الكويت والعراق والبرود القاتل
زين العابدين آل يوسف/كاتب وباحث في العلوم السياسية
بعد انهيار الدولة العثمانية أصبحت أراضيها مغانم تقاسمها الحلفاء، فكان العراق مِن نصيب بريطانيا، إذ كان ثلاث ولايات وأصبح دولةً واحدة في 1921 وهو بداية نشوء الدولة الوطنية. لكن كانت هناك إشكالية استراتيجية بما يخص محيط الدولة الجديدة والتي تتعلق بقضية الحدود وخلافات الدول الجوار منها الكويت. مِن جملة ما تعنى به هذه الورقة أهم ما يرتبط بهذه التحولات، وفي النقاط الآتية:
أولاً: انعكاس التجربة السياسية الناشئة في العراق على الداخل الكويتي
إنَّ إحدى التمظهرات الرئيسية لِلتأثير السياسي والاجتماعي بين العراق والكويت حصلت بعد قيام النظام الدستوري في العراق والذي فتح أعين وشهية المثقفين والتجار وبعض وجهاء الكويت لاستنساخ التجربة الدستورية والبرلمانية في الكويت والتي كانت إمارة بلا دستور، مطلقة الحكم بيد الأمير، لذلك نشأت في بداية القرن العشرين في الكويت حركةٌ سياسية نشطة عُرِفَت بالكتلة الوطنية متعارف عليها باسم "التجّار"، وكانت في ذلك الحين متضررة مِن تسلط البريطانيين على مقدرات البلاد وشؤونها من خلال اتفاقية الحماية المفروضة عام 1899 ومن خلال اتفاقية التنقيب عن النفط التي أبرمت عام1934 ؛ ومستاءة مِن تجاهل الحكم لها لعدم مشاورتها في شؤون البلاد. لذا راحت الكتلة الوطنية تطالب بإقامة" مجلس تشريعي"، وهذا ما ورد في المذكرة التي قُدمت لِلأمير من قبل الكتلة في أواخر شهر حزيران/ يونيو 1938، وقد جرت بعد ذلك مباحثات أسفرت عن إقرار الحاكم لهذا المطلب. وفي كانون الأول/ ديسمبر 1938 حلَّ المجلس وحُظِرت نشاطاته السياسية واعتقل ولوحق عدد مِن قادة1938 الحركة الدستورية، وهناك خمس عوائل من قادة الحركة لجأت إلى العراق واستقرّت في البصرة.
ثانياً: هاجس ضمّ الكويت إلى العراق
بدأت هذه الهواجس تظهر بشكلٍ رسمي عندما بدأ الملك غازي بالمطالبة بضمّ الكويت إلى العراق، وكان يلوّح بالخيار العسكري لِضمّ الكويت، وفتح إذاعة الزهور التي وجهت إلى الكويت والتي مِن خلالها أذاع بياناته التي أعلن فيها عن رغبته في هذا الأمر، وهناك وثيقة رسمية بخطه أمر فيها الجيش العراقي باسترجاع الكويت. إلا أنها قوبلت برفضٍ سياسي، كما مذكور في الوثيقة المؤرخة بتاريخ 14 كانون الثاني/ يناير 1939. وقد انتهت هذه المطالبات بوفاته.
تجددت هذه المطالبة في النظام الجمهوري الجديد حيث قام رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم في عام 1961 في بيان متلفَز بمطالبته بضمّ الكويت إلى العراق وانتهت بعد الإطاحة به، أما في عام 1963 اعترفت السلطة العراقية بالكويت دولةً مستقلة ذات سيادة.
وقد تكررت هذه المطالبات بوتيرة أعلى في ظل نظام صدام حسين، إذ قام باجتياح الكويت رغبة منه بضمها إلى العراق عام1990 وانتهت بعملية عسكرية قادها التحالف الدولي ضد العراق، آلَت إلى انسحاب صدام.
ثالثاً: إنَّ الخلاف على الحدود الذي يُعَد هاجس العراق الأساسي في علاقته مع الكويت، يكمن في البحث عن معبَر بحري يوصله بالخليج العربي، وهذه المساع دائماً ما تُعَرقل بسبب التسابق الكويتي مع العراق لِلظفر بهيمنةٍ تامة على المنافذ البحرية المشتركة والقريبة بين الكويت والعراق، حيث أنّ الكويت تمتلك سواحل يبلغ طولها نحو 500) كم (مقارنةً بسواحل العراق التي لا تتجاوز 50 )كم) فقط وتمتلك خمسة موانئ على الخليج العربي، فهذه المساع تصعّد مِن التوتر بين البلدَين. فحتى بعد سقوط نظام صدام حسين تكررت هذه التوترات والتي بلغت ذروتها عام 2011 بعد ما قررت الحكومة الكويتية إنشاء ميناء مبارك الكبير.
تاريخ السجال العراقي الكويتي
إنَّ أهم القضايا التي تستحضر في ذاكرة الدولتَين على المستوى الشعبي والقيادة السياسية لِكلا الدولتَين هو ما تقدَّم ذكره، فمِن الانعكاسات والتراكمات السياسية إلى المطالبات بضِمّ الكويت والغزو، إلى الإشكالية الحدودية بين البلدَين، وانتهاءً بمسألة الديون المترتبة على العراق كتعويضات لِلكويت والتي جرى تسديدها كاملةً في الآونة الأخيرة، وتعتبر مِن وجهة نظر الكويت إنها تعويض معنوي أكثر مِن كونه مادياً لما سببه الغزو مِن آثار نفسية واجتماعية؛ كلّ ذلك يفرز شعوراً يؤثّر على موقف الكويت الرسمي، فعلى الرغم مِن التحولات السياسية التي عصفت بالبلدَين، لكنَّ الكويت بقيت ترفع شعار (تسامح ولا تنسى)، وإنَّ التحولات السياسية والاجتماعية أفضت إلى نتيجة واحدة وهي أن الكويت والعراق على الرغم مِن المدة الطويلة التي أعقبت الغزو والمساع السياسية لردم هوة الخلاف، فإنَّ هناك حذر شديد في التعامل الثنائي بين البلدَين، وبات مِن الواضح أن لا يوجَد تأثير سياسي حقيقي قد يسببه البلدان لبعضهما بسبب ما تركه الغزو وذاكرته مِن فجوةٍ عميقة غيّرت واقع التعامل على المستوى الاستراتيجي. واليوم نرى حراكاً سياسياً عميقاً ومتغيرات سياسية في الكويت وفي العراق. لكن نرى بروداً قاتلاً في التعاطي معها على المستوى الشعبي وحتى الأكاديمي، وهذا يبين مدى الابتعاد الكبير بين البلدَين باستثناء التواصل بين القيادة السياسية الذي يعد من متطلبات العمل الدبلوماسي، فلا يوجد ديناميكية عالية بين البلدين كأي بلدَين جارين يكون بينهما تفاعل عالي المستوى كما هو الحال بين العراق وإيران أو الكويت والسعودية.
بدأت المناوشات المتبادلة بين الكويت والعراق في الحدود البرية والبحرية منذ سنوات طويلة وسببت مشاكل قد أصبحت قضايا دبلوماسية وأزمات كبيرة، منها حادثة "الصامتة" التي وقعت في 20 آذار/ مارس 1973، والتي قامت في منطقة الصامتة الحدودية حيث كان هذا أول تبادل إطلاق نار بين البلدين وراح فيه ضحايا مِن الطرفين وتسبب في وقته إلى إغلاق الحدود وتصعيد القضية دبلوماسياً وادّعت الكويت أن العراق هو مَن بدأ بأطلاق النار.
أفضت هذه القضية إلى ارسال وفود لحلحلتها بعد التوتر والتصعيد بين الطرفَين الذي استخدم فيه السلاح لأوّل مرة وجرى الدخول العسكري وأخذ الأراضي وبعدها تمَّ التراجع.
بقيت هذه القضية تمثل في مخيال الفرد الكويتي أن هناك خطر تحت الرماد مخبَّأ يخشى النفخ فيه وإشعاله ويدعهم أمام مصير مجهول. أمّا السردية العراقية السائدة ترى أنَّ العراق له حقّ في الكويت لأنّها دولة صغرى وتخنق الممر المائي لِلعراق، إضافةً إلى طبيعة الشخصيّة التسلطية لدى قيادات الأنظمة الاستبدادية التي تفرض الهيمنةَ على كلّ ما هو دونها حجماً وتأثيراً، وهذا قد اتضح في كلّ أزمة بين البلدين، إذ تجد المواطنين مِن كلا الجانبين يشنون حملات تشنيع وتهجّم لتتطور على مستوى مسؤولين يدخلون على الخط، مستغلين هذا الشعور الذي يوفر لهم خطاباً يوائم هذه الفئات لِكي يشعروهم بأنَّهم جزءاً مِن تفكيرهم ويشاركونهم الخوف والوجل هذا. لذلك ترى أن الخطاب الشعبوي يكون عالياً من قبل مسؤولين وأعضاء مجلس النوّاب والأمة ليحققوا مكسبًا جماهيريًا ورصيداً انتخابياً يسندهم لِلفوز في مقاعد المجلس.
عن السجال العراقي الكويتي الأخير
في 26 نيسان/ أبريل 2022 خرج النائب العراقي "علاء الحيدري" بمؤتمرٍ صحفي قال فيه أن الكويت قامت باعتقال صيادين عراقيين وحجزهم وتعذيبهم، وقد توفّي أحد الصيادين جراء هذا الفعل. وهدد النائب الحيدري الكويت باللجوء إلى هيئة الحشد الشعبي العراقي لتكون رادعة لأيّ اعتداء يسفر من الكويت على العراق.
أحدث هذا التصريح ضجّةً في الداخل الكويتي اضطرّ الكويت على إثر هذا الخطاب إلى إعلان رفع الجهوزية التامة لِلقوات الكويتية وخفر السواحل بعد أن رفضوا هذه الاتهامات التي صدرت من النائب الحيدري.
بدأت حملة تبادل الاتهامات والتراشق في وسائل التواصل الاجتماعي بين الكويتيين والعراقيين لتؤدّي إلى دخول النواب الكويتيين على خط الأزمة، وبدأت التصريحات والتهديدات تتعالى.
ثمّة مسألة ملفتة في خطاب التراشق عند الجانب الكويتي، وهو التذكير بأنهم قدموا مساعدات للعراق، وأنهم تمننوا على العراق بالمنح والتساهل، وإنَّ العراق ناكر لِلجميل حسب ما لوحظ من تعليقات في هذا الجانب وفي تعليقات أخرى كان التركيز منصبّاً على أن العراق بلد فاقد السيادة، وإنَّ إيران هي مَن تحكمه وتدير شؤونه !وفي ردود أخرى على تصريحات النائب الحيدري ورد فيها: كان عليك أن تهدد الايرانيين المحتلين بلدك لا الكويت التي قدمت مساعدات لكم.
استمرت حملة التصريحات من الداخل الكويتي قابلتها ردود أفعال في الداخل العراقي بشكل ملفت لِلنظر، فهنالك اعلاميون وسياسيون ومدونون كويتيون نظموا حملات في الاعلام لِلرد على تهديد النائب الحيدري، إذ صرح الناشط السياسي الكويتي "صباح الهويدي" بأنَّ عقلية العراق تجاه الكويت هي العنتريات وهم يظنون أن العراق يستطيع احتلال الكويت ونحن نقول لا تقدر وعليه يجب استدعاء السفير العراقي وتقديم مذكرة احتجاج على ما حصل. وفي السياق ذاته خرج النائب "بدر الحميدي" عضو مجلس الأمة الكويتي بتصريح أكثر غرابةً وطالب بإيقاف منفذ العبدلي الحدودي مع العراق، وعمل حواجز خرسانية كبيرة على طول الحدود مع العراق وعمل بويات بحرية متلاصقة على الحدود البحرية مع العراق، وأن يكون الاتصال مع العراق عن طريق الجو فقط!
تمرّ دولةُ الكويت في حالة سياسية صاخبة وساخنة بين طرفَي الحكومة والنواب المعارضين الذين أجبروا الحكومة على الاستقالة وبدأوا يحضرون لانتخابات نيابية جديدة. هذا الجو السياسي يحتاج إلى تواجد في الجو الشعبي وتبنّي خطابات شعبوية تلهب الجماهير ليقولوا نحن موجودين لِلدفاع عنكم من أي جهة تهدد وجودكم، وهذا الخطاب قد يحقق نجاحاً في مثل هذه الحالات في الأوساط الشعبية، حيث أن هذا الخطاب يلبي رغباتهم في حالة الشحن العدائي تجاه ما يعدّونه خصماً وجودياً لهم.
النائب "بدر الحميدي" كان قد رشَّح في انتخابات رئاسة مجلس الأمة، وكان بينه وبين الظفر في الرئاسة بضعة أصوات. لكن الرئيس "مرزوق الغانم" تغلّب عليه في تصريح له أنه سيرشح لرئاسة مجلس الأمة وهذا يحتاج خطاب تثويري حول قضية معينة. لذلك تبنّى هذا الخطاب البعيد عن العمل بالسياقات والأعراف الدبلوماسية العقلانية والبعيدة عن المقترحات غير القابلة للتصديق والتفعيل.
عراقياً ردَّت وزارة الخارجية بأنّه لا يوجد تهديد أمني بين الكويت والعراق، ولكن موقف الخارجية العراقية لاقى حملة سخرية في التواصل الاجتماعي في الكويت، حيث جرى الحديث عن استذكار لِلأيام التي طمأن بها صدّام الكويت وبعدها اجتاحهم!
إنَّ انتخابات تشرين 2021 العراقية أفرزت نوّاباً يبحثون عن أي قضية لكي يثبتوا وجودَهم لقواعدهم التي تحتضنهم، وليكوّنوا منها شبكات زبائنية، لاسيما بعد توقف التوظيف وتردي الحالة الاقتصادية في العراق، إذ دأبوا على تحيين الفرص ليقدّموا على خطوات شعبوية مستغلّين مشاعر العوام مِن المواطنين المحملين بذاكرة الشحن الاعلامي لِلسلطة السابقة ضد الكويت. ولهذا تجدهم قد أيدوا خطاب النائب علاء الحيدري الذي لوح بهيئة عسكرية تعتبر تحت إمرة القائد العام للقوات المسلحة. لذلك الغرابة هي تلويح النائب بها وهو بهذا الموقع المسؤول، يبين أن عقلية النواب في أي مكان تتركز على ما يكثر السواد في أعينهم ولا ينظرون الدولةَ وعلاقاتها مع دول الجوار.
مَن المسؤول عن إيجاد الحلول؟
هذا العداء المضمَر الذي يطفو على السطح بين الفينة والأخرى بحملات مثل هذه، تتحمل مسؤوليته الدوائر الثقافية والملحقيات في السفارتَين الكويتية والعراقية في كلا البلدَين، لأنّهما يجب أن يرفعوا مستوى الحوار والتفاهم وزيادة الأنشطة بين البلدَين على المستوى الشعبي مِن خلال منظمات المجتمع المدني والأنشطة الشبابية والثقافية لكي يكون هناك مصارحة مباشرة لا تقبل المجاملة والبرود حتى لنشهد إغلاقاً كاملاً لملف العداوة هذا.
ويجب التأكيد على دحض مسألة تابعية الكويت إلى العراق لأنَّ الدولة الوطنية الحديثة تأسست عام 1921 بهذا التخطيط السياسي، والكويت ليست منه لأنَّ الطرق على هذه المسألة هي غاية في الحساسية تلقي بأثرها على مستقبل العلاقات بين البلدَين، ولأنَّ هناك أجيال تتربّى على ثقافة الند والضد، وحين تصل لمصدر القرار ستعكس الثقافة التي حملوها.
بعض الأصوات السياسية التي تتعالى في كلّ أزمة لتعمق الشرخَ الاجتماعي والثقافي بين البلدَين بغايات محورية تسعى لإلقاء نسق سياسي واحد واصطفافات طائفية لسحب البساط مِن الدولة ذات الخصومة الأزلية وتحولها إلى خصومات جبهوية، وهذا ما يحصل في معظم البلدان التي فيها تعدد طائفي وعرقي. وعليه يجب أن يكون العراق ومصالحه نصب أعين اصحاب القرار، ويجب الابتعاد عن الاصطفاف المحوري المضر بمصالح بلدنا وعلاقاته مع دول الجوار جميعها دون استثناء.
زين العابدين آل يوسف