغنية بالفحم شرقي أوكرانيا من أجل انتفاضة. كما أعلنت جمهوريتان شعبيتان في دونيتسك ولوهانسك، يترأسهما روس. أما الحكومة في كييف، فقد انتظرت حتى انتهاء الانتخابات الرئاسية في مايو 2014، لتطلق عملية عسكرية كبرى أسمتها "حرباً على الإرهاب".

في يونيو من نفس العام، التقى الرئيس الأوكراني بيترو بوروشينكو، وبوتين لأول مرة بوساطة ألمانية وفرنسية وخلال هذا الاجتماع وُلدت ما تسمى بـ"صيغة نورماندي".

في ذلك الوقت كان بإمكان الجيش الأوكراني دحر الانفصاليين، إلا أنه في نهاية أغسطس، تدخلت روسيا بشكل هائل عسكرياً. وانتهت الحرب في سبتمبر بتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار في مينسك.

الحرب بالوكالة في دونباس

بعد الاتفاق، تحول الصراع إلى حرب بالوكالة تدور رحاها حتى اليوم. ففي عام 2015، شن الانفصاليون هجوماً، زعمت كييف أنه كان مدعوماً بقوات روسية لا تحمل شارات تعريف، وهو ما نفته موسكو. هزمت القوات الأوكرانية مرة ثانية جراء هذا الهجوم، وذلك في مدينة ديبالتسيفي الاستراتيجية، والتي اضطر الجيش الأوكراني للتخلي عنها بشكل أشبه بالهروب. آنذاك تم الاتفاق على "مينسك 2"، وهي اتفاقية تشكل إلى اليوم أساس محاولات إحلال السلام، وما تزال بنودها لم تنفذ بالكامل بعد.

في عام 2019 كان هناك بصيص أمل، إذ تم إحراز نجاح في سحب جنود من الجهتين المتحاربتين من بعض مناطق المواجهة. لكن منذ قمة النورماندي التي عُقدت في باريس في ديسمبر 2019، لم تحدث أي لقاءات. بوتين لا يرغب في لقاء شخصي مع الرئيس الأوكراني الحالي، فلودوميرزيلينسكي، لأنه لا يلتزم باتفاق مينسك. ومنذ ديسمبر 2021، يطلب الرئيس الروسي بشكل علني من الولايات المتحدة ألا تسمح بانضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو أو تتلقى مساعدات عسكرية. لكن الحلف لم يرضخ لهذه المطالب.[1]

أوكرانيا رأس حربة أمريكا والناتو ضد روسيا

اتجهت الولايات المتحدة الأمريكية والناتو إلى توسيع نطاق نفوذهما في منطقة البحر الأسود. وفى المقابل، حاولت أوكرانيا استغلال هذه المساعى فى استقطاب الدعم الغربى في الإقليم لمواجهة روسيا، وكلا الموقفين السابقين يصطدمان بسياسة روسيا التى لا تسمح بالمساس بمصالحها الإقليمية وخاصة من قبل منافسيها. وفى هذا الإطار، تعددت الأبعاد التى عبرت عنها الأزمة الأوكرانية، والتى يمكن توضيحها فيما يلي:

1- العلاقات العسكرية الأوكرانية- الغربية: شهدت العلاقات الأوكرانية الخارجية مؤخراً تطوراً شمل تعميق الشراكة الإستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية والغرب، حيث أعلن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين ووزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا في واشنطن عقد اتفاق استراتيجى بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوكرانيا، ووعدا بمواصلة تعميق التعاون الثنائي في المجالات السياسية والأمنية والدفاعية والاقتصادية والطاقة.

كما أكد الاتفاق مجدداً التزام الولايات المتحدة الأمريكية بسيادة أوكرانيا وسلامة أراضيها، بما في ذلك شبه جزيرة القرم في مواجهة "العدوان الروسي المستمر" كجزء من التعاون الأمني والدفاعي. والجدير بالذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية باعت بالفعل أسلحة، مثل صواريخ جافلين المضادة للدبابات إلى أوكرانيا. بالإضافة إلى ذلك، قدمت تركيا إلى أوكرانيا طائرات جوية قتالية بدون طيار، 

والتي يتم استخدامها ضد المتمردين المدعومين من روسيا. كما عزز الناتو وجوده وأجرى تدريبات بحرية في البحر الأسود مع الجيش الأوكراني، وهو ما أثار حفيظة روسيا.

2- الجيش الأوكراني والانفصاليون المدعومون من روسيا: اندلعت مظاهرات واحتجاجات واسعة أعقبت انضمام القرم وميناء سيفاستوبول إلى روسيا، وتطورت التوترات إلى نزاع مسلح بين القوات الانفصالية المدعومة من روسيا في دونيتسك ولوجانسك الشعبية والجيش الأوكراني، وظهرت الكثير من المعلومات التى تشير إلى أن القادة الرئيسيين لحركة التمرد خلال بداية النزاع، بمن فيهم إيغور ستريلكوف وإيغور بيزلر، كانوا عملاء روسيين، بالاضافة إلى ذلك كان رئيس وزراء جمهورية دونيتسك الشعبية ألكسندر بوروداي يحمل الجنسية الروسية، وأصبح المتطوعون الروس يشكلون الجزء الكبير من المقاتلين. وعلى الجانب الآخر، استخدم الجيش الأوكراني طائرات تركية من دون طيار ضد القوات المدعومة من روسيا في شرقي أوكرانيا، كما حلقت قاذفتان أمريكيتان قادرتان على حمل قنابل نووية قرب شبه جزيرة القرم، وربما تؤكد هذه التطورات ما أثير حول مساعي روسيا لضم المزيد من الجنوب المطل على البحر الأسود.

3- السياسة العسكرية الروسية تجاه الحزام الإقليمى: تنظر روسيا إلى الجمهوريات السوفيتية السابقة كجزء لا يتجزأ من حزامها الاقليمي الأمني، وتتبع هناك سياسة عسكرية وأمنية تشمل إثارة النزعات الانفصالية، على نحو يوفر لها فرصة للتدخل باستدعاء من الانفصاليين وبرز ذلك بشكل واضح في القرم وجورجيا.

4- التحركات الغربية في الإقليم: رأت روسيا أن التدريبات الأمريكية بالقاذفات الاستراتيجية القادرة على حمل قنابل نووية والتي حلّقت فوق البحر الأسود بمثابة تهديد لها، إلى جانب أنظمة الدفاع الصاروخي الأمريكية في بولندا ورومانيا، كما برزت تهديدات باحتمال نشر الناتو صواريخ على الأراضي الأوكرانية.

وفي هذا الإطار، فإن ثبات السياسة الروسية تجاه الموقف الأوكرانى تبرر التمسك بتواجد الحشود العسكرية التي وضعتها على الحدود الأوكرانية.

السيناريوهات المتوقعة للصراع الروسى الأوكرانى

تتجه الأزمة في التوقيت الحالى إلى أحد مسارين:

الأول: التصعيد.

تشير التوقعات العسكرية الأخيرة إلى أن روسيا تتجه إلى شن هجوم عسكري ضد أوكرانيا في وقت قريب بعدد من القوات يفوق المئة ألف جندي، ويكون ذلك خلال شن هجمات مفاجئة لروسيا على الحدود الأوكرانية، وفى المقابل تسعى أوكرانيا للانضمام لحلف الناتو والسماح له بحشد قواته وإنشاء قواعده فوق أراضيها بهدف تهديد الأمن القومى الروسى. ومن المتوقع أنه إذا غزت روسيا أوكرانيا فإنها ستعتمد على تكتيك قتال يهدف إلى إجبار القوات الأوكرانية على القتال على جبهات متعددة حتى لا تستطيع أوكرانيا الاستمرار في المواجهة وتستسلم.

على جانب آخر، تشير التوقعات إلى عدم إنخراط حلف الناتو في حرب مباشرة مع روسيا في حال غزوها لأوكرانيا، لأن حلف الناتو ليس لديه العدد الكافى من القوات ليردع به روسيا، وفيما يتعلق بموقف الولايات المتحدة فالرهان الروسى على أن انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان يشير إلى عدم رغبتها في التدخلات العسكرية ليس دقيقا لأن الموقف الأمريكي دوما قابل للتغيير.

تشير بعض التوقعات إلى إمكانية إندلاع حرب عالمية ثالثة إذا غزت روسيا أوكرانيا ولكن هذا الاحتمال ضعيف.

الثانى: التهدئة

بدت مؤشرات التهدئة فى:

1-القمة المغلقة التي انعقدت بين الرئيسين بوتين وبايدن وأسفرت عن إجراء اتصالات بين الأطراف المعنية بالأزمة. لقد حملت هذه القمة مؤشرات على تمسك الطرفين بموقفهما، ولكن الولايات المتحدة تسعى رغم ذلك إلى إيجاد حلول دبلوماسية حيث تعمل في هذا الملف وفقا لسياسة الترغيب والترهيب، حيث أشارت إلى أن الرد في حالة الغزو سيكون من خلال فرض عقوبات اقتصادية على روسيا وتقديم مساعدات عسكرية لأوكرانيا بالاضافة إلى مواصلة الوجود العسكري الأمريكي على الجانب الشرقي لحلف الناتو.

2-إن روسيا لم تعترض مطلقا على بحث وضع القرم مع أوكرانيا أو مع الغرب وهناك حديث عن إمكانية إعطاء شكل من أشكال الحكم الذاتي في القرم ودونباس.

3-تسعى الولايات المتحدة الأمريكية حالياً إلى الضغط على أوكرانيا بقبول قدر من الحكم الذاتي فى دونباس التي تخضع فعلياً لسيطرة الانفصاليين المدعومين من روسيا ولكن هذا الحل قد يتسبب فى العديد من الصراعات الداخلية ويقدم مبرراً إضافياً لتدخل روسيا.

4-وجود تصريحات حول إمكانية عقد لقاء بين الرئيس الروسى والأوكرانى في دونباس وهذا يدل على أن هناك اتصالات سرية تجرى بين الغرب وروسيا تدفع للمضى قدما نحو المفاوضات.

5-إن تخوف الغرب وروسيا من حدوث ماهو أخطر يجعلهم على قناعة بوجوب التفاوض.

6-يحمل الحشد الروسي على الحدود الأوكرانية رسائل نوعية للضغط السياسي على أوكرانيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لوقف التدخل في مناطق النفوذ الروسية.

7-تمسك الرئيس بوتين بضرورة قيام الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها بتقديم تأكيدات موقعة تستبعد أي توسع لحلف الناتو ليشمل أوكرانيا وجورجيا وتحد من النشاط العسكري بالقرب من حدود روسيا، واستجابت الولايات المتحدة الأمريكية وقامت بإجراء اتصالات مع أطراف الأزمة وأشارت إلى استبعاد ضم أوكرانيا لحلف الناتو خلال العقد القادم، وستظل استمرارية الاتصالات مؤشراً إيجابياً رغم ضعفه، إلا أنه يوضع في الاعتبار وذلك لاحتمالية تأثيره على مسار الصراع.

وفي النهاية، من المتوقع استمرار التواجد الروسي على الحدود وزيادة الدعم العسكري الغربي والأمريكي لأوكرانيا مع استمرار المباحثات والاتصالات بين الأطراف، إلى أن يتنازل أحد الأطراف عن موقفه مقابل الحصول على بعض الامتيازات، وإلا فالصدام سيكون قادماً لا محالة.

 


دور الأحزاب المنشقة عن حزب العدالة والتنمية في تعميق المعارضة التركية
دور الأحزاب المنشقة عن حزب العدالة والتنمية في تعميق المعارضة التركية