بغداد - واشنطن: العلاقة القلقة

I'm an image! ٠٥ / أبريل / ٢٠٢١

بغداد - واشنطن: العلاقة القلقة 

سالم مشكور

ثمانية عشر عاما مرّت على سقوط نظام صدام على يد القوات الأميركية، والعلاقات العراقية الأميركية لم تتحدد طبيعتها بعد، ولم يصل العراق الى علاقات واضحة تحظى برضى الجانبين، فضلا عن القوى السياسية العراقية المتنوعة في موقفها من هذه العلاقة.

 

أميركا:

 شهد الموقف من العراق تغييراً كبيرا حتى بات ملف العراق يوصف في واشنطن بانه "ملف صداع". التغيير بدأ خلال السنتين الأخيرتين من ولاية جورج بوش الثانية، عندما بدأ أركان ولايته يفصحون عن "إحباطهم" مما آلت إليه مواقف السياسيين العراقيين تجاه واشنطن. بعد وصول الديمقراطيين الى البيت الأبيض، بإدارة باراك أوباما عام ٢٠٠٩، تراجعت أولوية الملف العراقي في واشنطن بشكل واضح، خصوصا بعد اكتمال سحب القوات الاميركية من العراق عام ٢٠١١. كان سحب القوات على خلفية انتقاد احتلال العراق باعتبارها خطوة "جمهوريّة" كلّفت الولايات المتحدة الكثير، وكانوا ينظرون الى الطبقة السياسية العراقية كنتاج لسياسة الجمهوريين والحقيقة إن الجمهوريين هم أصحاب مشروع الحرب وإسقاط نظام صدام، ورغم الإحباط الذي كانوا يتحدثون عنه حيال غالبية الساسة العراقيين إلّا إنهم كانوا- وما زالوا- يعتبرون العراق أحد ملفاتهم المهمة التي رأوا أن إدارة أوباما الديمقراطية فرّطت بها. لكن إدارة أوباما تعاملت مع الملف العراقي بتجاهل، لأسباب تتعلق بحالة عدم ثقة عامة في واشنطن بالسياسيين العراقيين وكذلك موقف الديمقراطيين من الحرب وأسلوبهم المتميز عن الجمهوريين في إدارة السياسة الخارجية وطريقة مقاربة الملفات الساخنة في العالم. وحيث أن المثل الأميركي يقول ان الرجل يعني سياسة "ِA man is a policy" وهي إشارة الى تأثير شخصية صاحب القرار على السياسات التي ينفذها، فان التعاطي الأميركي في ظل إدارة أوباما استمد  مضمونه من شخصية الرئيس الذي نقل كثير من المقربين منه أنه كان سيئ النظرة الى العرب عموما مستندا الى حوادث تاريخية معينة، مقابل اعجابه بإيران وحضارتها العميقة، وهو ما يفسّر التقارب غير الرسمي مع طهران والاندفاع في التفاوض الذي انتهى بتوقيع الاتفاق النووي والافراج عن الأرصدة الإيرانية في البنوك الأميركية. أما العراق فكان التعاطي الأميركي معه يتم على أنه ملحق بإيران ولا يحتاج الى سياسة خاصة به. لكن توسع "داعش" ودخولها الى الأراضي العراقية وفّر فرصة لعودة التعاطي الأميركي المباشر مع الملف العراقي وإن تركّزَ الامر على الصعيد العسكري بعد عودة آلاف الجنود والمستشارين للتمركز في قواعد عسكرية لا تنوي الخروج منها. التعاطي السياسي بشقيه المعلن وغير المعلن استمر ولكن بوتيرة أخفّ مما سبق، خصوصا في وقت الانتخابات وتشكيل الحكومات.

ترامب وادارته الجمهورية

        بوصول ترامب الى البيت الأبيض ممثلا للحزب الجمهوري عام ٢٠١٧، ساد اعتقاد بان يعود الاهتمام الأميركي بالشأن العراقي الى سابق عهده لكن تصريحات ترامب خلال حملته الانتخابية وازدرائه المتكرر للعراق والعراقيين أعطى مؤشرات سلبية لم تستطع خطوته بالاتصال برئيس الوزراء حيدر العبادي آنذاك كأول اتصال خارجي، تصحيحها. لكن الجمهوريين تركوا بصمة في سياسته العراقية عندما أرفقوا انفتاحه الكبير على القيادة السعودية وصفقاته المليارية مع المملكة، بتوجّه جديد أنتج تغييراً في سياساتها تجاه العراق. أحد منظّري المحافظين الجدد "مايكل روبن" قال قبيل تسلم ترامب للرئاسة بأنّ الرسالة التي سيوصلونها الى المملكة العربية السعودية هي "كفى اقتصاراً في العلاقة على السنة والأكراد ويجب الانفتاح على شيعة العراق". بعدها بدأ التغيّر بالفعل متزامناً مع سياسة سعودية داخلية بالتضييق على الرموز الأمنية والدينية التي اقترن اسمها بسياسة سعودية داعمة لمجموعات إرهابية في العراق والمنطقة. وبالفعل اختفت السيارات المفخخة التي كانت تنفجر في بغداد بأعداد كبيرة يوميا، وهو ما أسماه السفير السعودي في بغداد آنذاك بـ "المعادلة الجديدة". لكن الانفتاح السعودي على شيعة العراق شمل جانباً من الساحة الشيعية مما دفع بعض السياسيين الى النظر الى هذا التطور على انه محاولة لتقسيم هذه الساحة. وإذا كان هذا الانفتاح شمل أطرافاً تحاول النأي بنفسها عن إيران، مستثنياً تلك المتهمة بالقرب منها، فإن من الواضح انه لم يكن بعيداً عن سياسة أميركية جديدة لمحاصرة إيران لم تكن الادارة الأميركية تخفيها، خصوصا وانها ترافقت مع مجموعة إجراءات وعقوبات لخنق إيران اقتصادياً وكان مطلوباً من العراق المشاركة فيها، انطلاقاً من اعتبار أنّ الساحة العراقية تشكل متنفساً للسياسة الإيرانية. كما أن الوجود العسكري الأميركي الذي كان ترامب يرفع شعار انهائه تراجع عنه بعد زيارته لقاعدة عين الأسد في عيد الميلاد وقال انه لن يتركها لأنه يحتاجها في مواجهة "دول في الإقليم"، في اشارة الى إيران. لقد ساهم في رسم هذه القناعة وزراء ومساعدون ومستشارون سبق أن عملوا في العراق بعد ٢٠٠٣، فضلا عن استراتيجية الحزب الجمهوري العامة في المجال الخارجي. وكانت الحرب على داعش شهدت استمرار الدور الأميركي العسكري في العراق حتى هزيمتها عام ٢٠١٧، لكن جزءاً من الجهد العسكري الأميركي خلال وبعد تلك الحرب انشغل بموضوع ظهور قوات قتالية غير نظامية تشكلت فور دخول "داعش" الى الأراضي العراقية وكانت فرصة لبناء قوة قتالية جديدة خارج المنظومة الأمنية العراقية التقليدية حملت اسم الحشد الشعبي وهو ما أثار هواجس الجانب الأميركي على خلفية اتهام الفصائل التي شكلت هذا الحشد بالقرب من ايران. ورغم أن القتال ضد "داعش" شهد في بعض مفاصله تنسيقاً - ولو عبر القناة الرسمية العراقية- بين قوات التحالف الدولي الذي  شكّلته الولايات المتحدة برئاستها، والحشد الشعبي، إلّا أنّ مقرات الحشد تعرضت لعدد من عمليات قصف من الجو توجهت أصابع اتهام الحشد فيها الى الجانب الأميركي تارة، وإسرائيل ولكن بعلم ومساعدة القوات الأميركية تارة أخرى. كما اتهمت قوات الحشد القوات الأميركية بدعمها لـمجموعات من "داعش" على أرض المعركة، رغم حربها المعلنة ضد هذه المنظمة. وفيما بعد اعترف رئيس الوزراء السابق الدكتور حيدر العبادي في مقابلة تلفزيونية بعد خروجه من الحكومة بذلك قائلا إن "أميركا لم تكن تحارب "داعش" انما كانت تدير الحرب ضدها".  من مجمل هذه المعطيات نرى أن الملف العراقي في ظل إدارة ترامب استمر على منهج التعامل معه كملف مرتبط بالملف الإيراني، وبدرجات متفاوتة.

عودة الديمقراطيين:

عاد جو بايدن الى البيت الأبيض عام ٢٠٢١ رئيساً للولايات المتحدة بعد فترتين رئاستين كان فيهما نائباً للرئيس الأميركي باراك أوباما. ورغم أنه كان مسؤولا عن الملف العراقي الذي أبعد أوباما نفسه عنه، إلّا أنه لم يأتِ على ذكر العراق خلال حملته الانتخابية عكس ايران التي كرر نيته العودة الى الإتفاق النووي الذي كان عرّابه في أدارة أوباما، ورغم الارتياح الذي سببته خسارة ترامب للانتخابات عند قطاعات واسعة من العراقيين الذين كانوا يخشون من زيادة ضغوطه على العراق لجرّها الى جبهة محاصرة إيران وما يسببه ذلك من أضرار للعراق باعتباره إحدى ساحات الصراع بين ايران وأميركا، إلّا أن فوز بايدن أحيا مخاوف في العراق من تبنيه لمشروع تقسيم العراق الذي كان اقترحه عام ٢٠٠٦، رغم أنه لم يأت على ذكره طيلة سنوات عمله نائباً للرئيس. وحتى الان لا تتوفر مؤشرات على سياسة عراقية في البيت الأبيض باستثناء ما يتعلق منها بإيران ونفوذها الذي تواجهه في الساحة العراقية.

 

عراقياً:

من مفارقات الساحة السياسية العراقية هي التغييرات الحادة في خارطة علاقات القوى العراقية مع الولايات المتحدة الأميركية. ففي لحظة اسقاط نظام صدام على يد الجيش الأميركي كانت الساحة العراقية منقسمة في الموقف من واشنطن، إذ يقف غالبية الشيعة والاكراد في صف المرحبين بالوجود الأميركي باعتباره أطاح بنظام أمعن في التنكيل بهذين المكونين اللذين يشكلان الغالبية السكانية في العراق، فيما وقف السنة بالضد من الاحتلال الأميركي وما انتجه من اسقاط لنظام جرى تصنيفه في خانتهم بسبب اقصاء المكونين الاخرين من تركيبة الحكم السابق وسياساته التنكيلية بهما. وقد خاضت مجموعات مسلحة سنية عملياتها ضد القوات الأميركية تحت اسم المقاومة  وحصلت على دعم من دول مجاورة من مصلحتها عدم استتباب الامن والاستقرار في العراق، خصوصا بعدما صدرت تصريحات أميركية حول نية التحرك بعد العراق، صوب دول مثل سوريا وإيران. ولم تقتصر عمليات تلك المجموعات على الوجود الأميركي بل استهدفت من اعتبرتهم موالين للاحتلال. لكن خارطة العلاقات بدأت بالتغيّر مع بدء مجموعات مسلحة شيعية بالعمل العسكري ضد القوات الأميركية ما دفع الجانب الأميركي الى التحرك باتجاه القوى السياسية السنيّة لاستمالتها، وكانت البداية اجتماعات عقد بين جنرالات أميركان مع ممثلي فصائل مسلحة سنيّة في اسطنبول عام ٢٠٠٥ بعد رسائل نقلها سياسيون عراقيون الى الإدارة الأميركية تظهر استعداد تلك القوى الى التفاوض مع الجانب الأميركي.

كانت الإدارة الأميركية بدأت عملياتها لإسقاط نظام صدام مستندة الى قناعة بأن الشيعة العراقيين سيكونون حلفاء لها بعدما تخلصهم من صدام، لكن صدمة الاميركيين كانت عندما بدأت مجموعات شيعية بالعمل المسلح ضدهم فيما ارتفعت المطالبات بالانسحاب الأميركي من الأراضي العراقية، واتجاه أغلب القوى والشخصيات السياسية الشيعية الى ايران فيما بقي القليل منهم يحاول التوفيق في علاقاته بين ايران والولايات المتحدة، أما الجانب الكردي فقد استمر بعلاقات تحالفية مع الجانب الأميركي وكانت مناطق إقليم  كردستان وما زالت هي الأكثر أمناً للقوات والمؤسسات الأميركية.

إصرار الجانب العراقي (بغالبيته الشيعية)، وبشخص رئيس الوزراء آنذاك السيد نوري المالكي على انسحاب القوات الأميركية، والاحتفال بيوم الانسحاب ونعته بـ"ثورة العشرين الثانية"، كانت له أصداء سلبية في واشنطن التي سبق وشهد المالكي فيها استقبالا حافلا عام ٢٠٠٦ وكانت له كلمة أمام الكونغرس الذي كان أعضاؤه يقفون مصفقين له بعد كل مقطع من كلمته. في السنوات التالية كانت السفارة الأميركية في بغداد تتعرض لمزيد من القصف بقذائف صاروخية، فيما كانت السياسة الأميركية تتحرك - من وجهة نظر بعض العراقيين - باتجاه محاربة الحشد وتحجيمه بطرق شتّى. في هذا الوقت كانت العلاقات الأميركية مع الساحة السنيّة العراقية تتطور حتى بات مطلبها هو بقاء القوات الأميركية في قواعدها التي تقلصت من مناطق الغالبية الشيعية وتضخمت في المناطق الغربية. باتت أكبر هذه القواعد هي "عين الأسد" التي تعرضت لقصف صاروخي إيراني بعيد اغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني ومعه القيادي في الحشد الشعبي "أبو مهدي المهندس" الذي كان في استقباله في مطار بغداد بداية العام ٢٠٢٠. هذه العملية حركت الكتل البرلمانية الشيعية باتجاه اصدار قرار برلماني بإخراج القوات الأميركية من العراق، ولم يحضر جلسة التصويت على القرار النواب السنة والاكراد. لم تتحرك الحكومات العراقية المتعاقبة باتجاه رسم علاقة واضحة المعالم مع الجانب الأميركي. ولم يشهد العراق حواراً وطنيّا للاتفاق على صيغة واضحة للعلاقة. ومن الغريب أن تكون العاصمة الأميركية خالية من أي تحرّك عراقي محسوس باتجاه مؤسسات القرار ورسم سياسات الإدارة الأميركية، سواء كان من خلال السفارة العراقية التي تعاني ضعفاً مستديماً، أو التعامل بطريقة اللوبي الذي يتمتع بالصفة القانونية في واشنطن والذي تلجأ اليه أغلب السفارات الأجنبية بهدف التأثير على راسم السياسة في العاصمة الأميركية. تنفق الدول في هذا السبيل عشرات او مئات ملايين الدولارات بينما السفارة العراقية تتعاقد مع شركة متواضعة بمبلغ مليون دولار فقط سنوياً دون أن تفعل هذه الشركة شيئا سوى أمور لا قيمة لها مثل ترتيب لقاء مع الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الاب، أو نشر مقالات في صحف أميركية قبيل كل زيارة لرئيس حكومة عراقي لواشنطن. والملفت للنظر أن المسؤولين العراقيين لا يرون أهمية للتحرك في واشنطن معتقدين (بل صرح  أكثر من مسؤول منهم لكاتب المقال) أن التواصل الحقيقي انما يتم مباشرة بين السفارة الأميركية في بغداد والحكومة العراقية. يغفل هؤلاء عن أنّ السفارة تنفّذ سياسة مرسومة في واشنطن وأن التأثير على هذه السياسة يجب أن يتم من داخل اميركا. إن التساؤل عن مستقبل العلاقة مع واشنطن يستدعي طرح تساؤلات عديدة عما يريده العراق من واشنطن، وما الذي يجب فعله للوصول الى علاقات سوية ومستقرة ومفيدة للعراق.وعما إذا كان السياسيون العراقيون يدركون طبيعة  واليات العمل داخل اميركا؟

البداية هي أن يعي المعنيون أن العراق يحتاج الى التوصل الى موقف موّحد من العلاقة مع الولايات المتحدة وأنّ العلاقات بين الدول تقوم على المصالح المتبادلة لا غير وهو ما يتطلب خلق مصالح لأميركا في العراق. قبل كل هذا، لابد من معرفة أن العلاقة مع واشنطن لا تنحصر بخياري التبعية أو العداء.