الحكومة العراقيَّة المرتقبة بين معوّقات الداخل وإكراهات الخارج
د. محمَّد هاشم البطاط / أستاذ العلوم السِّياسيّة في الجامعة المستنصرية
بعيدًا عن التحديدات الماهوية للشخص الأوفر حظًا للفوز بمنصب رئاسة الوزراء في العراق، ومن ثمّ تشكيل الحكومة العراقيَّة ذات المخاضات العسيرة كالعادة، فإنَّ طبيعة التعقيد في المشهد السِّياسيّ العراقيّ تفضي إلى الإقرار بوجود مجموعة من المعوّقات الداخلية والإكراهات الخارجية التي على الكتل السِّياسيّة في العراق أنْ تأخذها بنظر الاعتبار إذا ما أرادت التمكن من تمرير عمليَّة تشكيل الحكومة الجديدة، وما يحصل الآن من تباين في وجهات النظر حول شخصيَّة مرشّح الإطار التنسيقي (محمَّد شياع السوداني)، والتصعيدات الجارية حاليًّا من قبل جماهير التيار الصّدري في المنطقة الخضراء وغيرها، لا تؤشِّر خللًا في التحديد الشخصيّ للمرشّح، مهما غُلفت بتمريرات الإعلام على أنَّها كذلك، بعبارة أخرى، أنَّ الإنسداد السِّياسيّ الحاصل في عمليَّة تشكيل الحكومة يتعدى اسم المرشّح لرئاسة الوزراء هل هو (س) أم (ص)، نعم قد يكون شخص المرشّح يسهم بدرجة معينة في الإنسداد أو الانفراج، إلَّا أنَّ هذا لا يلغي أُسيةَ تعلق الأمر بعوامل ومؤشّرات أخرى رئيسة يجب الالتفات اليها إذا ما أريد النأي بالعراق والعراقيين من غلواء الفوضى وجدليات الاحتراب.
معوّقات الداخل العراقيّ، من سيكسب الرهان؟
إنَّ المشهد السِّياسيّ العراقيّ غارق بإشكاليّاته وتعقيداته المتكاثرة، وثمّة تحديات جمّة على الحكومة العراقيَّة أنْ تعالجها وفقًا لاستراتيجية علميَّة واعية، وليست ارتجالات معهودة أو حلولًا ترقيعية ضمن قاعدة (ترحيل الأزمات لا تصفيرها) أو (تخدير الجراح لا علاجها)، بيد أنَّ المعوّقات الرئيسة التي تسبق ما على الحكومة القادمة أنْ تعمله لتبقى، هي المعوّقات التي على الحكومة المرتقبة أنْ تعالجها لتوجَد، أي لتمرّ الحكومة نفسها وترى النور، وأبرز هذه المعوقات ضمن الخارطة الداخلية تتمثَّل في إيجاد تفاهم حقيقي يضمن عنصر الاحتواء للتيار الصّدري، حيث أنَّ رهان ثنائية (الإطار-التيار) لم ينته بعد، بل لا يزال في بواكيره، وما صلاة الجمعة الموحَّدة التي أقامها الصّدريون، واقتحام مقر مجلس النواب العراقيّ والاعتصام فيه، إلَّا بواكير التصعيد في تحديد هويَّة الطرف الذي سيكسب الرهان.
وأنَّ من التسطيح السِّياسيّ الذهاب إلى أنَّ الاستقالة الجماعية التي قدَّمها نواب التيار الصّدري من مجلس النواب العراقيّ تمثِّل انسحابًا من الفعل السِّياسيّ، بقدر ما تؤشِّر تعديلًا في قواعد اللعب السِّياسيّ، حيث انتقل الصّدريون من التفاوض السِّياسيّ تحت قبّة البرلمان إلى التفاوض بورقة الضغط عبر الشارع العراقيّ، الأمر الذي يعني الحاجة إلى إيجاد الاتفاق السِّياسيّ الذي يضمن للتيار الصّدري سقفًا مقبولًا من المطالب، لا أقلّها التفاهم على شكل إصلاحي للحكومة القادمة ولو بعمر قصير يُطمئن الصّدريين أنَّ انتظارهم للانتخابات القادمة لن يستمر لأربع سنوات، فضلًا عن إعطاء الضمانات حول شكل حكومي يختلف عن السابق في الشخوص والرؤى والبرنامج.
لا يمكن القول ببساطة أنَّ الوصول إلى هكذا اتفاق أمر يسير في ضوء المعطيات الراهنة، لكنَّه ليس بمستحيل في حال تمّ التفكير في مخارج من الأزمة السِّياسيّة بعيدًا عن التشنج، والزامية الخروج من التفكير بعقلية اللعبة الصفرية، لكلا الطرفين؛ لأنَّ هكذا نوع من الصراعات لا ينفع معها التفكير السِّياسيّ الصفري، بل تقليل سقف المطالب، والرؤى الواقعية، والرغبات المنطقية، من قبل جميع الأطراف السِّياسيّة يمكن أنْ يؤشّر بداية جيدة لفعل سياسيّ يقود لحكومة قادرة على المرور، كما ويجب أن تكسب الرهانات السِّياسيّة مكاسبها نسبية، ويجب أنْ تتمّ عبر التسويات التي تأخذ إرادة الشعب بنظر الاعتبار، فكسب الرهان السِّياسيّ يعني في أقصى معانيه "الكسب النسبي الأعلى".
نفس الأمر يقال بالنسبة للأطراف السِّياسيّة السُّنَّيَّة والكردية على ما بينها من اختلافات، فهي مثقلة بالاختلافات والتناحرات السِّياسيّة المتعاظمة، فالمكوّنات الثلاثة الكبرى ترزح تحت وطأة الانقسامات الثنائية التي تشكِّل في وضعها الحاليّ معوقات أساسيَّة تقف أمام إبصار الحكومة القادمة للنور، ويمكن القول أنَّ هذه الثنائيات داخل المكوّنات الثلاثة الكبرى يمكن تحويلها إلى ظاهرة ايجابيَّة، اذا تمكنت من أنْ تقود في قادم السنوات إلى تحالفات ثنائية (كبرى) تضمّ ممثّلين من المكوّنات الثلاثة، تدخل الانتخابات القادمة بها، عندها يمكن تجاوز أبرز معوّقين أمام الحكومات القادمة، معوّق تعارضات (الأغلبية-التوافقية)، ومعوّق (شمول الأغلبية للمكوّنات الثلاثة لا مكوّن واحد فقط)، أي يشكِّل التحالف الثلاثي الفائز بأغلبية مقاعد البرلمان الحكومةَ القادمة، فيما يكون التحالف الثلاثي الخاسر في المعارضة، عندها يمكن إيجاد مخرج نسبي للمعوّقات الرئيسة في المشهد العراقيّ الراهن.
إكراهات الخارج العراقيّ، الطمأنة المفقودة:
منذ الاحتلال الأمريكيّ للعراق عامّ 2003 ، والتغيير القسري الذي حصل وإسقاط نظام الطاغية المقبور، أخذت الفواعل الدوليَّة والإقليمية تمارس التدخل والتأثير والضغط على الفواعل الداخلية وفقًا لمنحنيات متعرجة (صعودًا ونزولًا) حسب الرغبات الخارجية التي شكَّلت (إكراهات) على الداخل العراقيّ أنْ يأخذها بنظر الاعتبار، فلا يمكن لايَّة حكومة عراقيَّة قادمة أنْ تضمن لنفسها التمرير دون تحصيل درجة مقبولة من التفاهم مع الفواعل الخارجية، وأنَّ غياب مثل هكذا تفاهم يعني إغراق العراق بالأزمات، ومن ثمّ تكثير المعوّقات، ويكفي أنْ نلاحظ كلّما حصل اختلاف في وجهات النظر بين أيَّة حكومة عراقيَّة وأحد هؤلاء الفواعل ارتفع منسوب الأزمات الداخلية تجاه الحكومة، الأمر الذي لا يكشف سرًا بالتأكيد حول مديات التأثير الخارجي في المشهد العراقيّ.
من الأهمِّيَّة بمكان الإشارة إلى السلوك السِّياسيّ العراقيّ للآن لم يفهم بشكل مقنع وفاعل طبيعة التعاطي مع الخارج، حيث عملية إدارة التوازنات الدوليَّة في الساحة العراقيَّة تحتاج إلى حالة من الطمأنة الواقعية للفواعل الخارجية بأنَّ الحكومة العراقيَّة لا تستعدي هذه الفواعل، وكانت الحكومات العراقيَّة السابقة، في الجملة لا بالجملة، تميل إلى طرف دون آخر بشكل كبير يستفز الطرف الآخر، ويجعله يفعّل أدوات التأثير الداخلي لتغيير المعادلة السِّياسيّة إلى وضع يناسبه، ولا يتعلق الأمر هنا بحقيقة الميل السِّياسيّ لهذه الكتلة أو تلك، فالميول السِّياسيّة أمر واقع، والتوجّهات السِّياسيّة والآيديولوجيَّة حقيقة ثابتة، ونحن نتكلم هنا عن استراتيجيَّة (الطمأنة الإدراكية للفواعل الخارجية)، أي طمأنة المُدرَك السِّياسيّ الخارجي بأنَّ التوازن الدولي مأخوذ بنظر الاعتبار، وهذا ما تمليه الواقعية السِّياسيّة، أما الحديث عن عدّم وجود التدخلات، أو إمكانيَّة النأي المطلق بالعراق وتجربته الفتية عن الآخرين، فهي أمنيات نتمناها، لكن ليس كلّما يتمنى "الشعب" يدركه، فالسِّياسة تسير بالمعطيات والإكراهات لا بالأماني.
من هنا يجب التأكيد على الطمأنة المفقودة، والبحث عن المؤشرات التي تسهم في إيجادها إذا ما أريد العمل على تمرير حكومة جديدة تسهم، ولو جزئيًا وبشكل مؤقّت، في حلحلة التعقيدات الراهنة في الوضع السِّياسيّ، وبرأيي أنَّ أيَّة شخصيَّة مرشّحة لرئاسة الوزراء عليها أنْ تفعّل المفاوضات الداخلية للتفاهم على الحلول المقبولة تجاه معوقاتها، وفي الوقت عيّنه ونفسه، تعمل على تفعيل المفاوضات الخارجية للاتفاق على الحدِّ المقبول من الإكراهات لطمأنة الاطراف الخارجية المختلفة على الحدود المقبولة من الاختلاف داخل المشهد العراقيّ؛ لأنَّ فكَّ الاشتباك بين الأسباب الداخلية والخارجية للإخفاقات في العراق أمر ليس سهلًا، فالقضيَّة أكثر تعقيدًا للمدى العميق من التداخل والتشابك بين الرؤى الخارجية والداخلية، والعوامل المؤثِّرة في المشهد العراقيّ بشكل عامٍّ.
د.محمد هشام البطاط