العدالة الانتقالية في العراق بين المفهوم والوقائع
د. فالح مكطوف كاصد
مفهوم العدالة الانتقالية :
يمكن تعريف العدالة الانتقالية بأنَّها تطبيقات أو إجراءات عملية تتخذها السلطات التي غادرت مرحلة الدكتاتورية وانتقلت الى مرحلة الحكم الديمقراطي، وغالباً ما ترتكز تلك الإجراءات على معالجة (جميع) ما خلفته الأنظمة من آثار على المجتمع بشكل عام وعلى ضحايا الحقبة السابقة بغية جبر الضرر ــ بالمعنى الواسع الذي يتضمن التعويض المادي والمعنوي ــ بشكل خاص، بالإضافة الى إعادة التأهيل على أصعدة مختلفة بغية العيش في مرحلة من الانسجام تتاح فيها ممارسة الحريات العامة والشخصية للجميع وبما ينسجم مع حقوق الإنسان.
مقاربات العدالة الانتقالية :
للعدالة الانتقالية مقاربات متعددة ساهمت في وضع وإيضاح مفهومها من الناحية النظرية، وقد تم استنتاج تلك المقاربات واستخلاصها عن طريق الخطوات العملية والإجرائية للتجارب العالمية التي وضعت أمام اختيار نسبي، بأن تطبق جميع تلك الاستراتيجيات أو اختيار ما يتناسب مع الحاجة الفعلية التي تمكنها من وضع جميع مقاربات العدالة الانتقالية أو بعض منها موضع التنفيذ، فمثلا في ألمانيا كانت لمقاربات المحاكمة وعدم الإفلات من العقاب التي جرت في محكمة نورنبيرغ الشهيرة عام 1945 لقادة النازية، بالإضافة الى تعويض الضحايا دوراً ملموساً في تجربة تلك الدولة بعد الحرب العالمية الثانية أما بعد توحيد ألمانيا مع الجزء الشرقي بعد انهيار برلين عام 1998 فكانت المقاربة الأهم للعدالة الانتقالية هي تطهير المؤسسات في الجزء الشرقي، أما في سيراليون فقد كان للجنة تقصي الحقائق والمصالحة المشكلة في تموز عام ٢٠٠٢ دورها الأكبر في حسم موضوع العدالة الانتقالية، في حين كان لمقاربة محاكمات لقادة الأرجنتين وعدم إفلاتهم من العقاب الأولوية في تلك التجربة، وكان لوصول المعارضة للسلطة عن طريق التفاوض هو الأقرب الى الممارسة التطبيقية في التجربة البولونية، وهكذا تتعدد أولويات التطبيقات لإستراتيجيات العدالة الانتقالية وفقاً لكل تجربة على حدة ومن متابعة التجارب العالمية وتطبيقاتها تم تشخيص أهم مقاربات للعدالة الانتقالية وهي تتلخص بلجان الحقيقة، والإصلاح المؤسسي، والمحاكمات وعدم الإفلات من العقاب، والتعويض وجبر الضرر، والاعتذار والمصالحة، والتطهير، والذكرى السنوية، والنصب التذكارية، والتفاوض.
دلالة العدالة الانتقالية في التجربة العراقية :
للعدالة الانتقالية في العراق، دلالتها الخاصة التي تتفق مع الفهم العام على الصعيد الرسمي أو الشعبي، وهي كون ذلك النوع من العدالة، اقترن فقط بواقع تعويض الضحايا وجبر ضررهم، ومن ثمّ ــ وبحسب تلك القناعة والفهم ــ فإنَّ على العدالة الانتقالية أن تكف عن الوجود عندما تحقق تلك الغاية، على أنَّ هذا التصوّر خلق نوع من التعامل قللَّ من الأهمية المفترضة للعدالة الانتقالية، مما أدى إلى تحجيم لدورها، وأثر ذلك في عدم الترويج لها على الصعيد الاجتماعي، أو اعتمادها كثقافة للتغيير.
والحقيقة فإنَّ هذا الفهم المتعسف ــ الذي يربط بين العدالة الانتقالية وتعويض الضحايا ويعاملها كونها المهمة الوحيدة للعدالة الانتقالية ــ يحتاج الى مراجعة لأنَّ العدالة الانتقالية من منظور أي تحول ديمقراطي، تُعدّ ركناً من أركان أيّ نظام جديد، فبموجبها وبالاستناد إليها فقط، يستطيع النظام تحقيق أسس الديمقراطية، والسلم الأهلي، وتداول السلطة بأقل تقدير، لأنها تقوم أساساً، ووفقاً للتجارب العالمية، وكحد أدنى، على خلق التوازن والتعايش وترسيخ الانسجام المجتمعي بين صنفين متناقصين، الصنف الأول الذي يُعدّ بمثابة إرث خلَّفه النظام السابق، استقر لعقود وأسس لثقافة العنف التي تمثلت بممارسات تعسفية مستندة الى تشريعات أكثر تعسفاً مرتبطة بمجتمع متكامل من أتباع ومريدين وهيكل مطيع من الأجهزة الأمنية التي تحتاج إلى إصلاح مؤسسي، بالإضافة إلى ذلك وجود جهاز حزبي يساند النظام الذي كان يمثل مصالح طبقة من المنتفعين، وبين الصنف الثاني المتمثل بالضحايا الذين تعرضوا لانتهاكات حقوق الإنسان وتعرضت حياتهم ومصالحهم وعيشهم وحريتهم في كافة المجالات للاعتداء والتنكيل، وتعرض جزء منهم للإبادة الجماعية ولعقوبات تتعارض مع حقوق الإنسان، ابتداء من عقوبة الإعدام وانتهاء بالسجن والتهجير وتكميم الأفواه وانعدام تكافؤ الفرص والتمييز القومي والطائفي، وغير ذلك من انتقاص حقهم بالعيش بكرامة، للمدة التي بقى فيها النظام السابق بالحكم، هذا التقابل والتعارض يحتاج الى ذلك التوازن بين النقيضين وخلق انسجام مجتمعي بينهما، والتأكيد على أنَّ تجاوز إرث الماضي لا يأتي إلا عن طريق دعم واضع وتبني حقيقي لمقاربة مهمة من مقاربات العدالة الانتقالية التي يطلق عليها مصطلح (المصالحة) تتخللها مقاربات الاعتذار والمصارحة وكذلك المحاكمة لمن ارتكب جرائم تستحق العقاب أو إعادة التأهيل التي تقترن بالتطهير لجهاز الدولة من العناصر التي ارتكبت تلك الجرائم، وهذا يدلل على أهمية وخطورة العدالة الانتقالية التي يتوجب أن يكون ترسيخها كممارسة عملية مؤثراً في تغيير موازين القوى باتجاه مفاهيم العدالة والمساواة، وبشكل ملموس وله مشخصاته الدائمة التي تتماها مع وجود نظام ديمقراطي جديد، يفترض فيه الاختلاف عن سابقه بتبني المفهوم الواسع والممارسة العملية للعدالة الانتقالية على صعيد الإستراتيجيات التي ميزتها، وارتباطها الوثيق مع المفاهيم الأخرى كالديمقراطية الحقة والتداول السلمي للسلطة.
وبالرغم من القول بأنَّ العدالة الانتقالية اقترنت بالتعويض حسب الفهم الرسمي والشعبي، إلا أنَّها على صعيد الوقائع وكمفهوم ومصطلح متداول في الأدب السياسي في العراق جاء لاحقاً لمجموعة من التشريعات التي شملت معالجات واقعية لقضايا مختلفة، ويبدو على المفهوم آنف الذكر وكأنَّه مقحماً على تلك التوليفة من القوانين، واليوم أصبح مفهوم (العدالة الانتقالية) متداولاً في أوساط المهتمين، وعلى الصعيد الرسمي نوعاً ما، ومن كل ما تقدم يمكن القول بأنَّ تبني العدالة الانتقالية بكلّيتها لم يكن هو المنهج المقصود الذي سارت علية الحكومات منذ سقوط النظام السابق، بغية إيصاله الى أهدافه المرجوة، وإنَّما جاء بشكلٍ عرضي، حتى استقر تدريجياً وتم تداوله كمصطلح حقوقي وسياسي.
مؤسسات العدالة الانتقالية :
لقد تم التنويه إلى أنَّ التغيير الذي حدث في العراق وأدى الى إزالة النظام السابق، لم يكن معني بالعدالة الانتقالية، ولكن السلطة الجديدة سلكت بشكل غير مقصود طرق معينة، واعتمدت آليات متعددة لتحقيق بعض الأهداف التي تقترب من العدالة الانتقالية، منها إصدار قوانين لتشكيل وزارات مثل وزارة الهجرة والمهجرين أو قوانين لتشكيل مؤسسات وهيئات غير مرتبطة بوزارة أو تشكيل لجان مثل لجان المفصولين السياسيين في الوزارات وغيرها من تلك الآليات، ولكن يلاحظ أنَّ المعالجات التي جاءت في الحقبة التي أعقبت تغيير النظام السابق، لم ترتكز على إنشاء تلك الجهات بهدف إظهار العدالة الانتقالية وكأنَّها مرحلة فارقة في تاريخ العراق الحديث، وإنَّما عالجت بعض مواطن الخلل بسبب الضرورة ، كخطوة أولى، لذا نراها جعلت من (الوظيفة العامة) كمعيار تجريبي أولي للمعالجات الهيكلية للدولة، ولم تكن الغاية تحقيق العدالة الانتقالية، وإنَّما كان هناك تناغم غير مقصود بين الإجراءات الحكومية ومقاربات العدالة الانتقالية.
كان الإجراء الأول الذي أقرته السلطة الجديدة بما يتعلَّق بالوظيفة العامة هو إنشاء (الهيئة الوطنية العليا لاجتثاث البعث) بقانون صادر عن سلطة الائتلاف المؤقتة برئاسة الحاكم الأميركي بول بريمر بتاريخ 16 مايو/ مايس 2003 لاجتثاث هيكل حزب البعث في العراق، وترافق ذلك مع حلّ عدد من الأجهزة الأمنية والمؤسسة العسكرية، وهذا يدخل ضمن مقاربة تطهير جهاز الدولة الذي اعتمد التطهير (الفكري) من حزب البعث والتطهير (الوظيفي) بمنع أعضائه بالاستمرار بشعل مناصب مهمة في الدولة، ومن الملاحظ أن مقاربة التطهير جاءت بعد شهر وأسبوع واحد من سقوط النظام السابق، وهذه الخطوة السريعة تحمل في طياتها أهداف سياسية أكثر من كونها مشروع لإقرار العدالة الانتقالية كمنهج حكومي، وبعد ذلك بسنوات تم تبويب إجراء التطهير تحت تسمية (الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة) وقد صدر قانونها الذي يحمل رقم (10) لسنة 2008، الذي شهد بدوره تعديلات أخرى، ولمعادلة آثار ذلك الإجراء المبكر، صدر قانون إعادة المفصولين السياسيين المرقم (24) في 26/12/2005 بغية وضع الحلول للتعسف الذي لحق معارضي النظام وأقاربهم إلى الدرجة الرابعة، بالإضافة الى معالجة وضع موظفي الدولة الجديدة، وخلق توازن كمي ونوعي للاجتثاث وشغور وظائف في الجهاز الإداري للدولة يحتاج الى كادر وظيفي. ولابد من القول بأنَّ القوانين آنفة الذكر إضافة الى المحاكمات لرموز النظام السابق، والمحاسبة وعدم الإفلات من العقاب، والسماح بإعادة المهجرين قسراً، وغيرها من الإجراءات التي يشملها مفهوم العدالة الانتقالية، لم تقوم على مبدأ التعويض المادي بل هي أقرب إلى التعويض المعنوي.
دور الدستور بتأسيس جهات التعويض :
نص دستور جمهورية العراق لسنة 2005 على كفالة الضحايا عموماً وأشار بشكل خاص الى ذوي الشهداء والسجناء السياسيين وأوجب تعويضهم وذلك بموجب (المادة 132 / أولاً) والتي جاء فيها بأن "تكفل الدولة رعاية ذوي الشهداء والسجناء السياسيين والمتضررين من الممارسات التعسفية للنظام الدكتاتوري المباد"، وكان هذا النص إيذاناً بصدور سلسلة من القوانين، التي أدت إلى تشكيل مؤسسات لتعويض الضحايا على صعيد العراق وفقاً لنوع الضرر، ولكن يمكن الإشارة الى قلّة التنسيق بين إقليم كردستان والحكومة المركزية على أساس العمل المشترك، لذا نرى أنَّ هناك نقص بالإحصائيات المتاحة بما يتعلَّق بعموم البلد أو بتصنيف الضرر واستحقاق التعويض وغير ذلك.
تُعدّ مؤسسة الشهداء، ومؤسسة السجناء السياسيين، من بين أبرز مؤسسات تعويض الضحايا السياسيين في العراق بالإضافة الى وزارة الشهداء والمؤنفلين في إقليم كردستان، في حين ينظر الى وزارة الهجرة والمهجرين، وهيئة نزاعات الملكية، كونها جهات ثانوية، تهتم بتعويض بعض الشرائح المتضررة، بالإضافة الى اللجان التي تهتم بالتعويض المعنوي، مثل لجان المفصولين السياسيين، التي تشكلت في جميع الوزارات والجهات غير المرتبطة بوزارة، وكذلك لجنة التحقق، التي تشكلت في الأمانة العامة لمجلس الوزراء، ومهمتها تلقى الطلبات عن طريق لجان الفصل السياسي، وإصدار قرارات بإعادة المفصولين السياسيين الى وظائفهم، مع احتساب سنوات الخدمة الوظيفية التي لم يستطيعوا أدائها بسبب سياسات النظام السابق.
تطبيقات مقاربة التعويض :
إنَّ مقاربة التعويض في التجربة العراقية هي الأبرز بين جميع المقاربات الأخرى، كونها استحوذت على تصوّر الرأي العام الرسمي والشعبي، بأنَّ العدالة الانتقالية ذات صلة مباشرة ووحيدة بموضوع التعويض، وتم استنتاج هذا الفهم، بسبب التعويض المادي للفئات المستهدفة من الضحايا أو ذويهم، وكان من بين أهم المزايا هو إعطاء راتب تقاعدي مجزي للسجناء السياسيين وذوي الشهداء، بالإضافة الى قطعة أرض أو وحدة سكنية، كذلك التسهيلات الأخرى المتعلَّقة بالدراسات الأولية والعليا إضافة الى الرعاية الصحية وغيرها ويمكن القول أنَّ هذا الملف (ملف التعويض) يشارف على نهايته ولكن ما يعوقه هو ضعف استجابة الأطراف الأخرى وتعاونها مع الضحايا ولاسيما بما يتعلَّق بموضوع الوحدة السكنية أو قطعة الأرض السكنية وهذا يعتمد على تعاون وزارة البلديات والمحافظين بالإضافة الى أمانة بغداد بالنسبة للساكنين في بغداد.
المدة الزمنية لمؤسسات العدالة الانتقالية :
بقاء مؤسسات العدالة الانتقالية ليس أبدياً بل يتوقف على التفرقة والتمييز بين أهدف وجودها، فإذا كان هدفها التعويض فإنَّ الموضوع يتعلق فقط بإنجاز الملفات التي تقدم بها أصحاب الضرر أو ذويهم وهذا يتطلب وقت إضافي بسبب كثرة الملفات تبعاً لكثرة الانتهاكات ومن ثم فإنَّ بقاء هذه المؤسسات يكون رهناً بإنجاز ما يتوجب عليها القيام به تنفيذاً لأهدافها التي نصت عليها قوانينها.
أما إذا كانت هذه المؤسسات متعلَّقة بمشروع العدالة الانتقالية برمته، فإن هذا يتوجب استحداث رؤية شاملة عن موضوع العدالة الانتقالية، بما يقتضيه من ضرورة ردم الهوة بين التجربة السياسية للسلطة التي أعقبت حقبة النظام السابق، وبين الحد الأقصى لتطبيق كامل مقاربات العدالة الانتقالية، وهذا ما لم تسعى أية جهة إلى تطبيقه، بالإضافة الى عدم إسناد العدالة الانتقالية بغير تشريعات التعويض، ومن ثم فإنَّ تجربة العدالة الانتقالية في العراق، تُعدّ متقطعة الأوصال، فلا يوجد ربط بين أي من استراتيجيات تلك العدالة، فمثلاً محاكمات رموز النظام المتورطين بشكل مباشر بانتهاكات حقوق الإنسان وعدم إفلاتهم من العقاب، وبقدر ما لهذه المقاربة من أهمية على الصعيد المعنوي وأثر ذلك على الضحايا، إلا أن تلك المحاكمات لم تعامل كجزء من مشروع كلي للعدالة الانتقالية، أمّا فيما يتعلَّق بموضوع الاعتذار للضحايا أو المصالحة الوطنية وترسيخ ثقافة العفو وإعادة الإصلاح المؤسسي والتأهيل النفسي والصحي للضحايا وغير ذلك فإنَّها بقيت كمفردات متناثرة، لم تصهر ويكون لها دور في بناء دولة ديمقراطية، أما بالنسبة لمقاربات أخرى كإنجاز النصب التذكارية أو المناسبات السنوية للذكرى فلم تلاقي اهتمام اجتماعي أو إعلامي من قبل الدولة، والحقيقة إنَّ عدم اهتمام المجتمع بالتضحية يعكس التقصير في إبرازها وإبراز مفهوم العدالة الانتقالية على صعيد الدولة عموماً.
د. فالح مكطوف كاصد