إستقالة وزير المالية العراقي الإنسحاب المتأخر ومآلات "الدولة الزومبي"
د.محمد هشام البطاط
مقدِّمة
في خضم تعالي وتائر الأزمة السياسية في العراق، وفي ظل إنقسام المشهد إلى فسطاطيّن من التظاهر والإعتصام، طفت على السطح، بقوة، الإستقالة التي قدمها وزير المالية علي عبد الأمير علاوي، فما هي المؤشرات التي يمكن إستخراجها من هذا الحدث الفارق في توقيت مشحون بالسجالات والصراعات السياسية، وما هي أبرز ما تضمنته الاستقالة؟ تسعى هذه الورقة إلى الاجابة على السؤالين أعلاه، مردفة إيّاها –الإجابة- بسيناريوهات الخروج من المأزق الراهن لساسةٍ تمسكَ كل طرفٍ منهم بمواقفه ضمن ثباتٍ خطير يشي بصعوبة المخارج في بلدٍ مليء بالإنسدادات.
الإنسحاب المتأخر:
كان من الطبيعي جداً، والمفترض المنطقي أن تواصل الحكومة العراقية الحالية، بكل فريقها الوزاري، العمل على تسيير الاعمال وتصريفها حتى يتوصل الفرقاء السياسيون الى إتفاق مُرضي يُفضي الى حلحلة، ولو مؤقتة، للتأزم الراهن، إلا ان وزير المالية فاجئ الجميع بتقديم استقالته التي إنطوت على مؤشرات مهمة، من اهمها السرد المطول للوضع السياسي العراقي وإرهاصاته الاقتصادية التي إنطوت عليها الاستقالة، إذ تضمنت الاستقالة شرحاً تفصيلياً مطولاً يغاير الأنساق المالوفة من كُتب الاستقالة التي يقدمها السياسيون غالباً، حتى صارت كأنها بيان التقييم الأدائي للوزارة، وسرد لإرهاصات النظام السياسي الحالي، والمآلات الخطيرة التي تلوح في الأفق للوزير المستقيل. لقد إفتتح علاوي كتاب إستقالته بالتذكير بالآلية التي تم عبرها إختياره وزيراً للمالية، تأكيد على "تكنوقراطيته" واستقلاليته، ومعوقات تمريره لولا تدخل بعض الكتل السياسية لمنحه كرسي الرجل الأول في الاقتصاد العراقي، معلناً في الوقت عينه أن رحلته في الوزارات العراقية قد انتهت، ملفتاً إلى ضرورة فسح المجال للشباب لاكمال الطريق وترميم ما يمكن ترميمه، لكن ثمة مفارقة غريبة في جميع ما حصل، تكمن هذه المفارقة في السؤال الاتي: إذا كانت الاوضاع السياسية والاقتصادية في العراق قد بلغت درجة خطيرة من الفساد والتدهور، وأن الحلول العملية لا تلوح في الافق، فلماذا تأخر الدكتور علاوي في تقديم استقالته طيلة الفترة الماضية؟ لقد حاول علاوي أن يجيب على هذا السؤال من خلال تأشيره أن الحكومة التي يعمل فيها الان هي حكومة تصريف أعمال، بل حكومة تمشية "الأعمال اليومية" على حد تعبيره، وهكذا نوع من الحكومات تكون مقيدة الصلاحيات، ضيقة المساحات التي يمكن للوزير ان يتحرك خلالها، الأمر الذي يعني ان بقاءه في المنصب أو خروجه منه لن يغير في الامر شيئاً، هكذا برر علاوي إنسحابه المتأخر من الحكومة، بيد أن هذه الاجابة يمكن التماشي مع بعض تفاصيلها، إلا انها في المجمل غير مقنعة، ثمة شيء مسكوت عنه في الانسحاب المتاخر، يُخيل إليّ أن هذه الاستقالة جاءت متاخرة لوجود ضغوطات سياسية كبيرة ومحاولات إطالة عمر حكومة تصريف الاعمال، ولو لمدة عام تمهيداً للانتخابات المبكرة، لقد أراد الوزير الخروج من اللعبة كلها، وهذا الخروج يشي بالسرد المطول للاستقالة، هو بيانُ الراحلِ من الضغوطات السياسية وشبكات الفساد السرية والواسعة التي أشار اليها في مضامين الاستقالة، أو ربما ثمة ضغوطات اخرى تتعلق بقضية "بوابة عشتار" وعقدها مع مصرف الرافدين، في السياسة الخيوط تتشابك بطريقة عنكبوتية، لا يمكن فك الاشتباك بينها على طريقة التي نكثت غزلها من بعد قوةٍ انكاثاً حسب التعبير القرآني.
لا نختلف على نزاهة السيد علاوي، ولا على خبرته الاقتصادية وعقليته في إدارة الاعمال، لكننا نختلف حول الاليات التي مارسها لمواجهة التحديات الاقتصادية للعراق خلال استلامه للوزارة، فلا يكفي أن تكون طبيباً حاذقاً في أسماء الادوية واستخداماتها، بل يجب أيضاً ان تكون عارفاً بطبيعة جسد المريض الذي تعطيه العلاج، كانت العلاجات التي طبقتها الحكومة الحالية لمعالجة الخلل البنيوي للاقتصاد العراقي خلال جائحة كورونا وما تلاها، علاجات رفعت مناسيب مخزون العملة الصعبة، وفي الوقت ذاته زادت نسبة الفقر بين المواطنين!
ويبدو ان القبول السريع الذي تعامل به رئيس الوزراء مع الاستقالة يشي بأن لا إمكانية لاستمراره في الوزارة، ومحاولة للملمة الامور باقل الخسائر في وقت اكثر ما تحتاجه الحكومة الحالية هو إبعاد الانظار عنها قدر المستطاع.
حذارِ من الدولة "الزومبي":
لقد إنطوت الاستقالة على جملة من التنبيهات، بل التحذيرات التي أراد الوزير المستقيل أن يؤكد عليها، أغلبها معروفة للجميع، وبعضها يكسب جِدتّهُ وحيويته من طبيعة الشخص الذاكر لها، وتوقيت الطرح في سياق مجمل الاحداث السياسية الحالية، وحتى لا نستغرق في عملية الملاحقة الجزئية المملة لكل ما تم طرحه في مطاوي الاستقالة، فإن من الاهمية بمكان الاشارة الى "النقاط الرئيسة" التي تضمنتها:
اولاً: التأكيد على العلاقة الوشيجة بين الازمات السياسية المتلاحقة للمسار السياسي لما بعد 2003م، والدستور العراقي، إذ أن الخلل البنيوي في متون الدستور، وصياغته تماشياً مع الرغبات السياسية الجزئية، خلقت حالة من التلغيم في المواد الدستورية جاعلة منه يسهم في تكثيف المشاكل السياسية لا حلها، الأمر الذي دفع بالوزير المستقيل الدعوة الى تعديل الدستور أو تغييره لتلافي هذه المشاكل، وتجاوز هذه الألغام.
ثانياً: تشخيص تدهور خطير في مكانة الدولة، وتحولها إلى ألعوبة للمصالح الضيقة والمنافع الشخصية أسهم ولدرجة خطيرة في الوصول الى المآلات الراهنة.
ثالثا: (وجود شبكات سرية واسعة من كبار المسؤولين ورجال الاعمال والسياسيين وموظفي الدولة الفاسدين في الظل للسيطرة على قطاعات كاملة من الاقتصاد، وتسحب مليارات الدولارات من الخزينة العامة، شبكات محمية من الاحزاب السياسية الكبرى والحصانة البرلمانية وتسليح القانون وحتى القوى الاجنبية)، وهذه شهادة مهمة وخطيرة من رجل داخل في آتون العمل الوزاري المالي لأكثر من مرة، وهو ما يكشف الوضع المؤسف للوضع الاقتصادي في العراق، فالمشكلة، حسب ما تضمنته الاستقالة، ليست في عدم وجود مليارات الدولارات التي يمكن ان تُحسّن وضع الشعب العراقي، بل في أن هذه المليارات تذهب الى جيوب الشبكات السرية ومن يقف خلفها.
رابعاً: التأكيد على مشكلة الدفع الالكتروني، والعقود المشبوهة فيها، لدرجة ان الدكتور علاوي يصفها بأنها (القشة التي قصمت ظهر البعير)، مع دعوته القضاء الى الاستمرار في متابعة عقد شركة "بوابة عشتار"، لتكون بادرة خير لاعادة الثقة بالمنظومة، وهي اشارة الى العقد الذي ابرمته هذه الشركة مع مصرف الرافدين، الشرط الجزائي البالغ 600 مليون دولار، والملابسات الغامضة لما حصل في هذا العقد.
خامساً: لقد سعى الدكتور علاوي الى سرد مطول، وتقييم عمل الوزارة، أعطى لوزارته درجة "جيد بشكل إستثنائي"، وهنا وقع الوزير في تناقض بين تركه الحكم للتأريخ، والتقييم للاخرين، وبين تقييمه الذاتي لشخصه، وللحكومة ورئيس وزرائها، وكان الأجدر به عدم التطرق لهذه التفصيلة، والاكتفاء بسرد ابرز منجزاته، تاركاً مسألة التقييم لغيره.
سادساً: لا على طريقة إبن خلدون هيغل، بل على طريقة تشخيصه لراهن الدولة العراقية، سعى وزير المالية الى إعطاء بعد ديالكتيكي للدولة، في ضوء دالة الفساد والفوضى، إذ أشار الى (على عكس البشر، لا تموت الدول بشكل نهائي، ويمكن ان تبقى دول الزومبي لسنوات، بل حتى لعقود قبل ان يتم دفنهم، الدولة تبدو عليها علامات المرض العضال).
دقُ لناقوس الخطر، تحذير من الوزير المستقيل، يجب تدارك الامور، حلحلة بعض الانسدادات، فإن بقاء الامور على حالها يعني التوجه صوب "الدولة المسخ"، الدولة التي يتمأسسُ فيها الفساد، وترتهن داخلها مصالح المواطنين بشبكات من الفساد والصفقات المشبوهة.
سيناريوهات ما بعد الاستقالة:
بعد قبول الاستقالة من رئيس الوزراء، وفي ظل الازمة السياسية التي تعصف بالمشهد السياسي العراقي، يمكن طرح أبرز السيناريوهات المتاحة في المدرك السياسي الأولي:
السيناريو الاول: تشكيل حكومة جديدة، بنصاب زمني مكتمل، اي لاربع سنوات، مع ايجاد تسوية سياسية مع التيار الصدري، وهذا السيناريو مستبعد، لاستحالة موافقة التيار الصدري على حكومة جديدة طويلة الامد، لا سيما بعد الاستقالة الجماعية التي قدمها النواب الصدريون، فضلاً عن ان التوتر السياسي والجماهيري لا يشي بأمكانية تحقق مثل هذا السيناريو.
السيناريو الثاني: استمرار حكومة تصريف الاعمال الحالية، مع تحديد موعد مسبق لانتخابات جديدة مبكرة، وهذا السيناريو قليل الحظوظ في ظل رفض الاطار التنسيقي بقاء هذه الحكومة من جهة، واستقالة وزير المالية التي شكلت نهاية الامال في تمديد عمر الحكومة الحالية حتى الانتخابات القادمة.
السيناريو الثالث: تشكيل حكومة جديدة، يمرشح إطاري يحظى بمقبولية صدرية، ولو ضمنياً، بالاضافة الى المكونات الاخرى، على ان تكون حكومة مؤقتة، مشروطة بموعد مسبق للانتخابات المبكرة، يؤدي الإتفاق عليها إلى فض فسطاطي التظاهر والاعتصام، وتعيد الناس الى بيوتهم، وتعمل على إجراء الانتخابات المبكرة بالموعد الذي يتفق عليه الفرقاء السياسيون، ويبدو ان هذا السيناريو هو الارجح من وجهة نظرنا في ظل المتغيرات السياسية الحالية، ما لم تستجد الامور، وتتغير عناصر المعادلة السياسية في بلد تكثر فيه المتغيرات والمستجدات.