تساؤلات حول الواقع التربوي والتعليمي في العراق
المناهج الدراسية أنموذجاً
د. فراس جاسم موسى
صدر منذ أيام عدّة بيان البنك الدولي المثير لِلجدل الذي تضمّن عرض نتائج دراسة أشارت إلى أنَّ (90%) مِن تلاميذ العراق «لا يفهمون ما يقرأون»! بسبب سنوات مِن الصراع في هذا البلد وأوجه القصور الهيكلية التي قادت إلى نظامٍ تعليمي يعجز عن تقديم المهارات الأساس إلى الطلاب، والتي تشكّل أساس التعلّم وتنمية المهارات. لكن عاد الممثل الخاص لِلبنك الدولي في العراق زائراً وزارة التربية العراقية والتقى وزيرَها، متراجعاً عن تبنّي نتائج هذه الدراسة ومعتذراً إلى الوزارة والهيئات التعليمية عن مضامينها، مبيناً أنَّ هذه الدراسة لا تمثّل وجهةَ نظر البنك الدولي بهذا الصدد، وإنَّ مَن أعدّها هي منظّمة (ترانكل)، وهي إحدى منظمات المجتمع المدني التي تعنى بالشؤون الإنسانية ومنها شؤون التربية والتعليم.
وانتقد وزيرُ التربية دراسةَ المنظّمة المذكورة، مبيناً أنها طَبقت دراستَها على تلاميذ الصفَين الثاني والثالث الابتدائي لمدارس اليافعين في التعليم المسرع، وليس على الطلبة النظاميين، كما استغرب الوزير من استخدام خمسة معايير لا يمكن أن تطبَّق على طلبة المرحلتَين الابتدائية والثانوية وإنّما تطبَّق على مستويات دراسية متقدّمة كالمرحلة الجامعيّة.
وعلى الرغم مِن تراجع البنك الدولي عن تبنّي نتائج الدراسة المذكورة وعن نقد وزارة التربية لها نجد أن هناك حاجة إلى تحري نتائج الدراسة المذكورة مِن طريق قراءة حالة "الفهم" المشار إليها في الدراسة، ومِن أهم الأسس العِلميّة في بناء الفهم القرائي هي حالة المناهج الدراسية. وبالنظر إلى عدم توفر البيانات الدقيقة التي نحتاجها لتحديد حالة الفهم لدى إجمالي طلبة المرحلة الأساسية خاصة، اتّبعنا منهجيةَ إثارة الأسئلة الخاصة بكلّ عنصر مِن عناصر المنهج الدراسي الذي اعتمدنا بشأنه المفهوم الحديث الذي سنبينه لاحقاً، أملا أن تتوفر لدينا البيانات اللازمة لتحليلها من ثمَّ الإجابة عن كل سؤال من الأسئلة اللاحقة؛ بهدف الوصول إلى حلول تنسجم مع حاجة الطلبة والهيئات التعليمية والتدريسية مِن ثمَّ بلوغ التربية والتعليم في العراق مستوى مناسب من الطموح.
إنَّ مكونات وعناصر الواقع التربوي والتعليمي في العراق كثيرة فمنها: حالة الأبنية المدرسية وبرامج إعداد المعلم والمناهج الدراسية والنظم التعليمية وغيرها كثير وكلها تؤثر في بنية التعليم ومخرجاته لكن لامجال لبحث كل هذه العناصر في هذه الورقة ؛ لذا سنتناول في هذه الورقة إحدى هذه العناصر وهي (المناهج الدراسية)؛ لعلاقتها المباشرة بموضوع الفهم الذي أشارت إليه دراسة منظمة (ترانكل) وكذلك لاحتوائها على عدة عناصر تربوية وتعليمية على وفق المفهوم الحديث للمنهج سنبينها لاحقا ، وسنعتمد منهجية إثارة التساؤلات في هذه الورقة؛ لتكون منطلقاً لإجراء بحوث ودراسات لاحقة.
ينبغي لنا أن نبيّن أوّلاً أنَّ مفهوم المنهج قد تغيّر؛ نتيجةً لِتغيّر مفهوم التربية وأهدافها ووظائفها حتّى بات لدينا مفهومان: مفهوم قديم ومفهوم حديث، فالمفهوم القديم -بإيجاز شديد- حدد المنهج بمحتوى الكتاب المدرسي فقط، أمّا المفهوم الحديث فحدده بمجموعة من العناصر المتلازمة التي تكون المنهج هي: الأهداف التربوية والتعليمية، محتوى الكتاب، طرائق التدريس، الأنشطة، أساليب التقويم، بمعنى أن أية خطة تدريسية لأية مادة دراسية أو أي جزءٍ منها يجب أن ينطلق من هذه العناصر مجتمعة لا من محتوى الكتاب وحده؛ لذا عند السعي لِلتعرف على التحديات التي تواجه المنهج أو المعالجات اللازمة لمواجهتها يجب أن نحدد واقع هذه العناصر، وقد لحظنا وجود عمليات ونشاطات تغيير تقترب -إلى حدّ ما- مِن مستوى التطوير تقوم بها وزارة التربية العراقية بالتعاون مع جهات محلية ودولية متخصصة بالأنشطة التعليمية وكذلك استندت هذه العمليات –ولو بالحد الأدنى- إلى نتائج بحوث ودراسات وتقارير الإشراف التربوي، وينبغي لنا في هذا الإطار أن نحدد الأسس التي حددتها الأدبيات التربوية والتعليمية في بناء وتصميم شكل ومضمون المناهج الدراسية التي من أهمها:
- الأسس الفلسفية لِلمنهج، التي يعني بها المبادئ والأهداف والمعتقدات العامة في المجتمع التي يترجمها المحتوى والمناهج عامة من خلال وضع منهج يحترم شخصية الطالب ويهتم بذكائه وحريته واتجاهاته وبناء المواطن الطالب الصالح.
- الأسس الاجتماعية: ويقصد بها ثقافة الأسر والمجتمع عامة وخصوصياته وبديلاته وبيئته وينبغي لِلمناهج أن لا تتجاوز هذه الأسس بمراعاتها في تحديد وتكييف الموضوعات الدراسية.
- الأسس المعرفية: ويراد بها فهم الطالب وطريقة فهمه وتنوع الموضوعات ومتطلبات تدريسها كالعلوم الرمزية التي تشمل اللغات والرياضيات والفنون التعبيرية والعلوم التذوقية كالموسيقى والأدب والعلوم الأخلاقية التي تتعلّق بالقيم والتوجيه السلوكي والتجريبية كالفيزياء والكيمياء.
- الأسس النفسية: ويعني بها خصائص الطالب السيكولوجية وقدراته واستعداداته.
والسؤال المطروح الآن: هل ان لجان بناء المناهج الدراسية تراعي هذه الأسس، والكيفية التي تترجم بها تضمين المناهج هذه الأسس؟
وعند النظر إلى عناصر المنهج التي بيناها نلحظ وجود حاجة إلى تحديد واقع هذه العناصر نعرضها كما يأتي:
1- الأهداف: لابدَّ لنا مِن بيان أنَّ الأهداف التربوية تختلف عن الأهداف التعليمية، فالأهداف التربوية هي أهداف عامة بعيدة المدى تصاغ بعبارات تصف النهايات القصوى لِلتعليم، أما الأهداف التعليمية هي أهداف قصيرة المدى أقل عمومية تصف مخرجات يتوقع ظهورها نتيجة لمرور الطالب بخبرة أو موقف تعليمي معيَّن أو تدريسه مقرراً أو موضوعاً معيّنا، كما أنَّ لِلأهداف أنواع أخرى هي: الأهداف العامة وتمثل أهداف المواد الدراسية (لغة عربية – إنجليزية – جغرافيا – علوم …) وهي واضحة يمكن قياسها، والأهداف التعليمية السلوكية: وتمثّل العبارات التي يحاول المعلّم وطلبته تحقيقها داخل حجرة الدراسة، وتعمل على التطبيق الفعلي لِلمنهج المدرسي وتنفيذه داخل الحجرة الدراسية.
وتكمن أهمية تحديد صياغة الأهداف التعليمية في تحقيق جملة مِن الفوائد منها أنّه:
أ. يساعد على تنظيم محتوى المنهج وتحديد المدة اللازمة لِتنفيذه.
ب. يتيح لِلمعلم اختيار عناصر المنهج: المحتوى والطرائق والأنشطة ووسائل التقويم.
ج. يسهل قياس نتائج العملية التعليمية.
د. يساعد الطالب على تحديد وتوجيه نشاطاته نحو درس أو منهج معين.
هـ. يساعد على تحديد أدوار كلّ مِن المعلم والمتعلم.
ومن المهم أن تصنيف هذه الأهداف ينبغي أن يكون شمولياً ويغطي ويقيس مختلف المجالات وهي: المعرفية، كمعرفة قدرات الطالب ومنها: بلوغ الفهم من خلال القدرة على إعادة صياغة المعلومات وتطبيق ما تعلّمه في مواقف جديدة وغيرها، والمجال الوجداني بقياس قدراته في الاستقبال من خلال توجيه ذهن الطالب لحدث ما والاستجابة من خلال مشاركته في الموقف التعليمي والقيم من خلال تقبل قيمة معينة التي اكتسبها، والمجال النفس/حركي أو المهاري ويشير هذا المجال إلى المهارات التي تتطلب التنسيق بين عضلات الجسم كما في الأنشطة الرياضية للقيام بأداء معين أو يصمم جسماً معيناً كما في مادة العلوم.
والسؤال المطروح هنا: هل يقوم واضعو الأهداف بمراعاة كل هذه المجالات والتقسيمات في تحديد الأهداف وصياغتها؟
2- محتوى الكتاب المدرسي: للمحتوى معايير عامة في اختيار موضوعاته من أبرزها:
أ. ارتباط الموضوعات بالأهداف الموضوعة لكل مادة ولكل موضوع.
ب. صدق المحتوى: صحة المعلومات ودقتها ومواكبة الاكتشافات العِلمية أولاً بأول.
ج. الاتساق مع الواقع الثقافي والاجتماعي.
د. التوازن بين العمق والشمول، والنظري والتطبيقي، والأكاديمي والمهني.
هـ. مراعاة خبرات ومعلومات الطالب السابقة.
و. مراعاة الحاجات المستقبلية للفرد والمجتمع.
ز. ترتيب موضوعات المحتوى في ضوء تحديد معيار معين، كمعيار الاستمرار، ويقصد به العلاقة الرأسية بين الموضوعات بحسب الصفوف الدراسية أو معيار التكامل كربط الرياضيات بالعلوم والتاريخ بالجغرافية أو معيار التوحد كدمج فروع اللغة العربية: القواعد والانشاء والاملاء وغيرها في مادة واحدة.
ح. الأدلة لمختلف المواد الدراسية: وهي تعين الطالب والمعلّم في اتباع الخطوات التنفيذية لِلمادة.
وهنا نضع سؤالاً: هل تأكدت لجان بناء المناهج مِن مراعاة هذه المعايير في تأليف محتوى الكتاب؟
3- طرائق واستراتيجيات التدريس: تتنوّع طرائق واستراتيجيات التدريس تنوعاً كبيراً، وهي كثيرة يزخر بها الأدب التربوي والتعليمي كالطرائق التقليدية ومنها (المحاضرة) بأسلوبَيها القياسية والاستقرائية، واستراتيجيات حديثة كاستراتيجية حل المشكلات، واستراتيجية التساؤل الذاتي، واستراتيجية الخرائط الذهنية، واستراتيجية تآلف الأشتات وغيرها كثير، ويتمّ تحديد أحد هذه الطرائق والاستراتيجيات تبعاً لِعوامل عدّة منها: طبيعة المادة الدراسية والمرحلة الدراسية والبيئة المدرسية المناسبة وطبيعة الطالب نفسه، فضلاً عن كفاءة المعلّم وعوامل أخرى. لكن جميع هذه الطرائق تشترك في هدف أساس واحد هو تحقيق الفهم القرائي لدى الطالب الذي هو غاية العملية التعليمية.
ولِلوصول إلى الفهم القرائي هناك عوامل تؤثّر في تحديد تحققه لدى الطلبة منها:
أ. عوامل ترتبط بالطالب: ومنها مستوى ذكاءه والمستوى التعليمي الثقافي له وخلفيته وخبراته السابقة ومفرداته الطالب اللغوية وسيطرته الآلية على العَمَلية القرائية وصحته العامة؛ (السمع والبصر والقدرة العضوية والنفسية)، وميوله واهتماماته.
ب. عوامل ترتبط بالنص المقروء: أي كان موضوعه، سهولة المفردات والمعلومات ودرجة شيوعها وتطابقها مع قدرات وخبرات الطالب وطريقة عرض الأفكار وحجم الخط ونوع الطباعة والألوان والرسوم التوضيحية بحسب المرحلة الدراسية والإخراج الفني لِلمحتوى واستخدام الوسائل التوضيحية وغيرها.
كما أن هناك عوامل تحفّز على الفهم القرائي منها:
- العوامل العاطفية: وهي النظرة إلى الذات وتأثير المعلّم والمادّة الدراسية.
- تأثير الحالة الاجتماعية والاقتصادية لِلطالب وعائلته وكذلك المعلّم.
- ضعف دافعية المعلّمين والطلبة.
- التعليم غير الملائم لِلطالب والإعداد غير المناسب لِلمعلّم.
ومن الجدير بالذكر أنَّ لِلفهم القرائي مستويات هرمية تبدأ بالفهم السطحي أو المباشر بمعنى أن يحدد الطالب في هذا المستوى الأفكار والعِلميات الرئيسة لِلموضوع ويرتب الأحداث أو العَمَليات الرياضية وغيرها مروراً بالفهم الاستنتاجي الذي يمتلك فيه القدرةَ على أن يستخلص اتجاهات الكاتب وغير ذلك بحسب موضوع المادة، وصولاً إلى الفهم الناقد الذي مِن خلاله يميّز بين الحقيقة والخيال، والواقع والخيال، وغير ذلك بالنسبة لِلمناهج الإنسانية والأخطاء التي يمكن تتخلل المسائل الرياضية والحقائق العِلمية حتّى يبلغ الفهم الإبداعي بما يمكنه مِن إضافة نهايات بديلة للنصوص أو الحل بقوانين رياضية مختلفة مثلاً.
ونتساءل في هذا المورد ، هل إن الهيئات التربوية والتعليمية في العراق راعت هذه العوامل فضلاً عن تكييف الدروس على وفق مستويات الفهم المذكورة؟
4- الأنشطة: أصبحت الأنشطة عنصراً مكملاً لعناصر المنهج الدراسي والمقصود بها هي النشاطات والعمليات المرتبطة بمادة دراسية معينة يكلف بها الطلاب داخل وخارج حجرة الدراسة، الهدف منها فهم الطالب لِلموضوع فهماً تطبيقياً يمكنه من تطبيق التجارب العلمية في أكثر من موقف تعليمي، مثال أن يكلَّف الطلبة بتكوين مجموعة منهم لِلقيام بتقديم عرض تمثيلي لِقصة قرأوها في درس القراءة على مسرح المدرسة -إنْ وجد- أو تطبيق تجربة عِلمية درسوها في درس الكيمياء في المختبر وهكذا قياساً.
والسؤال: هل تعتمد كلّ مدارسنا هذه الأنشطة المدرسية؟! وهل يتم تقنين هذه الأنشطة داخل وخارج الصف بشكل يحقق أهداف المنهج؟!
5- أساليب التقويم: ويعنى بها إصدار حُكم على مدى وصول العملية التعليمية إلى أهدافها، وتحقيقها لأغراضها، والكَشف عن مختلف الموانع والمعيقات التي تَحُول دون الوصول إلى ذلك، واقتراح الوسائل المناسِبة من أجل تلافِي هذه الموانع، فإنَّ أساليب التقويم يجب أن تكون شاملة وتقيس كل درجات الخبرات والمهارات والقدرات والمعارف التي اكتسبها الطالب خلال العملية التعليمية ولا تركز على المعارف فقط، وكذلك ينبغي أن تراعي مراحل التعلّم لِتشمل التقويم القبلي قبل عملية التعليم والبنائي في أثناءها والنهائي بعد انتهاء العَمليات، وينبغي أن تتنوع بين التقويم الكتابي والقرائي والمهاري والمواقف التعليمية والتطبيقية لتكون درجة الطالب معبّرة عن كل ما حصله وكذلك تعبر عن مدى فهمه هذه الخبرات، فضلاً عن أن أساليب التقويم ينبغي أن ترتبط بالأهداف لتقيس نواتج التعلّم ومعرفة مدى تحقق الأهداف.
والسؤال المتحصّل لدينا هنا: هل هذه الأساليب تطوَّرت لِتعبّر عن كل ما ذُكِر في هذا المحور بشكل يحقق الأهداف المحددة؟
ومِن نافلة القول: إنَّ المعالجات المؤدية لتحسين وتطوير المناهج الدراسية، ومن ثم تنمية الفهم لدى الطلبة، تبدأ مِن لحظة الإجابة عن هذه التساؤلات، لإعداد برامج شاملة في تطوير كلّ هذه العناصر مجتمعة في بالتزامن والتوازي؛ لأنَّ تطوير كلّ عنصر بشكل منفرد لا يحقق الهدف المبتغى والفائدة المرجوّة.