تعد الوظيفة الأمنية إحدى أهم أربعة وظائف تؤديها الدولة ضمن مسؤوليتها الرئيسية، ورغم ما يتمتع به العراق حاليا من أمن نسبي لكن هناك تحدياً كبيراً ما فتِئ يواجه الدولة العراقية. وهو بناء أمن مستدام، يعتمد مؤسسات مهنية رصينة وقدرات فعالة، وموارد بشرية عالية التدريب والتخصص، فرغم التراجع الكبير في حدة التهديدات الارهابية قياساً بما كان يجري في سنوات صعود التنظيمات الارهابية، لكن نوع ودرجة التهديد لا زال عالياً، وما زالت المخاطر الأمنية تحتل الأولوية في سلم التهديدات التي يشعر بها العراقيون على المستويين الفردي والمجتمعي، وفيما يتداخل الامن والدفاع تداخلاً مفصليا مع الاستقرار السياسي ويؤثر فيه، فأن الإقتصاد يتأثر هو الاخر تأثراً مباشراً بدرجة الشعور بالأمن والأمان النفسي والعملي بما يجعل معادلة إستقرار الدولة وقيامها بوظائفها مرتبطة بما يشهده قطاع الامن والدفاع من تأرجح في كفاءته صعوداً وهبوطاً.
لقد أُعيد تأسيس الدولة العراقية الحديثة ثانية بعد تأسيسها الأول عام 1921 وقد كان تأسيس الجيش العراقي أسبق تأريخياً من إعلان تأسيس الدولة في الواقع إشارة الى اهمية الذراع العسكري للدولة. رغم أن الرواية التاريخية تحاول المرور على هذه الوقائع سريعاً، بيد أن إستقرار بقية هياكل الدولة ظل منوطاً على الدوام بقيام وتشكيل ألوية الدفاع وأجهزة الأمن والقانون واحتكار القوة المشروعة لمنع التهديدات ولجم الأطماع خارجياً ومنع التمردات الداخلية.
هذه القضية تكررت في عام 2003، بُعيد إنهيار منظومة الدولة الشمولية وتفكك مؤسساتها. بما حتَم إعادة بناء هذه المؤسسات بأيديولوجية جديدة تتكيف مع التوجهات الجديدة لنظام سياسي يتبنى مفاهيم الديمقراطية والعدالة والتوازن في علاقات العراق الخارجية، وينكفئ على نفسه لمواجهة تحديات إعادة بناء الدولة. بعد سبع عشرة سنة من المواجهة والعمل المضني، خرج العراق بمؤسسة أمنية ودفاعية وإستخباراتية يربو عديد رجالها على المليون ومائة ألف شخص، وتتعدد مؤسساتها وهياكلها بين حديث التأسيس ومعاد التشكيل.
غير أن الاسئلة ما زالت تتكرر عن القدرات وكفاءة الاستفادة والتوظيف لهذا العدد الغفير من المنتسبين. وعن مستوى الإنجاز الأمني والدفاعي في ظل التهديدات المتواصلة سواء من الخلايا الإرهابية التي تعاود النشاط، أو من أعضاء وأفراد الجريمة المنظمة، أو من مظاهر العنف السياسي بما فيها إغتيالات مجهولة وعمليات خطف وتهديد، وسطو مسلح وإبتزاز، أو حالات الإنفلات الأمني المتمثل بتحدي القانون واللجوء الى السلاح الفردي أو العشائري، ومقاومة سلطات الدولة.
إن كل هذه المظاهر تدلل على عدم كفاية المساعي التي بذلت؛ والاموال التي أُنفقت لبناء مؤسسة عسكرية وأمنية مهابة وحازمة وناجحة، قادرة على القيام بالمهمة الأمنية بدون تدخلات خارجية ومساعدات أجنبية مشروطة، بما أحدث إنقساما مجتمعياً بين قوى راديكالية رافضة للوجود الأجنبي (الأمريكي منه بالخصوص)، وقوى لا ترى خطأً أو بأساً من وجود تلك القوى، طالما أنها جاءت بطلب رسمي عراقي.
لا شك أن هذا الإنقسام يعيد الى الأذهان بقاء العراق ضمن تصنيف الدولة الهشة، بمعنى أن حالة الدولة لا تؤهلها للخروج من الهشاشة التي تحدد بمعايير متعددة في مقدمتها قدرة الدولة على حماية مواطنيها وتوفير الأمن اللازم لإستمرار الحراك الإجتماعي والاقتصادي والمشاركة السياسية وضمان الحياة الكريمة مع كفالة الحريات العامة وتحقيق على الرضا العام.
يمثل الأمن أحد أكبر أوجه الإنفاق الحكومي في العراق، إذ يحتل أولوية قصوى ويستنزف حوالي ربع الموازنة السنوية للدولة (بحدود 20 مليار دولار) وهذه الكلفة المالية العالية في بلد يعاني من إقتصاد ريعي وتدني مستوى بناه التحتية وتزايد الحاجات الإنسانية لمواطنيه، تشكل معضلة كبيرة، ولا يوازي المنجز الأمني والمتانة المؤسساتية حجم الإنفاق المالي، ولم يحز على الرضا العمومي فلازالت الشكوى تتصاعد من بطئ الاستجابة في حالات الخرق الأمني والتهديد الإرهابي، كما أن الحديث عن الفساد المالي والإداري لم يتناقص طيلة هذه السنوات بما يمنع القول بنجاح العراق أو على الأقل في طريقه للنجاح لبناء مؤسسة أمنية فعّالة.
إن إنتكاسة عام 2014، لازالت ماثلة في الأذهان إذ شكلت ضربة عنيفة لصورة المؤسسة العسكرية والأمنية وحملتها مسؤولية ما حصل من إنهيار ولأن التغلب على ذلك إستدعى تعبئة عامة وصدور فتوى المرجعية العليا تطلب التطوع للدفاع عن البلاد، لكن ذلك كشف ضعف الإداء المؤسساتي وأخطاء فاحشة في إعادة بناء ولاء وعقيدة أفراد المؤسسة للنظام السياسي الجديد، فضلاً عن عدم قدرتهم على مواجهة تنظيم ديني مؤدلج كالقاعدة وداعش. يَقدُم أفراده على الانتحار والموت إنغماساً، مما زرع حالة ذعر وإنهيار نفسي بين صفوف القوات النظامية.
بالنتيجة، تم التغلب على تلك المشاكل بتشكيل ألوية الحشد الشعبي ذات الإعداد النفسي والمعنوي العالي، وجاء دخول الحشديين في المعركة ضد داعش ليكون إضافة نوعية مهمة شدت من ساعد المؤسسة العسكرية ورفعت معنويات الجيش والشرطة الإتحادية. كما نجح التدريب العالي والإهتمام الخاص بقوات النخبة (جهاز مكافحة الإرهاب) ذات العشرة ألاف رجل، ليقدم صورة مشرقة عن المقاتل العراقي وهو يخوض غمار تحرير المناطق التي احتلتها داعش.
إلا أن النصر الكبير الذي أحرزه العراق عام 2017 لم ينه التحدي الإرهابي ولم يقض عليه نهائيا، ولا زالت التحذيرات الأمريكية والعراقية تتوالى من إحتمال عودة نشاط التنظيم الإرهابي رغم قتل زعيمه الإرهابي أبي بكر البغدادي في تشرين الأول 2019. إذ سجلت الاحصاءات تزايد هجمات خلايا التنظيم النائمة في المناطق الرخوة والوعرة ونهايات القرى النائية والمراكز السكانية البعيدة نسبياً، وارتفع عدد الهجمات الى حدود الالف هجوم في غضون عامين من الإعلان الرسمي للنصر في كانون الأول 2017.
أن ما يضعف إداء المؤسسة الأمنية العراقية هو ضعف التنسيق بين الأجهزة المتماثلة أو غيابه في أحيان كثيرة، فكل جهاز يحوز المعلومات لنفسه ويستخدمها لتأكيد فاعليته الذاتية، كما أن الأجندات الخاصة تؤدي دوراً سلبياً في إحباط فعالية هذه الأجهزة. إضافة الى نوعية الولاء والتوجه العقائدي فبينما تركز إدارة الحشد الشعبي على الاعداد العقائدي الديني ويتمظهر ذلك في نوع من السلوك العام والتوجهات الإعلامية والسياسية، حتى بات الحشد يصنف ضمن مؤسسات محور المقاومة والممانعة، يظهر جهاز مكافحة الإرهاب وكأنه صنيعة تدريب واعداد أمريكي خاص والأمر ذاته عندما يتم التركيز على دور حلف الناتو وتدريبه في العراق في مقابل قوى تشك عميقاً بهذا الدور لا سيما الشق الأمريكي منه.
ولا زالت توجه إتهامات لصنوف قوات المؤسسة الأمنية والعسكرية من أنها لا تلتزم بمعايير حقوق الانسان في تعاملها مع المظنونين والمشتبه بهم اللذين يسقطون في قبضتها، مما يحول دون إمتداد حبال الثقة بينها وبين الجمهور العام، مع الأخذ بالحسبان فساد بعض المحققين وإبتزاز أخرين وإستغلال طرف ثالث.
يعتقد خبراء عديدون أن غياب التنظيم المؤسسي يحول دون إندماج فروع المؤسسة الأمنية والعسكرية، والتي بقيت موزعة الموارد، متباعدة الرؤى، مع أن اهدافها موحدةً إفتراضاً.
فعدم وجود قيادة عامة للقوات المسلحة ومكتب يعاونه، ربما لم يُكسب المؤسسة الأمنية والعسكرية الخبرات الضرورية وهيئة الركن المؤثرة القادرة على تعبئة الإمكانات لبناء جيش وطني ومؤسسة أمنية وعقل إستخباراتي متجدد، ومع دخول العالم مرحلة ما يعرف بالحروب الهجينة والادوات الناعمة المسنودة بالأدوات الخشنة، يتجلى مقدار الهشاشة البنائية للمؤسسة العسكرية التي أُعيد بناءها بعد 2003، فلازالت الذهنيات التقليدية القديمة تهيمن على صناعة القرار ولم تتحول الوحدات الأساسية في سلاح البر الى وحدات خفيفة ، سريعة الحركة، عالية التجهيز لخوض قتالات سريعة تتناسب معه مهمة قمع خلايا الإرهاب، كما أن المجال الجوي لم يغطى بعد بمراقبة ورصد عالي يحمي سيادة العراق ويمنع إختراق أجوائه بدفاع جوي حديث وفعال، ولا زالت الحاجة قوية لوجود طائرات قوات التحالف الدولي، لمعاونة الجهد الإستخباري والعمليات الهجومية للقوات العراقية في مهاجمة تحصينات ومخابئ وكهوف خلايا الإرهاب في عمق الجبال والصحاري العراقية.
ولم يرتق سلاح الجو العراقي الى المستوى الذي يؤهله لتجهيز طائراته للعمل المستمر دونما حاجة الى طائرات الحلفاء، رغم أنه يمتلك 32 طائرة أف 16 وطائرات كيوتو الكورية وسيزناكرفان التشيكية.
إن ما حصل في صيف عام 2019 من هجمات بطائرات مسيرة على معسكرات ومخازن سلاح عراقية (تتبع الحشد الشعبي) دونما نجاح عراقي في التصدي لها، أفصح عن إنكشاف واضح ونقاط وهن في منظومة الدفاع العراقي، ولا زال العراقيون يتساءلون عن جدوى وجود بعثات تدريب ومساعدات عسكرية لدول التحالف الدولي في العراق، أذ كانت أمضت سنوات طويلة دون أن يتحسن إداء المنظومة العسكرية والأمنية العراقية وفقاً للخطط والمعايير المتقدمة بحيث لا تعود محتاجة الى دعم دولي مباشر، وهو الدعم الذي أصبح معضلة سياسية في العراق بسبب الانقسام السياسي بين فريقين، فريق متحالف مع إيران وفريق يفضل الدعم الأمريكي - الغربي بشكل عام لضرورات فنية وعسكرية ولوجستية.
وإذ أصبح الإستقرار السياسي متوقفاً على سرعة تنامي قوة الدولة والسلطة الأمنية والمنظومة العسكرية وإحتكار السلاح والعنف الشرعي فأن أمام العراق طريق طويل للإنتهاء من النقاش والجدل السياسي الدائر وحسم الإرادة العراقية بإتجاه رؤية غير متأثرة بأيدولوجيات سياسية بل بمقتضيات الأمن الوطني العراقي واستراتيجيات الدفاع والتعبئة والانضباط الاجتماعي وتقدير المصالح والمخاطر.