البابا وتوجهات الناتو
أ.م.د أثير ناظم الجاسور.
مع كل المؤشرات التي عسكتها الحرب الروسي – الاوكرانية اليوم نجد ان معطيات التاريخ تتجدد مع وضع اللمسات التجديدية لمشاريع لابد من تنفيذها، فالصراع الحاصل اليوم لا يُقتصر على حرب روسية – اوكرانية بقدر ما يعيد للذاكرة صراع الغرب والشرق ابان الحرب الباردة ومآلات هذا الصراع الذي تخللته حروب كثيرة بالانابة، فروسيا اليوم هي ليست الاتحاد السوفيتي المنهك عام 1989 والولايات المتحدة ليست تلك الدولة التي حسمت الحرب الباردة وتربعت على عرش النظام الدولي وحلفاء الطرفين الاساسيين والثانويين باتوا لاعبين اقليميين ودوليين تشهد لهم ساحة هذا النظام، بالتالي فان الحديث عن عودة فكرة التوازن بين القوى وبمختلف المجالات هي اساس التنافس والصراع اليوم خصوصاً وان النظام العالمي بات يشهد نهوض قوى صاعدة تحاول ان تثبت مكانتها حتى وان تخصصت لتكون قطباً في مجال معين، كل هذا يؤشر تغير خارطة النظام العالمي وانحسار فكرة القطب الواحد ليبدأ فصلاً جديداً من رسم مشاريع وتبدل الادوار.
روسيا تجد ان الخطر الامريكي لا يكمن فقط بقدرات الاخيرة وما تمتلكه من تكنولوجيا متطورة وترسانة حربية خطيرة ، والتوجهات الامريكية اليوم في العالم تتبدل بتبدل الاهمية الاستراتيجية لهذه المنطقة او تلك لما تحمله من عناصر تعزيز قوتها وقيادتها للعالم، بالمحصلة تحاول روسيا وبمختلف الطرق ان تحد من المشاريع الامريكية التي تهدد اولا امنها القومي وتهدد مكانتها العالمية التي باتت عل المحك اذا لم تفرض سيطرتها حتى لو بالقوة على مناطق مهمة تبعد عنها خطر المحاصرة التهميش، بالاضافة إلى روسيا ومن خلال صناع قرارها تسير وفق خطوات اثبات الوجود من خلال استعراض قوتها فكانت الاراض الاوكرانية وما تعنيه لهم من اهمية فرصة كبيرة لاثبات هذه القوة للعالم واظهار الامكانيات السياسية والعسكرية الروسية التي قد تجعل من الاخرين حذرين بالتعامل معها.
فكانت مطالبلها قبل غزوها لاوكرانيا واضحة ولا غبار على انها تتوجس من الخطوات المتبعة من قبل الولايات المتحدة وحلفائها تحديداً حلف شمال الاطلسي الذي واحد من عوامل التهديد الكبير لروسيا وامنها ومصالحها، بالتالي طالبت بضمانات اولها استبعاد فكرة ضم اوكرانيا إلى الحلف اولاً بسبب القرب الجغرافي الذي يجعل الحلف متمركز على الحدود الروسية وثانياً فان فكرة الاحتواء بكل تفاصيلها قابلة للتطبيق باي وقت رتاه الولايات المتحدة مناسباً، اما الولايات المتحدة فان تحجيم الدور الروسي في المنطقة هدف مهم من اهداف سياستها الخارجية بعد ان يساهم هذا الفعل على التحكم بمحركات الروس السياسية والاقتصادية وحتى العسكرية، بالمجمل هي ستعمل على ان تكون روسيا محاصرة بمجالات مختلفة.
وقعت الحرب وحجم الدمار الذي تعاني منه اوكرانيا كبير ولم تفلح كل التدخلات في التقليل لا من ايقاف الحرب ولا التقليل من عمليات القصف العنيفة ولا جمع المختلفين على طاولة واحدة للحوار، بالتالي فان الاحداث اليوم تسير وفق توجهات غير عقلانية قد تجر العالم لازمات شديدة اذا ما استمر الحال على ما هو عليه او شهد تصاعداً اكبر، بالمحصلة تبقى فكرة الصراع والتنافس هي اساس ادارة هذا العالم من قبل القوى الكبرى التي تحاول من خلال مختلف الوسائل ان تحقق اهدافها وتحاول تعظيم قوتها على الاخرى غير مكترثة بتبعات سياساتها التي بالضرورة اثرت على مخرجات القرار الدولي، ان الحرب في تصاعد على الارض الواقع في الاروقة السياسية والدبلوماسية لابد من وجود ضغوط كبيرة على كل الاطراف سياسياً واقتصادياً على اقل تقدير.
ولا تخلو اي ازمة من اهتزازات سواء بالفعل او بالقول وهذا ما قد يجعلنا نميز بين التوجهات السلمية والتوجهات العدوانية، فكانت تصريحات بابا الفاتيكان "فرنسيس" حول استفزاز حلف شمال الاطلسي الذي ولد غضب روسي ادى إلى غزو اوكرانيا مثيرة للجدل لدول الحلف وبالاخص دول الناتو المحيطة باوكرانيا، اذا ما كشفنا خارطة هذه الحرب سنجد ان اهم اسبابها هو وجود تحدٍ لروسيا ومطالباتها في بداية الازمة إلى جانب المحاولة وباصرار على جعل روسيا مطوقة بدول الحلف القديمة والجديدة وهذا ما يدل على ان الولايات المتحدة مع حلفائها في الناتو مصرين على ان تكون روسيا دولة ثانوية في هذا النظام وهذا ما لا يقبله القادة الروس، خصوصاً وهناك خطاباً نخبوياً داخل روسيا يحث قيادته على تعزيز المكانة والدلر على حد سواء واثبات القوة الروسية التي من خلالها قد تساعد على اعادة امجاد التاريخ.
فضلاً عن ان بابا الفاتيكان على علم واضح ان حلف شمال الاطلسي من خلال حركة الحلفاء هي تتحمل جزء من نشوب هذه الحرب التي ثبتت عجز الاطراف جميعها على وضع نقطة النهاية لها، بالنتيجة ان ما تحدث به البابا هو حقيقة لا يمكن الفرار منها ولا يمكن ان يتحدث الجميع بغير ذلك، فاذا ما افترضنا ان الناتو تماشى مع المطالب الروسية بعدم ضم اوكرانيا للحلف كجزء من استراتيجية جديدة تقي المنطقة من الحرب وتصاعد الصراع فيها، كيف سيكون موقف روسيا في حال كسرت الاتفاق وكان خيار الحرب هو الخيار الاوحد؟، بالتأكيد سيكون الموقف الروسي ضعيف وغير منطقي وغير عقلاني ومهدد للامن والسلم في العالم والمنطقة، لكن مشكلة هذه الحرب ان هناك قوى تتصارع وضحية كما هي صراعات القوى الكبرى بمختلف مناطق العالم، بالمقابل لم تحارب الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو عن خيارها بانضما اوكرانيا وبالتالي حماية اوكرانيا من خطر الحرب والاعتداء لا بل اكتفت بتحصين حدودها مع اوكرانيا لا بل راحت كما يقال تحارب باخر جندي اوكراني، وتحاول ان تكون الارض الاوكرانية هي الحصن الحصين والمدافع عن حدود الناتو التي باتت دوله القريبة تخشى التوسع العسكري والبعيدة الازمات الاقتصادية.
بالمقابل فان بابا الفاتيكان من وجهة نظر مشاهدة الخارطة بعيداً عن التحيز اراد ايصال رسالة للجميع ان الناتو بقيادة الولايات المتحدة هو من اسس لهذه الحرب وتوجهاته كانت عنصر اساس في ردة الفعل الروسية عليها، بالمحصلة فان ردة الفعل هذه كانت طبيعية لدولة كبيرة بحجم روسيا تحاول الحفاظ على وجودها وتزيزد مكاسبها مكاسب، اما ردة فعل دول الناتو على هذا التصريح قد لا تشغل الراي العام لما اعطه مؤشرات الحرب من عجز هذه الدول على حماية اوكرانيا بعد ان تورطت الاخيرة في حرب لا ناقة لها بها ولا جمل.
من وجهة نظر بعيدة عن الطرفين فان توجه البابا بهذا الصورة والكيفية قد يكون يحاول من خلالها ان يهدأ من وقع هذه الازمة محاولاً ان يلقي اللوم على جهة في سبيل اعطاء مؤشر للطرف الاخر ان يقلل من روعه وان يتعامل مع الازمة بحكمة اكثر خصوصاص وان البابا قد اعلن عن نيته بزيارة موسكو ولقاء الرئيس بوتين، وهذه المبادرة قد تكون محاولة من قبله لترطيب الاجواء بين الاطراف جميعاً وايقاف هذه الحرب التي باتت اكثر تدميراص على الاوكرانيين والعالم اجمع، النقطة الاخرى هو الشعور بخطر الرد الروسي الذي اصبح يتخدم كافة الوسائل لاجل اما الابقاء على الوضع على ما هو عليه او تحقيق اهدافه او توسع رقعة الحرب لتذهب إلى مناطق اخرى عسكرياً واقتصادياً، وبالتالي ستكون اوروبا الساحة التالية لها وهذا ما اراد البابا ايصاله للعالم ولدول الناتو بالدرجة الاساس.
بالنهاية سواء كانت روسيا قادرة على ايقاف الحرب او الولايات المتحدة وحلفائها لهم القدرة على منعها من التقدم فالحرب لا تزال نيرانها تاكل اوكرانيا، والمتضرر الوحيد الان اوكرانيا ومواطنيها لما اصابهم من دمار بمختلف المواقع والمجالات والاهم ديمومة الحياة التي تتوقف من انطلاق الصواريخ والمقذوفات، لكن الايام القادمة ستحمل لنا مفاجات كثيرة سواء في قدرة الاطراف على التفاهم الذي سيصل في كل الاحوال إلى طرق مسدودة بسبب تعنت الاطراف، او من خلال تصاعد حدة التوتر الذي ساعد على ان تتحول الحرب من الجيوش النظامية إلى حرب العصابات بالاعتماد على فصائل المرتقة لكلا الطرفين.
اثير الجاسور اثير الجاسور اثير الجاسور اثير الجاسور اثير الجاسور اثير الجاسور اثير الجاسور اثير الجاسور اثير الجاسور اثير الجاسور اثير الجاسور اثير الجاسور