قد لا نختلف ان النظريات التي وردت من قبل المفكرين في السياسة الخارجية بالمجمل تتحدث عن كيان واحد وما له وما عليه هذا الكيان حددته بالدولة من خلال العلاقات التعاونية والتنافسية وقراءة السياقات التاريخية واسقاطها على مجموعة من احداث الحاضر محاولة من خلال هذا الربط ان تسعف الفكر بشيء من التبصر فيما يخص السياسة الدولية برمتها، وبالرغم من التعارض والتضارب في الآراء فيما ينطلق منها من أفكار وهذا امر طبيعي إذا ما اردنا ان نتحدث ونحلل التغييرات الحاصلة في النظام الدولي وقراءة المراحل التي تجعل من هذا النظام سريع التحول تتخذ قراراته وترسم خرائطه وفق متبنيات عالمية ومن خلال علاقة القوى العالمية فيما بينها، لكن هذا لا يعني انها في كثير من الأحيان تبتعد عن الحقيقة من خلال دراسة التجارب التاريخية واسقاطها على الواقع العالمي الحالي وما يمر به من مراحل متعددة التي باتت من وجهة نظر العديد من المنظرين تحولات سريعة وغير مقروءة سيما وان عناصر النظام باتت في تبدل مستمر وتحول دائم، بالإضافة إلى بزوغ فجر قوى ليس بالضرورة تدفع في جوانب أساسية قد تناولتها هذه النظريات، خصوصاً وان هذا العالم سواء كانت دولة واحدة او عدة دول او فواعل من غير الدول كلها تتمحور حول العقل والتدبير والتخطيط والتحديث والتطوير، وكلها بالنتيجة تبحث في عملية التجديد في المفاهيم وتزويقها والتي تصب اساساً بالهيمنة والسيطرة والغلبة لهذا الفريق على ذاك.
نجد في العديد من الازمات والتحديات ومراحل التغيير انها تفتقر للدراسة المعمقة تحديداً دراسة الفواعل الأساسية فيه، واغلب النظريات تتحدث عن الميول الفكرية والعقدية للمنظر وللفريق المؤيد للنظرية والعمل على الخروج بنتائج قدر الإمكان تكون قريبة من قناعات الجهة او المدرسة التي ينتمي لها الباحث او المنظر او المفكر، لكن الذي من الممكن ان نركز عليه في هذا الجانب ان هذه النظريات تفتقر إلى التفسير العميق للمحركات الدولية او كما يعيب عليها الكثيرين فهي تفتقر للتنبؤ وتكتفي بوصف الحالة وتحليلها وفق الاحداث والمركبات التي تهيمن على الساحة في مرحلة ما.
- المدرسة المثالية
تصر على ان تكون الاخلاق أساس التعامل بين الدول ووفق قواعد القانون الدولي بالرغم من ان انصار هذه النظرية على علم بان الصيغ الردعية في هذا القانون لا يمنع الدول من الاعتداء خصوصاً اذا كانت الدولة عالمية وتتحكم بالقرار الدولي او قوى تمتلك جوانب القوة التي باستطاعتها ان تصد أي عقوبة او ردع يصدر في حقها، أيضاً يعلم انصار ومنظري هذه النظرية ان العلاقة بين الدول هي علاقة مصلحة بالرغم من التعاون الذي قد يطغى على العلاقة إلا ان المصلحة والانانية التي تعمل بها الدولة تبقى هي المحرك لعمل الدولة في علاقاتها مع الدول، هذا إلى جانب الضغوطات التي تمارسها المؤسسات الدولية الاقتصادية التي تخلو من أي مثالية أخلاقية في التعامل، وحتى وان انطلقت من سلوك الدولة فالدولة بالنتيجة هي محصلة سلوك الافراد والجماعات البشرية المكونة لها، والبحث عن مصالح هذه الجماعة او تلك بالضرورة تصبح الانانية واستغلال الفرص واحداً من العوامل المساعدة على تحقيق الهدف وهذا بالتأكيد قد يدفع الدولة إلى التضحية بسلوكيات الاخلاق والقانون الدولي في سبيل أهدافها المرجوة، فإذا اردنا ان بحث في القوانين التي تتحدث عنها هذه المدرسة التي تلزم الدول في تطبيقها فأنها قوانين تطبق على الدول المتوسطة والصغير، وعليه فان قضية الاخلاق والقانون الدولي لا تزال تتحكم في عناصره واركانه القوى الكبرى والدليل الحروب والاحتلالات والصراعات على الهيمنة والنفوذ لاتزال قائمة بعيدة عن الاخلاق والقانون الدولي، فعلى سبيل المثال بعد الحرب الباردة لم تتوانى الولايات المتحدة من اعادة سياسة الاحتواء للمناطق التي كانت تحت السيطرة السوفيتية ولن تعتمد على السلوكيات الأخلاقية تحديداً في منطقة البلقان وعمليات التدخل في البوسنة والهرسك 1995 وكوسوفو 1999 التي ابتعدت حتى عن تفويض الأمم المتحدة ورافق هذه التدخلات إبادة جماعية (سربينيتشا) وتهجير قسري ومفقودين الخ....، بالتالي كانت النظرية الأخلاقية او القانونية هي مثالية في طرحها التي وصفت واقعاً دولياً بعيداً عن عناصرها التي طرحتها، من ثم احتلال العراق وعملية تدمير الدولة واضمحلالها، هذا إلى جانب السياسات البعيدة عن وقع الرصاص والصواريخ العابرة للقارات فقد تم استخدام سياسات اقتصادية خطير ساهمت في إفقار الشعوب كسياسة الصدمة الاقتصادية التي تبناها انصار (مدرسة شيكاغو) التي تعتمد على أفكار "ميلتون فريدمان" المرشد لحركة الرأسمالية غير المقيدة، وكانت الارجنتين وتشيلي والبرازيل خير دليل على فظاعة الخصخصة التي قادها انصار هذه المدرسة، وحتى بعد انتهاء الحرب الباردة لم تكن أطروحة صراع الحضارات وتقاتلها تنبؤ يدل على ان القوة الأكبر في العالم تعتمد على توقعات ونتائج وفق قياسات النظر للجانب الاخر وتوقع تحركاته بقدر ما كانت فكرة إيجاد العدو واحدة من اساسيات السياسة العالمية الامريكية ولغاية اليوم، فمفهوم الحضارة الإسلامية والتشدد الإسلامي المتمثل بالجماعات المسلحة المتطرفة ليس بجديد عن تحركات السياسة الخارجية الأمريكية والروسية اللتان هما من ساعدا تلك التنظيمات على النهوض، ولم تتوان أمريكا من دعم وتسليح هذه الجماعات التي كان يطلق عليها (ميليشيات ريغان) واستمر الحال إلى احداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وصولاً للحرب على الإرهاب، كل هذه الاحداث والوقائع جاءت منافية للأخلاق والمثل الجميلة التي تتحدث عنها هذه المدرسة التي كما ذكرنا لا تعد سوى نظرية تحمل املاً كبيراً عسى ان يتغير سوك الدول والنظام بشكل كامل
- المدرسة الواقعية.
نعم شهدت تطوراً في الغالب بين أفكار المنظرين الأوائل وبين الحاليين وهناك بعض الاختلافات بين الواقعية الكلاسيكية والبنيوية ومن ثم الدفاعية والهجومية، وعند دراسة أفكار هذه المدرسة بدقة عالية يتم التركيز في اغلب كتب المنظرين والباحثين على تلك الوقائع التاريخية التي لا تزال بعض الأدوات المستخدمة تستخدم ليومنا هذا، فالقوة التي هي أساس العلاقة بين الدول تعد من بديهيات الدولة التي تحاول ان تكون الأولى في السيطرة والنفوذ، والسعي لتعظيم هذه القوة يتطلب الانطلاق من معايير تعزز هذه القوة التي اساس استخدامها هو تحقيق المصلحة، وإذا كانت هذه المدرسة هي ردة فعل على الأفكار المثالية فإننا نجد ان أفكار هذه المدرسة سابقة لكل النظريات التي تتحدث عن ضرورة امتلاك الدولة او الجماعة للقوة الكافية ابتداءً من حماية رقعتها الجغرافية انتهاءً بعوامل التمدد وبسط النفوذ، مع ذلك نجد ان مؤيدي هذه العلاقة قد راحوا ابعد من ذلك عندما تحدثوا عن قوة صلبة وناعمة وذكية وكل نوع من أنواع القوى هذه تعمل وفق نسق مختلق على حد تعبيرهم لكن إذا ما اردنا ان نسلط الضوء على تأثير ونتائج لكل منها نجد ان وقعها كبير على الأمم والشعوب سواء كان سياسياً او اقتصادياً او عسكرياً ولكل نوع ادواته التي تعمل على اضعاف القوى الأخرى او الدول المراد الهيمنة عليها.
من جانب اخر فان هذه المدرسة ركزت على دراسة النوايا وبقيت حبيسة وصف سياسات معادية للولايات المتحدة الامريكية سواء تلك التي تمتلك السلاح النووي والتي لا تستطيع استخدامه خشية ردة الفعل او تلك القوى التي صنفتها أمريكا على انها داعمة للإرهاب وبكل الأحوال فان العمل بالنوايا يكون منقوصاً وغير فعال إلا إذا كان هذا العمل ينحصر في زاوية الحجة من اجل التدخل، القضية الأخرى هي الديمقراطية التي يعرفها الجميع حتى ان "جون مير شايمر" يذكر في كتابه (مأساة سياسة القوى العظمى) ان انصار نظرية السلام الديمقراطي الذين يؤكدون على ان الدول الديمقراطية لا تحارب دولاً ديمقراطية، بالتالي راح يؤكد ان هذه الفكرة تم دحضها عند دراسة السجل التاريخي من خلال استشهاده بتحليل "كريستوفر لاين" الذي عرض اربع أزمات كادت من خلالها الدول الديمقراطية ان تدخل في حروب، بالمحصلة فان النتائج التي تم التوصل لها من قبل منظري هذه المدرسة مبنية على احداث تاريخية ايضاً وفق سياقات تم تناولها ودراستها بشكل مستفيض، لكننا لم نجد أي تركيز على مستقبل استخدام القوة بين هذه الدول الديمقراطية، واذا ما قرئنا بعمق كتاب "جون شايمر" سنجد ان فكرة التنبؤ بالأحداث بعيدة على الأقل في دراسة احداث من واقع النظام الدولي وتم التركيز على تحليل الازمات والتحديات واسقاطها على الحاضر.
ان هاتين النظريتان والنظريات الأخرى تحتوي على مجموعة من الأفكار الخاضعة للسرد والوصف والتي تم جمعها لتخضع للمنطق العلمي والأكاديمي الذي راح يشذب بعض الجوانب الأساسية والمتعلقة بالدرجة الأولى بالدولة وادواتها وردات فعلها، واغلب الكتابات اليوم تُعنى بشرح هذه النظريات والمدارس التي تفتقر بعض الشيء لإعطاء نتائج مستقبلية، بالتالي نجد ان العديد من الأفكار التي تحويها هذه المارس بقيت حبيسة الكتب والطروحات الفكرية والفلسفية لهذه المدرسة او تلك.
نجد ان العاملين في السياسية سواء كانوا في قلب السلطة او من المنظرين في هذا المجال يتناولون كل القضايا الدولية بناءً على معطيات الاحداث ورؤية مبنية على التحليل والتوقع الذي قد يصيب او يخيب، لكن كل مدرسة تختلف عن الأخرى من خلال عملية تسويق الأفكار وتطبيقها ودمجها في جوانب علمية وعملية بصورة تتناسب وفلسفة المدرسة وطرحها.