الانتخابات.. حلول جذرية
تعرّض النظام السياسي في العراق برمّته إلى احتمالات الانهيار بعد اندلاع احتجاجات تشرين في العام 2019م. وهذا ما حذّر منه مركزنا (رواق بغداد) في العدد الأول من مجلة (الرواق)، والذي حمل عنوان (العراق واحتمالات الانهيار). ولم يكن الأمر يتطلّب خوارقاً باراسايكولوجية، أو حنكة هنري كيسنجر، أو نعوم تشومسكي؛ للكشف عن تأثير الفجوة التي ضربت النظام السياسي ففصلته عن الجماهير المؤيّدة لاستمراره وديمومته. وهو الأمر الذي ينبئ عن تداعياتٍ خطيرةٍ، ومشاكلَ كبيرةٍ، تتطلّب حلولاً حقيقيةً لأزمة النظام؛ لذا من السذاجة - في تصوّري - أن نربط الاحتجاجات بحكومة عادل عبد المهدي بمعزلٍ عن كشف وتحليل الصورة الكبيرة للأحداث، وليس ذلك دفاعاً عن حكومة عبد المهدي، أو تنزيهاً لها من الأخطاء، ولا إغفالاً عن الأسباب الدولية المحفزة للاحتجاجات وتداعياتها، كالتمويل الأجنبي، والتحريك الإعلامي، وتعقيدات المشهد الدولي وتأثيرها على الداخل العراقي، وفي مقدّمتها فرض العقوبات الاقتصادية على إيران، ووقوع العراق - من الناحية الجيوسياسية - في مواجهة سياسة الضغوط القصوى (maximum pressure) على إيران، والتي فرضها الرئيس السابق ترامب.
وبذلك نستطيع فهم التوقيت الخاطئ الذي جاءت فيه حكومة عادل عبد المهدي، وحملت على أكتافها أزمة نظام الحكم، لا أزمة الحكومات السابقة فحسب. وهكذا، عندما يقع الخيار بين التضحية بالحكم أو التضحية بالحكومة، فإنّ الأسهل عند ذلك هو التضحية بالحكومة؛ لحفظ نظام الحكم؛ لذا مارست المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف تنفسّاً اصطناعياً اضطرارياً في جسد نظام الحكم، اعتمد على التضحية بالحكومة من خلال التلميح لها بالاستقالة من جهة، والدعوة لانتخاباتٍ مبكرةٍ وما يستلزمها من تشكيل محكمةٍ اتحاديةٍ ومفوضية انتخاباتٍ جديدتين، فضلاً عن حثّ الجماهير والنخب لنظم شؤونها، وخوض معترك السياسة والحكم إذا ما أرادت التغيير.
ولكن يبقى السؤال الذي يلحّ على العراقيين: هل ستكون الانتخابات حلاًّ لمشاكلهم؟ فبالرغم من أنّ النظام الانتخابي الذي كان حصيلة الاحتجاجات قد حاز على تأييدٍ جماهيريٍّ ملحوظٍ على شبكات التواصل الاجتماعي، إلّا أنّ التجربة ستبقى كفيلةً في تبيان مدى نجاحه وقدرته على استيلاد برلمان وحكومة يتمتعان بالقدرة على حلّ الأزمات التي تعصف بالعراق اقتصادياً واجتماعياً وخدمياً.
فالنظام الانتخابي القائم على الترشيح الفردي في الدوائر الصغيرة سينتج نواباً أكثر تركيزاً على مناطقهم، وأقلّ اهتماماً بالمشاكل العامة؛ إذ سيكون همّهم الأساس إرضاء ناخبيهم في دائرتهم الصغيرة المحدودة. فرضا الناخب هو المناط في استجلاب الأصوات في الانتخابات التي تليها. كما أنّ كلّ واحدٍ من المرشّحين الفائزين سيكون – غالباً - أكثر قوةً من كتلته التي رشّحته في الدائرة الانتخابية؛ لأنّ المعيار الأساس في نجاحه هو قدرته على إقناع الناخبين، والحصول على الأصوات، بغضّ النظر عن الكتلة وتوجّهاتها. وبذلك ستضعف قدرة قيادة الكتلة في السيطرة على توجّهات نوّابها. وهو الأمر الذي قد يصعّب من قدرة مجلس النواب القادم على تشكيل حكومة ضمن التوقيتات الدستورية المحدّدة. وبذلك ستستمر حكومة السيد الكاظمي في تصريف الأعمال لمدةٍ قد لا تكون قصيرة، لحين تشكيل حكومةٍ جديدة. وهو ما لا يريده العراقيون، وقد يهدّد الاستقرار الداخلي في البلد كلّه، لا سمح الله.
نعم، سيكون للمشاركة الانتخابية الواسعة دورٌ كبيرٌ في رسم شكل مجلس النواب والحكومة القادمة. وهو ما تشير له استطلاعات الرأي التي قام بها (رواق بغداد)، من أنّها - أي الانتخابات - ستحظى بمشاركةٍ أوسع من السابقة، على عكس ما تروّج له بعض وسائل الإعلام، سيّما الفئات العمرية التي تتراوح بين 18-30 سنة. الأمر الذي يدعونا للتفاؤل في استعادة النظام السياسي لمشروعيته الجماهيرية، من خلال بثّ دماءٍ جديدةٍ للمشاركة بشكلٍ أكبر.
وما علينا - كنخبٍ عاملةٍ في حقول المعرفة، وتضطلع بمسؤوليةٍ كبيرةٍ - هو كشف الحقيقة دون مواربة، وتوعية أفراد المجتمع، وتحديد سقف توقّعاتنا، في ضوء الواقع المتشابك؛ لنتجنّب عواصف الإحباط التي تحيق بنا من كلّ جانبٍ
د. عباس العنبوري