خطابُ السيستانيّ: سلطةٌ متعاليةٌ فوقَ السياسةِ
عند الحديث عن مفهوم الخطاب تعرض جملة من التساؤلات عن كيفيّة عمله على المستوى النظريّ وعلى المستوى التطبيقيّ، وعادة ما يقوم المشتغلون بالمفهوم ومقترباته بإعادة تقييم عدد من الرموز الخطابيّة الخاصّة بكلّ متغيّر خطابيّ سواء أكان سياسيًّا أم دينيًّا أم اقتصاديًّا أم غير ذلك من المجالات؛ لأنّ الخطاب بين الجماعات أو الدول أو الفئات يندرج في عدد من المفاهيم الخاصّة، وتمثل تلك المفاهيم سلطة خطابيّة (بمعزل عن غاياتها) فكلّ جماعة من الجماعات الإنسانيّة لها مفاهيم خاصّة بها، وتمثّل تلك المفاهيم ارتباطات قيميّة وعاطفيّة بين الجماعة وأفرادها حتّى الأفراد المتمرّدين؛ فإنّهم يتعاطون مع تلك المفاهيم بصورة عاطفيّة تروّض بعضا من احتياجاتهم؛ إذ إنّ هناك رموزا جمعية تعدّ أهمّ الوسائل في ربط الخطاب ومفاهيمه، والرموز الجمعيّة تشتمل على الآراء الثقافيّة التي يتمُّ توارثها عبر الأجيال، وتكون معروفة لدى أفراد الجماعة، وتقدّم ذخيرتهم الصوريّة نحو الأشياء.
وإذا ما كان هناك خطاب مائز ومؤثّر في العراق بعد عام 2003م، فهو خطاب مرجعيّة السيّد السيستانيّ؛ إذ سارت على وفق حبكة مدروسة أتيح لها صنع خطوط خطابيّة ثابتة يمكن قراءتها وتتبّعها والتنبُّؤ إلى حدّ ما في قادمها، سواء أكان ذلك الخطاب موجّها للقوى السياسية أم الجمهور أم الأطراف الخارجيّة. ولكلّ تلك الخطوط وسائلها التي مكّنتها من تجاوز الخروج عن السياق، أو الوقوع في فخّ التناقض.
وقد مثّل خطاب السيستانيّ بوصفه مرجعًا دينيًّا في وعي الشيعة معنًى دينيًّا متعاليًا ونمطًا من العلاقة الروحيًة التي تحكم رؤيته لمقلّديه وغيرهم، وهذه العلاقة تتجاوز الجوانب الاجتماعيّة وصولا للسياسيّة؛ فبعد أن كانت العلاقة بين الفقيه والمقلّد قائمة على الأمور الدينيّة بالنسبة لمراجع الدين في المدرسة التي ينتمي إليها السيستانيّ أصبحت أكثر توسّعًا بعد عام 2003م؛ إذ مثّلت سلطة روحيّة للعمليّات الدينيّة والسياسيّة بمعناها العامّ، وأصبح للمرجع خطاب مائز ينتظره الجميع، ورموز مختلفة يوردها، ورسائل بصيغ مختلفة، ومثّل نفوذًا في السياسة العراقيّة مكّنه من حلحلة الكثير من المشكلات، وأعطاه ميزة عن الأطراف الدينيّة الأخرى في العراق.
وبالتالي تمنح سلطة السيستانيّ الروحيّة دوره الذي تعجز عن أخذه الأطراف الأخرى، وعلى وفقها يتحدّد موقفه في القضايا التي تمسّ النظام العام، فنجد أن السيستانيّ تدخّل في انتخابات عام 2003م، وفي كتابة الدستور، وبقيت ضامنة للأليّة الديموقراطيّة (الانتخابات) بصورة متكرّرة، وطرفا أساس في تثبيت النظام السياسيّ بعد 2003م، إلّا أنّها وقفت مع الجمهور بخروجه والمطابة بإصلاح النظام في احتجاجات 2015م، و2019م، وتبنّت خطابه.
ويمكن ملاحظة عدد من المعطيات التي توضّح القوّة في خطاب السيستانيّ (وبالأخصّ ما يتعلّق منها في الشأن السياسيّ)؛ إذ يحاول السيستانيّ في الظروف المختلفة تمييز نفسه عن الفعاليّات الدينيّة والسياسيّة الأخرى، ودلالات ذلك هو عدم اسبقيّته في الخطاب، فهو ينتظر الخطابات الأخرى ليقدّم انموذجا مختلفا عن خطابهم، لا يحسبه على أحد، ولا يجعل من خطاب الآخرين مقاربا لخطابه. ولذلك فإنّ خطاب السيستانيّ غالبا ما يكون قابلاً للتأويل، لا يكتنفه الوضوح، ولا يكون الفصل فيه نهائيّا منذ بدايته؛ بل هو يواكب ويتدرّج في خطابه، ثمّ ينفصل بخطاب مائز، يعطي فيه رؤيته.
ينتمي المرجع السيستانيّ إلى مدرسة الخطاب المتأخّر القارئ للأحداث بأوجهها المختلفة، فهو خطاب يتّسم بالحذر ولذلك تكون نسبة الأخطاء فيه قليلة، ويبتعد عن الخطابات الداعمة لطرف سياسيّ على حساب طرف آخر، وإن حدث عكس ذلك فإنّه يضع ذلك الانحياز في سياق ما تطلبه المنفعة العامة، وكان هناك موقف فريد في تدخله بالخلاف السياسي بين طرفين سياسيين بعدما طُلِبَ منه حلّ أزمة اختيار رئيس الوزراء بعد انتخابات 2014م؛ فأجاب برسالة يوافق فيها التغيير. وكان سببا رئيس في تنحّي المالكيّ عن الولاية الثالثة، ولا يمكن حساب صمت المرجعيّة على أنّه رضى أو تعارض، بل دائما هناك مسوّغات تتيح للمرجعيّة إرسال رسائل أخرى غير الرسائل المطلوبة أو المتوقّعة. تتدخّل المرجعيّة في الحالات التي يكون فيها الصوت الجماهيريّ غير الحزبيّ طرفاً في الأزمة. وغالبا ما تكون هناك إجابات غير متوقّعة في خطاب المرجعيّة، وهو جزء من القوّة الخطابيّة؛ إذ لا يمكن التحضير للاستجابة أو الردّ، خصوصا في الخطاب السياسيّ. لتبقى ثنائيّة الدين والسياسة موجودة في خطابه، إلّا أنّها تضيق وتتوسّع نتيجة لسياقها الموضوعيّ.
ولم تغادر مرجعيّة السيستانيّ تعاطيها القائم على ثنائيّة الدين والسلطة، بل هي تذكّر فيها بصورة مستمرّة، مستعملة رمزيّة خطابها بأنّ دورها يقتصر على النصح والإرشاد بوصفها بوابة للفصل بين المرجعيّة والأمور السياسيّة.
وتلك واحدة من المسائل المهمّة في التعاطي المرجعيّ مع الأحداث السياسيّة وعلى الرغم من أنّه أصبح سلطة متعالية فوق السياسيّة فإنّه بقي محافظا على ثنائيّة السلطة والدين، ولم يسعَ إلى تقليص الفجوة بينهما، رغم عدم وجود تصريح بالتفريق، والتركيز من خلال رجال الدين التابعين منهم لمرجعية السيّد السيستانيّ (بأنّ السياسة والدين لا تفريق بينهم).
وذلك يعود بالأساس إلى نظريّة الدولة عند الشيعة؛ إذ ترتبط بفكرة الانتظار القائمة على تفسير الجانب السياسيّ وعدم قدرة غير المعصوم في الإدارة الثنائيّة للسلطة والدين معا، وإنّ تعقيد المشاهد السياسيّة نتيجة لعدم التقييد بالفكر الدينيّ. ولم تكن تلك هي الفكرة المطلقة عند الشيعة فقد اتجهت الولاية العامّة للفقيه على دوره في الغيبة المساوي لدور المعصوم.
ولكنّ مرجعيّة السيستانيّ من خلال عدد من الممارسات توضّح تلك الفجوة وتوسّعها، فقد يقلّل حدث ما من تلك الفجوة كما في أحداث تشرين 2019م، أو عندما تدخّلت المرجعيّة بشكل مباشر في الدعوة للإصلاح، إلّا أنّها تضعها في سياق من الرشد والنصيحة، بينما أوعزت تدخّلها في أول انتخابات لصالح قائمة بعينها، لظروف خاصّة بأوّل انتخابات وعدم معرفة الجمهور في التعاطي مع تلك الآلية.
وتعدّ تلك الثنائيّة واحدة من المخرجات التي تتيح للمرجعيّة عدم التدخّل أو الصمت في الأحداث السياسيّة، ومن خلالها لا يمكن ارتفاع نسبة التوقّع بتدخلها، ويتيح من خلالها النأي بنفسها عن خلافات ربّما تعتقد أنّ وجودها لا يمثّل إلّا انسحاباً لرمزيّة المرجع المتعالية.
تلك الوسائل الخطابيّة وأهمّيّتها هي من دفعت هيئة تحرير مجلّة الخطاب السياسيّ إلى أن تختار خطاب السيستانيّ عنوانا لعددها الأوّل بوصفه بوابة للانفتاح بعد ذلك على سياقات خطابيّة أخرى.
مجموعة باحثين