مراكز الفكر(Think Tank ) ودورها في السياسة الخارجية للولايات المتحدة الامريكية

I'm an image! ١٩ / نوفمبر / ٢٠٢٢

مراكز الفكر(Think Tank ) ودورها في السياسة الخارجية للولايات المتحدة الامريكية

 

د. يسرى ستار

مراكز الفكر ودورها في صناعة  السياسة الخارجية للولايات المتحدة الامريكية

 مراكز الفكر Think Tank:-

اي باحث او مختص في الشؤون الامريكية يمكنه ان يلاحظ ان سياسة الولايات المتحدة الامريكية و منذ ثمانينيات القرن الماضي وما تلاها ما هي الا حصيلة لاراء وطروحات مراكز الفكر, وقد حظيت هذه المراكز باهتمام كبير وعلى نطاق واسع في اخر عقود القرن العشرين اذا اصبحت تمثل بديلا من البدائل المهمة في عملية تطور الدولة وتقييمها للبحث العلمي واستشرافها للمستقبل وذلك وفقا لمنظور علمي معرفي وان لهذه المراكز دور الريادة  في قيادة السياسات العالمية واضحت اداة رئيسة لانتاج المشاريع الاستراتيجية الفاعلة ,كما انها اصبحت في ذات الوقت جزءا لا يمكن فصله عن المشهد السياسي التنموي في بلدان عديدة لاسيما المتقدمة منها .وعليه اصبحت مراكز الفكر في هذه البلدان من الفواعل الرئيسة في رسم التوجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ,وايضا احد المؤثرين فيها, وتبعا لذلك فان مؤسسات الفكر رسمت لنفسها دورا محوريا ونجحت في ان تصوغ السياسة الخارجية للدول المتقدمة بشكل عام والولايات المتحدة الامريكية بشكل خاص وكان لها دورا بارزا في كثير من قضايا السياسة الخارجية الامريكية في الشؤون الدولية ، ونجحت في صياغة كيفية تعاطي الولايات المتحدة الامريكية مع العالم لمده تقترب من 100 عام وبهذا اثرت بشكل ديناميكي على صناعة وصانعي القرار الامريكي للسياسة الخارجية وبعدة وسائل . لا تقتصر توجهات السياسة الامريكية على السياسيين والاحزاب فحسب بل ان التأثير الاكبر على سياسة الولايات المتحدة الامريكية تجاه القضايا الداخلية والخارجية عادة ما يصدر من مراكز او مصاهر الفكر ,والتي تنتج كما كبيرا من الابحاث والدراسات,لتشكل قاعدة معلوماتية واستراتيجية للاحزاب والحكومات . وتتميز مراكز الفكر بعدة سمات هي :

-مركز الفكر هو هيئة دائمة .

-متخصص بإنتاج حلول للسياسة العامة .

-يؤمن ناتج أصيل من التفكير والتحليل والنصح .

-يوجه رسالته الى الحكام والرأي العام .

-غير مكلف بإنجاز مهام حكومية .

-يسعى بشكل عام للإبقاء على استقلاليته الثقافية ولايرتبط بمصالح محددة .

-لعمله طموح ظاهر أو مخفي للعمل على مفهوم ما للخير العام بخلاف الهيئات التي هدفها التجارة    والربح فقط .

  يتفاوت  دور وتأثير هذه المراكز بشكل كبير بين الدول الغربية والولايات المتحدة الامريكية كما ان تاثيرها يختلف ايضا في دول العالم الثالث وفي ضوء ذلك هنالك العديد من الادوار التي تقوم بها تلك المراكز بما يتفق والسياسة العامة للدولة وكما ياتي :-  

١. تقديم الخدمات الاستشارية للقطاع الحكومي وتأخذ عدة اشكال:

أ تكليف افراد متخصصين لاعداد تقارير مركزة ومختصرة لصناع القرار و القيادات العليا.

ب. تكليف خبراء لمراجعة وتنقيح التقارير الخاصه التي يتم اعدادها للقيادات العليا.

ج. تكليف فرق بحثية  لتقييم قضايا حساسة اوموضوع جدل وهذا الدور الاستشاري ياخذ طابع تلخيص المشاكل وتحليلها ووضع الحلول والمعالجات لها و على الاغلب يكون ذلك مع القضايا الساخنة والعاجلة .

٢ممارسة الدبلوماسية السياسية وذلك من خلال مستشاريها وخبراءها والاكاديميين العاملين فيها من قبل وزارة الخارجية والمؤسسات الامنية الاخرى .

٣العمل كمستشارين وخبراء وتتمثل في الزيارات الرسمية لبعض الدول مع كبار المسؤولين او الوفود الرسمية من اجل البحث في قضية معينة.

٤ممارسة الوساطة السياسية فهي توصل بطريقة مباشرة او غير مباشرة بين الشخصيات السياسية و كبار المسؤولين لاسيما الشخصيات الخارجية او الدولية وذلك للتعرف على ارائهم ووجهات نظرهم السياسية من خلال دعوتهم للمؤتمرات والندوات التي تعقدها هذه المراكز .

٥الدراسات المستقبليه او ما يعرف باستشراف المستقبل ,لاسيما مع تطور علم المستقبليات في العالم الغربي والتي اصبحت نتائجه جزء من المتطلبات الاساسية للتخطيط الاستراتيجي للدول المتقدمة.

٦عقلنة او ترشيد اتخاذ القرار وذلك عن طريق تقليل مخاطر الاخطاء المحتملة او الفشل عند صناع القرار او عن طريق اعداد السياسات العامة وحسن التخطيط  .         

وليس هناك تعريف عام وشامل لهذه المراكزوالسبب   في ذلك وان معظم المؤسسات والمراكز التي تقع في نطاق مراكز التفكير لاتظهر نفسها كمراكز تفكير بل تعرف عن نفسها كمنظمات(NGO) غير حكومية او منظمات غير ربحية ولكن رغم هذه الاشكالية حظيت هذه المراكز بعدة تعاريف منها:

 هي اي منظمة او مؤسسة تدعي بانها مركز للابحاث والدراسات او مركز للتحليلات حول مسالة عامة مهمة، في حين يعرفها اخرون على انها منظمات تقوم بانشطة بحثية سياسية تحت مظلة التثقيف وتنوير المجتمع المدني بشكل عام وتقدم نصيحة لصانعي القرار بشكل خاص والتعريف الاكثر تداولا لمراكز الابحاث هو تعريف دونالد ابلسون ،استاذ العلوم السياسية ،في جامعة ويست اونتاريو فقد عرفها بانها عبارة عن هيئات لها توجه بحثي لا تسعى الى الربح كما انها لا تعبر عن توجه حزبي معين ،على ان ذلك لا ينفي الصفه الايديولوجية

عنها، وتهدف الى التاثير في الراي العام والسياسة العامة للبلاد وتعد  الولايات المتحدة الامريكية الرائدة في مجال التفكير الاستراتيجي ،اذ تمتلك شبكة واسعة من مراكز البحث  بلغ عدد ها عام 2020 1871 مركزا.وويكون هدف هذه المراكز هو تحديث او تجديد قواعد الفكر والمعرفة وترويجها لصناع القرار والراي العام عن طريق عمل بحوث السياسات العامة والاستراتيجية و ايجاد الحلول للمشكلات التي تواجه السياسة الامريكية في مختلف انحاء العالم وتعد مؤسسات الفكر والراي من المؤسسات المهمة التي تلعب دورا بارزا في صياغة السياسة الخارجية الامريكية بصورة عامة و تجاه منطقة الشرق الاوسط بصورة خاصة,اذ  ان هذه المؤسسات تعطي عدد من الميزات  لمن يصنع القرار السياسي ,فهي تقوم بتوليد افكار جديدة لدى صانعي القرار في السياسة الامريكية وتوفر خبراء للعمل في الكونجرس ،و تقوم بتامين خبراء لصانعي  السياسة لايجاد تفاهم مشترك على الخيارات السياسية المختلفة، فضلا عن تثقيف المواطن الامريكي عما يدور في العالم، كما انها تقوم بتوفير امكانية قيام فريق ثالث بالوساطة بين الاطراف المتنازعة .         

ظهرت هذه المراكز مع الحرب العالمية الاولى وتزايد دورها بعد نهاية الحرب الباردة وبدات تظهر امريكية بامتياز وهناك ميزة تميز مراكز الفكر الامريكي عن غيرها من الدول الاخرى وهي قدرتها على المشاركة بشكل مباشر وغير مباشر في رسم السياسات وكذلك وجود استعداد من قبل صانعين القرار للجوء الى تلك المراكز من اجل الاخذ بمشورتها ،اذ ان تلك المراكز تضم في عضويتها شخصيات متنفذة تتربع على هرم السلطة الامريكية                                                               

 ومن امثلة مراكز الفكر في الولايات المتحدة الامريكية

1.مؤسسة كارنيغي .تأسست هذه المؤسسة عام 1910 و تعد نفسها احدى اهم المنظمات غير الربحية انشاها قطب صناعة الفولاذ كارنيجى في مدينة بيتسبرغ للبحث في اسباب الحروب وتشجيع الحلول السلمية لحل الازمات ،ولها برامج تهدف الى تحقيق نتائج عملية في مجال التعاون والسلام عن طريق البحوث و يمتد تاثيرها الى مناطق مختلفة من العالم، وقامت بانشاء مركز بحوث في الشرق الاوسط في بيروت من اجل مراقبة الاحداث في المنطقة عن كثب وقد تاسست في عام 2006 .الهدف المعلن منها هو معرفة التحديات التي تعيق التنمية السياسية والاقتصادية في المنطقة اما الهدف الخفي لها هو تعميق فهم القضايا المعقدة الاقتصادية والامنية التي لها تاثير على واقع ومستقبل المنطقة وانعكاساته على المصالح الامريكية                                                    

 2.مؤسسة هوفر للحرب والثورة والسلام :- قام بتاسيسها الرئيس الامريكي هربرت هوفر عام 1919.

3 .مؤسسة راند:-

 تاسست هذه المؤسسة عام 1948 كان الهدف منها حماية المصالح الامنية للولايات المتحدة الامريكية في العصر النووي وقد حازت على دعم مالي من هيئة اركان سلاح الجو ونشرت لمصلحته دراسات عديدة في تحليل النظم ،وتعد هذه المؤسسة من المؤسسات العريقه من بين مراكز البحث يعمل فيها اكثر من الف باحث بميزانية تزيد على 100 مليون دولار

4.مؤسسة الدراسات الاستراتيجية والدولية ومقرها في واشنطن انشئت عام 1962 تضم العديد من البرامج المتخصصه في شؤون العالميه ومنها منطقه الشرق الاوسط     .

ألية تأثير مراكز الفكر على صنع السياسة الامريكية

من الصعوبة بمكان تحديد طبيعة الدور الذي تقوم به مراكز الفكر على عملية صنع السياسة واتخاذ القرار في الولايات المتحدة الامريكية والسبب في ذلك يعود للطبيعة الغامضة التي تتسم بها عملية صنع القرار فيها ,الا انه يمكن القول بأن هذه المراكز تعد مصدرا مهما من مصادر المعلومات والتحليلات من خلال الابحاث والدراسات ,تؤثرعلى المجتمع والدولة بشكل عام وبصور مختلفة قد تكون مباشرة او غير مباشرة

وتقوم هذه المراكز بصناعة القرار من خلال ارساء الاسس الفكرية والفلسفية والاجتماعية والاقتصادية للبرامج والسياسات الرئيسة اما عن تاثير هذه المؤسسات والمراكز في صناعه قرارات السياسة الخارجية الامريكية فرغم انتشار هذه المراكز في كثير من دول العالم الى ان مراكز الفكر الامريكية تتميز عن غيرها بتاثيرها الهائل في صنع السياسة الخارجية الامريكية، فكما قال ريتشارد هاسن ان هذه المراكز تصبح عيون واذان للحكومة الامريكية في اكثر الاوقات صعوبة بالنسبة للسياسات الامريكية في العالم. لذلك قامت هذه المؤسسات بمساعدة الادارات الامريكية المتتالية في نشر الوعي بقضايا السياسة الخارجية بين جمهور الامريكي فضلا عن قيامها بدعوة عدد كبير من السياسيين المتقاعدين للاستفاده من خبراتهم،فمثلا  تلقى الرئيس كلينتون العديد من الدعوات من قبل جامعات مختلفة للتدريس فيها وكذلك هنري كيسنجر وزير خارجية ادارة الرئيس نيكسون,والذي يعد اشهر شخصية تركت بصمتها على السياسة الخارجية الامريكية وكذلك بريجنسكي و مادلين اولبرايت وكوندليزا رايس وفي قوة هذه المراكز تكمن قوة الولايات المتحدة الامريكية و ايضا بكثرة المراكز الفعالة منها والتي ترفع التحليلات الى مستوى جيواستراتيجي واستراتيجي و جيوسياسي , وقد استفادت الادارات الامريكية المتعاقبة من هذه المراكز ونشاطاتها فقد عين الرئيس الامريكي السابق جيمي كارتر بعد انتخابه عام 1976 عددا من الخبراء التابعين لمؤسسة بروكنغز في حكومته وكذلك  دونالد ريجان فقد استعان به 150 باحث من مؤسسي هيرتج وهوفر معهد انتربرايز, ولم تكن ادارة بوش الابن بمناى عن الاعتماد على خبراء تلك المراكز اذا استفاد جورج بوش الابن ممايعرف بتقرير هيئة الرئاسة والذي اطلق عليه اسم (ملاحة في بحر مضطرب) والذي تمت صياغته بواسطة ما يقارب 100 شخصية عرفت بمجموعة عمل الرئاسة وكانت تضم اعلاميون وخبراء من مراكز ابحاث ومسؤولون امنيون وسياسيون سابقون وايضا صار على هذا النهج باراك اوباما.   ولو جئنا على تاثير هذه المراكز نجد مثلا ان حرب العراق وافغانستان قد تم التخطيط لهما في هذه المراكز قبل عشر سنوات من قيامها ، اذ قام الكونغرس بتفويض الرئيس جورج بوش الابن بحق استخدام القوه ضد العراق وذلك في تشرين الثاني من العام 2002 وتم استدعاء عدد من الخبراء في هذه المراكز من اجل تقدير حجم المخاطر وما هي فرص النجاح لاي عمل عسكري يستخدم من اجل الاطاحه بنظام صدام حسين ومن هؤلاء الخبراء (كينث بولاك) الذي قلل حجم تعرض القوات الامريكيه لخطر المقاومة في العراق .

 وقد تزايد نفوذ مراكز الابحاث واصبح دورها واضحا للعيان في صنع القرار السياسي وفي الحقيقة ان جميع الرؤى والافكار المحركة للقرار الامريكي ما هي الا ثمار لنتائج المؤسسات ومراكز الدراسات الاستراتيجية فقد كان ريتشارد بيرل وهو رئيس مجلس سياسات الدفاع القومي ومن افراد مركز دراسات المشروع الامريكي يعد من دعاة اعادة رسم خارطة الشرق الاوسط واعتبر الحرب على العراق هي بداية لذلك, وقد توافد خبراء مراكز الابحاث والدراسات السياسيه والاستراتيجيه تباعا الى العراق بعد الحرب لدراسة طبيعة هذا البلد و كيف يمكن رسم مستقبله في المنطقة بعد احداث 11 سبتمبر 2001 زادت الاراء المعادية للعرب والمسلمين. وزاد تاثير هذه المراكز على مجريات الامور في منطقة الشرق الاوسط ومن ضمنها منطقة الخليج العربي. ملخص القول ان مراكز البحوث كانت ولا تزال من اهم روافد صنع القرار السياسي في الولايات المتحدة الامريكية بما تمثله من ملتقى لمجموعة من السياسيين اسهموا في صنع القرار السياسي الامريكي ،كمديري وكالات المخابرات السابقين و مستشاري الامن القومي، فضلا عن عدد كبير من الاكاديميين والاساتذة الجامعيين واصحاب كبرى الشركات الامريكيه مما اضفى على النظام الامريكي صفة التجديد والانفتاح على الفكر والعلم وهذا ما اتاح له ان يواكب التطور والتغيير ما دام ان القائمين عليه مؤمنون بان القيادة يجب ان تكون للعلم والمعرفة منطلقين بذلك من مبدأ ان المعرفة اصبحت قوة اكثر من اي وقت مضى