أُمّةٌ عراقيةٌ واحدةٌ.. وجماعات ثلاث !
لقد كنت أُصارعُ إدارة التحرير في كتابتي لهذا المقال؛ لما للتعاطي مع مفردة (الأُمّة) من شجونٍ وارتباكٍ، حتّى وصلت إلى فرصتي الأخيرة في تأجيل الكتابة. وهنا لا بدّ ممّا ليس منه بدّ. رغم أنّها – أي هيئة التحرير- قد كابدت وبذلت الوسع في محاولتها لتفكيك الفكرة والمصطلح، والبحث في جذوره، باستعراض وجهات نظرٍ مختلفةٍ؛ لكشف ما التبس على الفهم، كلُّ ذلك محاولةً منها في تحقيق المضمون بعد تأصيل النظرية. كان ذلك من خلال استكتاب وترجمة الصفوة ممّن كتب فيه وعنه.
إلّا أنّني لا زلت أعتقد أنّ هناك تداخلاً وتعقيداً بين مصطلح (الأُمّة)، سواءٌ أكانت عراقية أم فارسية أم أمريكية وغيرها، وبين مصطلحات أُخرى كـ(الوطنية) أو (الهوية الوطنية). منها على سبيل المثال، تداخل في الماهية وإمكانية التحقّق والتكوّن والتشكّل، في الأسباب والظروف – أقصد كلّ تلك المصطلحات طبعاً - .
وقد كتبت وكتب خيرة الزملاء - ممّن أعرفهم ويغيب عنّي غيرهم من الباحثين - في أبعاد البحث عن تفكيك المعنى - أقصد الأُمّة - أو إيجاده في (العراقي)، أفراداً وجماعاتٍ، أو حتّى (مكوّنات) كما يعبّر سياسيّونا حفظهم الله ورعاهم!
وما محاولات أُستاذنا المفكّر والكاتب الإسلامي (جواد علي كسار) في كتابه (الوطنية العراقية.. تحدّيات المشروعين الإيراني والتركي) عنّا ببعيدٍ. وقد سبقه، أو سار على دربه، الباحثون الزملاء (سليم مطر، وإبراهيم العبادي، وحسين درويش العادلي، ود. علي طاهر الحمود) في مقالاتٍ وكتاباتٍ مختلفةٍ. وأستطيع أن أدّعي أنّ كلّ هذه المحاولات لا شكّ أنّها أنتجت وستنتج كثيراً على مستوى التأمّل والتفكير، حتّى مرحلة (الإيجاد)، إن تسالمنا على عدم (الوجود) لـ(أُمّةٍ عراقيةٍ) أو (هويةٍ وطنيةٍ) جامعةٍ وشاملةٍ لكلّ العراقيين، ينحني لها الجميع.
ولكن، يبقى الغور في أسبار علاقة العراقيين بـ(دولتهم) أهمّ علّةٍ - من وجهة نظري - تكشف انقسامهم بشكلٍ رئيسٍ إلى جماعاتٍ ثلاث. ولا مجال للمواربة – كباحثين - لغضّ الطرف عن كشفها والحديث عنها بعقل الباحث المستنير، لا بلسان المتسطّحين في وعيهم، والمتجمدين على أفكارهم. فعلاقة الشيعة بالدولة العراقية الحديثة كانت منذ بواكيرها الأُولى مرتبكةً للدرجة التي حجبتهم عن المشاركة في مؤسّساتها بشكلٍ كبيرٍ. كلُّ ذلك بذرائع مختلفة، منها علاقة الانكليز بتأسيسها بعد إسقاط الدولة العثمانية (المسلمة)، رغم ما وقع على الشيعة من ظلمٍ وإقصاءٍ كبيرٍ في ظلّها على حساب العرب السنة الذين كان لهم الوجود الأكبر من حيث الدور والتمثيل. وظلّت علاقة الشيعة بالدولة علاقةً مرتبكةً حتّى بعد مشاركتهم الواسعة في السلطة بعد العام 2003 بدفع وتحفيز المرجعية الدينية في النجف الأشرف. وكان من الصعب بالنسبة لعامّة الشيعة التفكيك والتمييز بين معارضة (السلطة) أو الاختلاف معها من جانب، ولزوم حماية (الدولة) باعتبارها الحامي الرئيس من الاضطهاد في حال إرساء قواعدها على أساس العدل والإنصاف من جهةٍ أُخرى. فورث جيل التغيير أزمة العلاقة مع (الدولة) من الآباء والأجداد. وهكذا، لا زالت تشعر قطاعاتٌ واسعةٌ من الشيعة أزمتها مع (الحكم) و(السلطة) و(الدولة). ولكلِّ واحدٍ منها معنىً معروفٌ من الناحية النظرية الفلسفية.
أمّا (السنّة) فمرجعيتهم عبر التاريخ (الدولة)، ولكن أيّ (دولة)؟ الدولة التي يحكمها (ولي الأمر) (المسلم) (السنّي). وبذلك برز التذبذب في فهم تلك العلاقة عندما حكم (دولة) التغيير (ولي أمر) (شيعي)! وهو الأمر الذي سبّب السماح لنفوذ جماعاتٍ سلفيةٍ حاولت تقديم بديلٍ عمليٍّ لغياب (ولي الأمر) الذي تنسجم فيه شروط (الولاية) ومنها (مذهبه). ووقع السواد الأعظم من العراقيين (السنّة) فريسة أفكار تلك الجماعات؛ لعدم وجود إجاباتٍ لدعوى اختلال مواصفات (ولي الأمر) التي طرحتها تلك الجماعات. فضلاً عن مشاعر التهميش والإقصاء التي تنامت في ذلك الوسط الاجتماعي الذي كان يمتلك مقدّرات الدولة لعقودٍ من الزمن.
ولم يكن (الكورد) بأحسن حالٍ في علاقتهم مع (الدولة) العراقية. بل على العكس، فقد كانت العلاقة خلال العقود العشر الماضية قائمةً على أساس وصاية (المركز) العربي على (الإقليم) الكردي من جانب، وتعامل (الكورد) مع المركز على أساس الاستسلام للظرف الموضوعي الذي يمنع تكوين (دولتهم) المستقلّة. كلّ ذلك وسط تغذية ثقافية واجتماعية تريد أن تُقنع الكورد بأنّ الاختلاف الحضاري بين القوميتين العربية والكردية سيبقى حائلاً عن الإحساس بأنّهم جزءٌ من العراق، إلّا بنحو الضرورة والحاجة، لا بنحو القناعة والإيمان والاعتقاد.
فإذا كان (إبراهيم) عليه السلام لوحده (أُمّة واحدة) كما عبّر القرآن، فإنّ أبرز معنى وقيمة منتظرة للأُمّة العراقية المنسجمة أن يكون لها رأيٌ ينظِّمُ علاقة (الجماعات) الثلاث - أو إذا شئت القول (المكوّنات) الثلاث - بدولتهم التي تمثّلهم وترعى مصالحهم، والسلام!
د. عباس العنبوري