لكيلا تموتَ الذاكرةُ
عباس العنبوري
لمْ أتخطَّ الثلاثةَ عشرَ ربيعًا، يومَ قرّرَ فارسُ الأُمّةِ العربيّةِ المزعومُ غزوَ أحدِ أشقائِهِ، بعدَ أنْ أفنى عشَراتِ الألوفِ منْ شعبِهِ في حربٍ عبثيّةٍ، امتدت لثماني سنواتٍ. يومَها قبضَتْ على عُنُقي – بفاصلةٍ لم تتجاوزِ الثَّلاثةَ أشهرٍ- كمّاشتا "اليتمِ والحصارِ"، أقسى ما يمكنُ أن يُربَّى إنسانٌ في مثلِ تلكَ السنينَ؛ إذ توالتْ بعدَ (2 آب/ أغسطس 1990م) عشراتُ الأحداث، ولكنْ، بقيتْ معايشةُ الحصارِ الاقتصاديِّ الخانِقِ بكلِّ تفاصيلِهِ وتعقيداتِهِ واحدةً من أقسى ما مرَّ على ذاكرتي وذاكرةِ الأعمِّ الأغلبِ من العراقييّنَ، ممّنْ عايشوا ظروفَ الحصارِ واكتووا بنارِهِ في تسعينيّاتِ القرنِ الماضي.
فالأحداثُ العابرةُ في حياةِ الفردِ، معَ ما لها منْ تأثيرٍ في تشكّلِ الشخصيةِ الإنسانيّةِ وتكوّنِها، ودورُها في بلورةِ الصفاتِ العامّةِ للمجتمعِ، يبقى في دائرةِ الإمكانِ تجاوزُ آثارِها السلبيّةِ.
أما التحديّاتُ العامّةُ التي يُواجهُها المجتمعُ بأجمعِهِ، فلا يمكنُ تخطّيها من دون دراسةٍ تفكيكيّةٍ، تحليليّةٍ، دقيقةٍ؛ لقراءةِ الأحداثِ، ومعرفةِ الآثارِ، وما يترتّبُ عليها منْ نتائجٍ، ينبغي أخذُها بنظرِ الاعتبارِ عند أصحاب القرار، وواضعي السياساتِ العامّةِ للدولةِ.
ونحنُ أولئكَ الذينَ ذقنا مرارةَ (الخبزِ الأسمرِ)، وسمعنا أصواتَ (الدوّارةِ) المتعاليةِ في الصباحِ والمساءِ: (خبز يابس، نخالة، بطاله للبيع)، نحنُ - وحدَنا- نمتلكُ ذاكرةً خاصّةً، يُحلّيها (البيبسي) المعبأُ محلّيًّا بألوانٍ صناعيّةٍ، والمضغوطُ بغازٍ لا نعرفُ لهُ أصلًا، وطعومٌ نُقنعُ أنفسَنا بأنّها تشابهُ الطعمَ الأصليَّ. نحن – وحدَنا- نعرفُ كيفَ نُشبعُ بطونَنا بـ(الباذنجان والبطاطا) المقليّةِ بزيتِ طعامٍ كثيفٍ، يَعلقُ بقاعِ الفمِ وجانبيه، ونُحلّي أيّامَنا بـ(خبزٍ) مقليٍّ بالزيتِ، ومغمّسٍ بـ(الدبسِ). ونعرفُ أيضًا كيفَ يمكنُ أنْ يُباعَ أثاثُ البيوتِ؛ لتفترشَ العائلةُ الأرضَ من أجلِ تأمينِ لُقمةِ عيشٍ.
فضلًا عمّا تعنيه العملةُ الأصليّةُ المُعلّمةُ بـ: (الخطِّ والنخلةِ والفسفورةِ)، التي تكشفُها أجهزةٌ خشبيّةٌ صغيرةٌ، لا تخلو منها أبسطُ محالَّ البقالةِ؛ لتجنّبِ العملةِ المزيَّفةِ أو (الزائفةِ) على الرغمِ من أنّ جميعَها (العملات)، تحملُ صورةَ فارسِ الأمّةِ المزعومِ.
ولأنّنا - أمّةَ العراقِ المعاصرِ- لا نألفُ التوثيقَ، وتضيعُ علينا آلافُ الأحداثِ من دون تدوينٍ، وتتآكل ذاكرتُنا يومًا بعدَ يومٍ؛ لغيابِ الأعمالِ الفنيّةِ التي توثّقُ الأحداثَ البارزةَ في حياتِنا - أمةً ومجتمعًا- حتّى مرّتْ علينا (حربُ الثماني سنواتٍ، والانتفاضةِ الشعبانيّةِ)، فضًلا عمّا أحدثَه البعثُ منْ جرائمَ، من دون محاولاتٍ توثيقيّةٍ حقيقيّةٍ، تحفظُ الذاكرةَ، بلْ تصنعُها عندَ الأجيالِ القادمةِ، التي تسمعُ منّا شِفاهًا وقدْ لا تصدّقُنا.
وتبعًا لذلك، أيّدتْ مجلّةُ (الرواقِ) كتابةَ هذا العددِ، وشجّعتْ عليه؛ من أجلِ دراسةِ مرحلةِ (الحصارِ) التي مرتْ على العراقِ في تسعينيّاتِ القرنِ الماضي، والسنينَ الأولى من قرنِنا الحالي وتفكيكِها.
وأخيرًا، لا يمكن لآلاف الصفحات أنْ تستطيعَ سردَ يومياتٍ قاسيةٍ مرّتْ على ملايينِ العراقيينَ تحتَ وطأةِ الكفافِ، تطحنُهم رحى الجوعِ والفاقةِ، حسبُنا بمقدارِ ما نستطيعُ أن نراكمَ المحاولاتِ، وأن نديمَ زخمَها، وأن نزرعَ بذرةً لفكرةٍ هنا وفكرةٍ هناكَ، أملًا في زيادةِ الوعيِ، وكشفِ الخبايا والخفايا، وكسرًا للجمودِ الذي جعلَنا ننشغلُ بِهَمِّ يومِنا الذي نحنُ فيهِ على مراجعةِ أيّامِنا التي مضتْ؛ لفهمِ حاضرِنا، والاستعدادِ لمواجهةِ مستقبلِنا.
وختامًا، أقولُ إنّنا نقومُ بعملٍ يحيي الذاكرةَ، ويعملُ على ألّا تموتَ.
مجموعة باحثين