دبلوماسية الحبوب
لماذا تسعى أنقرة إلى إنشاء ممر بحري لتصدير الحبوب الأوكرانية؟
كرم سعيد
خبير الشؤون الإقليمية-مساعد رئيس تحرير مجلة الديمقراطية/الأهرام
ساهم تفاقم أزمة الغذاء التي أفرزتها تداعيات الحرب الأوكرانية، وفي الصدارة منها تراجع صادرات كييف من القمح والذرة وزيت عباد الشمس، على سلاسل إمدادات الغذاء في العالم، وبخاصة تركيا. غير أن هذه الأزمة فتحت الباب أمام دور دبلوماسي جديد لتركيا، من خلال القيام بمهام الوسيط لنقل الحبوب من الموانئ الأوكرانية عبر أراضيها إلى الأسواق الخارجية. وكان وزير الدفاع التركي خلوصي آكار قد أعلن في 7 حزيران الحالي أن بلاده تسعى لإنشاء ممر تجاري آمن في البحر الأسود لنقل الحبوب من أوكرانيا إلى العالم مروراً بالمضائق التركية. ويعتمد المقترح التركي الذي يحظى بدعم أطراف الصراع وعدد واسع من القوى الدولية والإقليمية، على إنشاء ممر تجاري بحري يتيح نقل الحبوب والقمح من أماكن تخزينه في مناطق القتال بأوكرانيا إلى موانئ تركيا "البوسفور والدردنيل" المطلة على البحر الأسود وتأمين عبورها وصولاً إلى البحر المتوسط ومنه إلى مناطق التوريد حول العالم.
ملامح الأزمة
أدى تصاعد حدة الأزمة الأوكرانية، وفشل الجهود لوقف الصراع العسكري بين موسكو وكييف إلى اضطراب كبير في أسواق الحبوب العالمية؛ مما أثار مخاوف بشأن أزمة غذاء عالمية، حيث تعتمد تركيا، وغيرها من الدول في أفريقيا وآسيا على وراداتها من الحبوب الأوكرانية والروسية. ويشار إلى أن كل من روسيا وأوكرانيا ساهمت بنحو (21%) من صادرات القمح عالمياً في العام 2021، فيما استحوذت أوكرانيا على أكثر من (11%) من إجمالي الصادرات العالمية من الذرة في العام نفسه، غير أن العمليات العسكرية في أوكرانيا، والتي بدأت في شباط الماضي، أدت إلى صعوبة نقل شحنات الحبوب، ومن ثم تعطيل إمدادات الدولتين لأسواق الاستهلاك، بسبب العمليات العسكرية وصعوبات نقل شحنات الحبوب.
وتفاقمت حدة الأزمة، مع تعطيل عمليات شحن الصادرت الأوكرانية عبر موانئ بالبحر الأسود بسبب زراعة الألغام البحرية في الموانئ الأوكرانية، ومحاصرة القوات الروسية المنافذ الرئيسة لأوكرانيا ناهيك عن أن البنية التحتية للسكك الحديدية في كييف لا تتمتع بالكفاءة اللازمة لنقل شحنات المحاصيل الزراعية إلى الدول المجاورة، ومنها إلى أسواق التصدير.
في هذا السياق بدأت التحركات التركية لمحاولة تجاوز معضلة نقل الحبوب الأوكرانية، وفي هذا الإطار، جاءت زيارة وزير الخارجية الروسي "سيرجي لافروف" إلى تركيا في 8 حزيران 2021 برفقة فريق عسكري بحري؛ لبحث خطط استئناف صادرات الحبوب من أوكرانيا عبر فتح ممر آمن. وينبغي الإشارة إلى أن الحرب عطلت أيضًا زراعة القمح في أوكرانيا؛ مما سيؤثر على موسم الحصاد التالي. ومن المتوقع أن يصل حصاد القمح الشتوي في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة الأوكرانية إلى 20.1 مليون طن، بانخفاض عن حوالي 32.2 مليون طن عن العام الماضي.
دوافع متنوعة
ثمة العديد من الاعتبارات التي تدفع أنقرة إلى تمرير فكرة الممر الآمن للحبوب الأوكرانية، وهو ما يمكن بيانه كالتالي:
تقليص التبعات الاقتصادية السلبية على الاقتصاد التركي: عمّقت الحرب الروسية - الأوكرانية من التحديات الاقتصادية التي تواجه تركيا بسبب الزيادات الحادة في أسعار السلع الغذائية الأساسية، وبخاصة الحبوب، حيث تأتي أوكرانيا في المرتبة الثانية بعد موسكو في ورادات الحبوب لتركيا، ووفقاً لبيانات وزارة التجارة التركية تستورد تركيا نحو (22%) من واردات القمح من أوكرانيا.
أدى تصاعد حدة أزمة صادرات أوكرانيا من الحبوب، إلى ارتفاع مستويات التضخم في تركيا لتصل إلى نحو (70%) بنهاية مايو الماضي، كما تعرضت سلاسل إمداد الغذاء لمزيد من العجز الهيكلي الذي كان قائماً بالفعل، وارتفعت الزيادة في تضخم أسعار الغذاء لتصل إلى (13%) بنهاية مايو الماضي، و (107%) في الأثني عشر شهراً الماضية. لذا، فإن نجاحات تركيا في تسهيل صادرات الحبوب الأوكرانية عبر مضائقها، يمنحها أريحية في تقليص التبعات الاقتصادية التي أفرزتها الأزمة الأوكرانية على تركيا، وبخاصة في سلاسل توريد الغذاء.
تعزيز الحضور الخارجي: لا تنفصل مساعي تركيا لتمرير فكرة الممر البحري لنقل الصادرات الأوكرانية من الحبوب عن رغبتها في استخدام الحبوب كأداة دبلوماسيةً مهمة في تعزيز حضورها الإقليمي والدولي، وتحييد الضغوط الغربية عليها في الملفات الخلافية. وتعي تركيا أن قيامها بدور الوسيط لتسهيل تصدير المنتجات الزراعية الأوكرانية التي يمثل بعضها أولوية إستراتيجية في أنماط الاستهلاك الغذائي الغربي، وبخاصة الزيوت النباتية، يوفر أجواء ايجابية لترطيب العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، والتي وصلت إلى ذروة التوتر على خلفية تحذير التقرير السنوي للبرلمان الأوروبي 2021، والصادر في 7 حزيران الحالي، من تدهور حقوق الإنسان في تركيا، وأشار إلى تراجع الحريات الأساسية والديمقراطية وسيادة القانون في تركيا، كما شدد التقرير على غياب الإرادة السياسية لتنفيذ الإصلاحات الضرورية.
بالتوازي، فإن أنقرة تدرك أن تحقيق اختراق في أزمة الحبوب الأوكرانية قد يمنحها قدراً أكبر في مواجهة الضغوط الأمريكية، خاصة فيما يخص قضية انضمام فنلندا وبولندا للناتو، وكذلك عدم التزام أنقرة بالعقوبات المفروضة على موسكو. كما أن تمرير الممر البحري، يوفر بيئة خصبة لتصدير صورة مغايرة لتركيا، ويمنحها حضوراً دولياً أكبر، من خلال إرسال رسائل مفادها أن أنقرة لديها الأوراق والقدرة للتأثير في مجريات القضايا العالمية الكبرى، وفي الصدارة منها سلاسل توريد الغذاء العالمي.
ترسيخ الاستفادة من أطراف الصراع: يكشف الطرح التركي لإنشاء ممر بحري لنقل الحبوب الأوكرانية إلى العالم الخارجي، عن محاولة أنقرة استثمار الأزمة لانتزاع مكاسب سياسية واقتصادية من طرفي الحرب، حيث ترى تركيا أن طرحها فكرة الممر الآمن لنقل الحبوب الأوكرانية للخارج بإشراف تركي وضمانات دولية، قد يخفف الضغوط الدولية على روسيا، وهو ما قد يدفع الأخيرة إلى غض الطرف عن توغل عسكري تركي محتمل في شمال سوريا.
في المقابل، فإن نجاحات تركيا في معاونة كييف لتسهيل صادراتها من الحبوب، والتي تمثل عصب الاقتصاد الأوكراني، وأحد المداخيل الأساسية لميزانية حكومة كييف، يمنحها ميزات أكبر عند الحصول على وراداتها الغذائية من أوكرانيا، وبخاصة القمح. ويشار في هذا السياق، إلى أن وزير الزراعة التركي فاهيت كيريستشي، قد ألمح في مطلع حزيران الحالي إلى أن بلاده توصلت مع حكومة كييف إلى اتفاق لشراء الحبوب بأقل من سعر السوق بنسبة (25%)، وهو الأمر الذي انعكس على المزاج العام في الداخل التركي، ولمصلحة حكومة العدالة والتنمية.
تحقيق نصر داخلي: عززت تركيا، في الآونة الأخيرة، من مكانتها في الأزمة الأوكرانية، من خلال التعاطي مع معضلة تصدير الحبوب الأوكرانية، وطرحها نفسها كوسيط لتسهيل نقل المخزون السلعي، وصادرات كييف من الحبوب للخارج، وهو اتجاه يتبناه حزب العدالة والتنمية لتعزيز مكاسبه في الداخل. ويبدو أن هذا التوجه أصبح أولوية مع تراجع الرصيد التقليدي للحزب الحاكم والرئيس التركي في الداخل بسبب تصاعد معدلات التضخم، وخسارة الليرة جانب معتبر من قيمتها "أكثر من 40%". لذلك فأن نخب الحكم في تركيا ترى إنجاز فكرة الممر الآمن لتمرير الحبوب الأوكرانية إلى الأسواق الخارجية عبر تركيا، يمثل فرصة ثمينة يمكن توظيفها في الانتخابات المقرر لها 2023 لضمان البقاء فى السلطة.
ظروف غير مماثلة
عززت تركيا منذ بدء الأزمة الأوكرانية في شباط الماضي، من مكانتها كوسيط مقبول لدى موسكو وكييف، غير أن تدفقات الحبوب الأوكرانية عبر المضايق البحرية التركية قد تواجه العديد من التحديات، أولها: أن ثمة العديد من الحسابات الأمنية والعسكرية وحتى السياسية والقانونية، تجعل أنقرة بحاجة إلى الحصول على تعهدات رسمية من روسيا وأوكرانيا لتأسيس آلية مراقبة أممية منفصلة يكون مقرها إسطنبول، وثانيها: إصرار روسيا وأوكرانيا على المضي قدماً في عسكرة الأزمة، ويشار إلى أنه في الوقت الذي نشرت فيه أوكرانيا ألغاماً بحرية بميناء "أوديسا" لمنع دخول السفن الروسية الميناء، ففي المقابل، تعارض موسكو وصول سفن شحن إلى الموانئ الأوكرانية خشية أن تكون محملة بالأسلحة ناهيك عن قناعة روسية بأنه لا مشكلة في تصدير الحبوب من أوكرانيا، إذ يعتبر الرئيس الروسي أن الغرب يسعى إلى توظيف قضية الحبوب لخداع الرأي العام العالمي، وحشد التعاطف الدولي مع كييف.
ثالثها: استمرار تصاعد حدة القضايا الخلافية بين موسكو وكييف، وفشل جولات الحوار المباشر التي رعتها أنقرة لحل الملفات الشائكة، وتحقيق اختراق بشأن وقف إطلاق النار، حيث لا تتوافر الإرادة السياسية للجانبين الروسي والأوكراني، والتي تعتبر نقطة الارتكاز لإنجاح الجهود التركية، ويبدو أن ثمة رغبة روسية في توظيف دبلوماسية الحبوب كورقة ضاغطة في مواجهة العقوبات الغربية، وكذلك تستثمرها كييف للضغط على الغرب للحصول على مزيد من الأسلحة المتطورة، رابعها: شكوك كييف في قدرة تركيا للعب دور الوسيط في حل أزمة الحبوب والبذور العالقة في الموانئ الأوكرانية، وكشف عن ذلك تصريحات أطلقها مدير اتحاد الحبوب الأوكراني (يو.جي.إيه) سيرهي إيفاشينكو في 8 حزيران الجاري، حيث قال "إن تركيا، التي تتفاوض مع روسيا لتأمين مسارات آمنة لصادرات الحبوب من الموانئ الأوكرانية المحاصرة، ليس لديها النفوذ الكافي للتصرف كضامن".
المسارات المحتملة
على الرغم من محاولات تركيا المدعومة أممياً لحل معضلة تصدير الحبوب الأوكرانية التي تمثل نقطة استناد مركزية على خارطة الغذاء العالمية، ومع تصاعد حدة الأزمة الأوكرانية، واندفاع موسكو وكييف نحو المضي قدماً في عسكرة الأزمة، فإن ثمة مسارات محتملة بخصوص التحايل على معضلة الحبوب الأوكرانية، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:
استمرار تعطيل صادرات الحبوب الأوكرانية: سعت تركيا إلى توظيف حكومة أنقرة زيارة وزير الخارجية الروسي "سيرجي لافروف" الأخيرة لتركيا لحل معضلة الحبوب الأوكرانية فضلاً عن نجاح الرئيس التركي في إقناع نظيره الروسي بالتجاوب مع جهود تركيا لحل أزمة الحبوب الأوكرانية، وبالفعل أكد الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين"، على إن بلاده مستعدة للتنسيق مع تركيا لتسهيل تصدير الحبوب دون عوائق من الموانئ الأوكرانية، غير أن الجهود التركية المدعومة أممياً لم تنجح حتى الآن، في التوصل لاتفاق مع موسكو يسمح بمرور الصادرات الأوكرانية، ويبدو هذا السيناريو محتملاً في ظل إصرار موسكو على أن تجاوبها مع جهود حل معضلة الحبوب الأوكرانية، يبقى مقروناً بضرورة رفع العقوبات الغربية المفروضة عليها، ووقف المساعدت العسكرية الأوروبية لحكومة كييف ناهيك عن تأكيد موسكو على التزام كييف بعد انعطافتها غرباً.
حل جزئي لأزمة الحبوب الأوكرانية: من المرجح أن تنجح تركيا في الوصول لحل جزئي مع موسكو بشأن حل أزمة الحبوب الأوكرانية، إذ أن موسكو ترغب فى تخفيف الضغوط الدولية عليها جنباً إلى جنب عدم خسارة المواقف الدولية والإقليمية التى التزمت الحياد حيال الأزمة الأوكرانية، غير أن تصاعد حدة أزمة سلاسل توريد الغذاء في الدول التي تعتمد على وراداتها من أوكرانيا، قد تدفعها إلى توجيه الانتقاد لموسكو، وهو الأمر الذى قد يدفع الأخيرة للتجاوب مع الجهود التركية لتسهيل نقل جزئي للحبوب الأوكرانية إلى الأسواق الخارجية.
انفراج الأزمة نهائياً: قد تفتح الاضطرابات في سلاسل الغذاء العالمية الباب أمام إعادة ترتيب المواقف الدولية حيال الأزمة الأوكرانية، خاصة مع تصاعد القلق الأوروبي من الارتفاع الكبير في أسعار العقود الآجلة لبذور عباد الشمس والذرة والقمح وفول الصويا ناهيك عن الانقطاعات المستمرة لسلاسل التوريد الغذائية لعدد من السلع الاستراتيجية في الأسواق الأوروبية. لذلك، فإن القوى الغربية قد تتجه إلى دعم عمليات التسوية السياسية للأزمة الأوكرانية، ورفع العقوبات عن موسكو لضمان عودة سلاسل التوريد للحبوب الأوكرانية والروسية للأسواق العالمية.
لكن هذا السيناريو يبدو مستبعداً فى الوقت الراهن بسبب اتجاه القوى الغربية، وفي الصدارة منها الولايات المتحدة لفرض تدابير عقابية إضافية على حكومة الرئيس فلاديمير بوتين، تشمل قطاع الطاقة، كما منعت الولايات المتحدة الحكومة الروسية في نيسان الماضي من دفع أكثر من 600 مليون دولار من الاحتياطيات المحتجزة في البنوك الأمريكية لحائزي سندات ديونها السيادية وذلك في خطوة استهدفت تشديد الضغط على موسكو وأن تستهلك مما لديها من احتياطي الدولارات الأمريكية.
ختاماً، يمكن القول أن التحرك التركي المدعوم أممياً لإحراز تقدم في خطة إنشاء ممر بحري لفتح الطريق أمام صادرات الحبوب من الموانئ الأوكرانية المطلة على البحر الأسود، يأتي في سياق مساعي تركيا لتقليص التداعيات الاقتصادية عليها وعلى المجتمع الدولي بجانب تعزيز حضورها في مشهد الأزمة الأوكرانية، لكن في المقابل ثمة عقبات تمثل حجر عثرة لانجاز فكرة الممر البحري، وهو الأمر الذي ربما يحمل ارتدادات سياسية سلبية على أنقرة وظروفها المعيشية.