انقلاب قيس سعيد وانعكاسه على الشرعية
م.م. سيماء علي مهدي
يعد هذا الانقلاب الثاني في تونس بعد انقلاب بن علي عام 1987على حكم بورقيبة، لكن الفرق بينهم هو أن حكم أنه لم يغير من طبيعة السلطة الاولى وإنما جاء يتمم مسارها في انفراده بالسلطة وقمع معارضيه. أما انقلاب قيس سعيد، فقد اعلن مساء 25 تموز2021 عزل رئيس الحكومة (هشام المشيشي)، وتجميد اختصاصات البرلمان، ورفع الحصانة عن النواب، وتولي رئاسة النيابة العامة، وإعفاء عدد من الوزراء، أبرزهم وزراء الداخلية والعدل والدفاع، وتعطيل العمل بعدة مؤسسات في الدولة وفرض حظر تجوال ليلي مدته شهر. وجرى إعلان القرارات التي وصفها سعيد بـ «الاستثنائية » بحضور قياداتٍ من الجيش والأمن التي اثارت استغراب القيادات السياسية بعده حدث لم يسبق للأجهزة الامنية فعلها نظراً لحيادها ومحل ثقة التونسيين على امتداد السنوات التي تلت التغيير.
أسباب الانقلاب
في 13 تشرين الاول 2019 ، فاز سعيد برئاسة الجمهورية كمرشح رئاسي مستقل وغير مؤيد للأحزاب، ولم يمتلك برنامجا سياسيا، وتركزت حملته الانتخابية على شخصه، ومصداقيته، وتأييده للثورة، وخطاباته المباشرة مع الشعب؛ فكان فوزه دلالة على الرأي العام الذي يميل في الانتخابات الرئاسية ناحية تأييد المرشحين المستقلين ، الذين لا صلة لهم بالتجاذبات الحزبية بين القوى السياسية في البرلمان، وما تثيره تلك التحزبات من خلافات تهدد استقرار الدولة. فعند وصوله(قيس سعيد) كان صريحا حيال موقفه الرافض لشكل النظام الذي أقره الدستور، وعبر عن نيته لتغييره ، لعدة اسباب منها:
1- تراجع أداء حكومة المشيشي في تقديم الخدمات للمواطن التونسي.
2- استشراء الفساد في قطاعات حيوية في الدولة منها، داخل الطبقة السياسية و في التزوير الانتخابي، وحتى القضاء الذي عده المفصل الرئيسي للعدالة عبر تركهم لملفات قضائية متروكة لعدة سنوات من دون حسم بسبب الوساطات والنفوذ .
3- كثرة الاحتجاجات الشعبية المطالبة بتحسين الوضع المعيشي والصحي خاصة بعد ازمة كورونا.
4- تبادل الاتهامات داخل مجلس النواب مما تحول الى شبيه بساحات التصفيات وليس مكاناً للتشريع.
وعلى ضوء ذلك، أعلن موقع (ميدل إيست آي) البريطاني عن وثيقةٍ سرية، قبل الانقلابِ بشهرين، تتحدث عن اعتقال سياسيين كبار، وتدبير انقلاب في تونس بالرجوعِ إلى المادةِ ثمانين من الدستورِ التونسي، وأشارت الوثيقة (إلى أن هذا الانقلاب عبارة عن (انقلابٍ دستوري) لينفرد "قيس سعيد" بالسلطةِ تماما، وأنه بعد استدراج رئيسِ الوزراء "هشام المشيشي" ورئيسِ مجلسِ النواب "راشد الغنوشي" إلى القصر واحتجازهما هناك، سيعين اللواء خالد اليحياوي وزيراً للداخلية بالإنابة)، وكان هذا أول مؤشر على حدوث الانقلاب، وبالفعل هذا ما حدث إلا أن رئيس حزب النهضة راشد الغنوشي كانت حالته الصحية حرجة فلم يتم اعتقاله.
ازمة سياسية بغطاء دستوري
إن النظر في المسألة الدستورية وعلى وجه الخصوص مسألة تقسيم السلطات في نصوص الدستور التونسي، قد يوحي للوهلة الأولى بأن الدستور عمل على الفصل الواضح بين تلك السلطات الثلاث عبر توضيح صلاحيات كل سلطة والحدود التي تفصل بينها؛ إلا أن مسألة تقسيم السلطات تبقى خاضعة في المقام الأول لمعضلة "هل النظام التونسي رئاسي أم برلماني؟" التي يحددها إطار النقاش السياسي، وهي من ناحية أخرى تبقى رهينة الثغرات الدستورية التي تفتح الباب أمام التأويلات الناجمة عن عدم الوضوح في مسؤوليات وصلاحيات تلك السلطات بل وسبل التعامل في حال تقاطعها بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ، وتركزت أهم الخلافات حول تشكيل الحكومات واختيار المرشحين والوزراء. وما زاد من صعوبة تشكيل الحكومة هو عدم حصول أي حزب أو تكتل على أغلبية المقاعد في البرلمان بسبب اعتماد نظام التصويت بالقائمة النسبية الذي يصعّب حصول قوائم المترشحين على غالبية مطلقة من مقاعد البرلمان، كما هو في العراق حالياً.
استند الرئيس سعيد، في قراراته، وبالأساس، إلى الفصل 80 من دستور 2014 ، لا سيما فقرته الأولى، التي تقضي بأنّه (لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويعلن عن التدابير في بيان إلى الشعب....).
1- استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب (وكلاهما لم يتم استشارتهما واقعياً) وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، لم تُنشأ ولم يُنصَّب أعضاؤها بعد، على الرغم من تكريسها في الوثيقة الدستورية لعام 2014 (الفصلان 118 و 124)، ولعل الشرط الوحيد الذي حرص رئيس الجمهورية على تطبيقه، هو الإعلان عن الحالة الاستثنائية في بيان رسمي موجّه إلى الشعب.
2- حصر الغرض من «التدابير الاستثنائية» في «عودة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال»، أي تقييد شرعية «الإجراءات الاستثنائية» بضمان عودة البلاد إلى وضعها الطبيعي بعد إزالة الخطر الداهم وتداعياته، مع بقاء «مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد دائم طيلة فترة سريان الإجراءات الاستثنائية» وهو عكس ما نصّت عليه قرارات الرئيس سعيد في 25 تموز 2021، إذ قرر تجميد عمل البرلمان، ورفع الحصانة عن نوابه.
3- (وبعد مضيّ ثلاثين يوما على سريان هذه التدابير، وفي كل وقت بعد ذلك، يعهد إلى المحكمة الدستورية بطلب من رئيس مجلس نواب الشعب أو ثلاثين من أعضائه البت في استمرار الحالة الاستثنائية من عدمه، وتصرح المحكمة بقرارها علانية في أجل أقصاه خمسة عشر يوما) وفي غياب المحكمة الدستورية، كما سبقت الإشارة، أصدر الرئيس سعيد، في 23 آب2021 ، قرارا آخر بتمديد حالة الاستثناء إلى إشعار آخر.
فالأزمة التونسية ليست أزمة دستورية فحسب، بل هي أيضًا ذات طابع مركّب، سياسي واقتصادي اجتماعي، لذلك، لا يُستبعد أن تنتهي طريقته الخاصة(سعيد) في تأويل الدستور بصياغة وثيقة جديدة، يُطلب من الشعب الموافقة عليها عن طريق آلية الاستفتاء، طالما أنه جمّد عمل البرلمان، إذ يضمن الدستور الحالي، في الفصل 143 ، لرئيس الجمهورية أو ثلثي البرلمان حق المبادرة بتعديله، و لم تكن قرارات الرئيس سعيد مفاجئة إلى حد ما، فتشكيكه في جدوى الديمقراطية التمثيلية يعود إلى حملته الانتخابية وإلى الأشهر الأولى من انتخابه، ناقدًا وبشدة للوثيقة الدستورية التي جرى التوافق بشأنها عام 2014 ، مؤكداً أنها وضعت على مقاس بعض القوى السياسية الوازنة في الحياة الحزبية التونسية، ولم يتردد في الدعوة إلى أن تونس في حاجة ماسّة إلى إعادة كتابة دستورها من جديد.
قيس سعيد وحل البرلمان في تونس
أعلن الرئيس التونسي قيس سعيد في كلمة بثها التلفزيون التونسي الرسمي خلال ترؤسه اجتماع لمجلس الأمن القومي في 30 أذار 2022، عن حل البرلمان المُعلقة أعماله، إذ قال سعيد في خطابه إنه "اتخذ قرار حل البرلمان التونسي استناداً إلى الفصل 72 من الدستور "حفاظاً على الشعب ومؤسسات الدولة التونسية" ويعود ذلك الى:
1- جاء قرار الرئيس التونسي بحل البرلمان المُجمد، على خلفية عقد 120 نائباً لجلسة افتراضية، وهي الجلسة التي أسفرت عن صدور قرار بإلغاء الإجراءات الاستثنائية المتخذة في 25 تموز الماضي، إذ صوت 116 نائباً من المشاركين بنعم، كما أكد النواب المشاركون في الجلسة على رفضهم للمرسوم الرئاسي الخاص بحل المجلس الأعلى للقضاء، وعدم اعترافهم بشرعية المجلس المؤقت الجديد، وندد المشاركون بما وصفوه بـ "محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية"، ودعوا إلى فتح حوار وطني شامل لإنقاذ البلاد من أزمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
2- تزامن قرار حل البرلمان المُجمد مع تعقد المشهد السياسي التونسي، ودعوة العديد من القوى السياسية إلى إجراء حوار وطني شامل، يُمهد لتوافق بين القوى السياسية حول آليات حل هذه ألازمة، إضافة لتفاقم الأزمة الاقتصادية في ضوء تأخر دفع رواتب بعض مؤسسات القطاع الحكومي، ونقص بعض المواد الأساسية من السوق التونسية، والخلاف بين حكومة نجلاء بودن والاتحاد التونسي العام للشغل ( أهم مؤسسة نقابية بتونس )، حول خطة الإصلاح الاقتصادي، إذ يرفض الاتحاد الإصلاحات الاقتصادية؛ التي تقترحها الحكومة التونسية للحصول على تمويل من صندوق النقد، خصوصاً وأنها تتضمن "وقف التوظيف، وتجميد الأجور لمدة 5 سنوات في القطاع العام، وبيع بعض الشركات العامة، ورفع الدعم نهائياً في غضون 4 سنوات".
ردود الأفعال حول قرارات قيس سعيد
توالت ردود الأفعال حول المنحى الذي شهده المشهد التونسي بعد إعلان قيس سعيد اتخاد مجموعة من التدابير الاستثنائية، وقد تواترت ما بين مواقف الفواعل الداخلية والإقليمية والدولية وكان أبرزها كالتالي:
المستوى الأول: مواقف الأطراف الداخلية
1- الكتل الحزبية الرافضة للقرار، وكان ابرزهم (حركة النهضة-كتلة ائتلاف الكرامة-الحزب الجمهوري- حزب العمال التونسي-حزب الدستوري الحر).
2- الكتل الحزبية المؤيدة للقرار، وكان ابرزهم (التيار الديمقراطي- حزب قلب تونس) ويعود تأييدهم للفوضى التي تعم ساحة البرلمان المعطلة لعمله.
3- الاتحاد العام التونسي للشغل: داعية إلى ضرورة احترام الحقوق والحريات على ضوء تطبيقها. مشددا على ضرورة أن تتحلى جميع الأطراف بروح المسؤولية التي تتطلبها المرحلة بعيدا عن المناكفات السياسية وتصفية الحسابات بين أطراف الأزمة. مشيرا إلى ضرورة مراجعة التدابير المتعلقة بالسلطة القضائية ضمانا لاستقلالها.
4- المجلس الأعلى للقضاء الرافض للقرار، مؤكدا عقب لقاء رئيس الجمهورية بعدد من أعضائه، أن القضاة مستقلون ولا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون وأنهم يضطلعون بمهامهم وفقا للدستور والقانون في حماية الحقوق والحريات، مشددا إلى أن النيابة العامة هي جزء من القضاء العدلي الذي يتمتع أعضائها وأفرادها بنفس الحقوق والضمانات الممنوحة للقضاء الجالس، ويمارسون مهامهم وفق ما تقتضيه النصوص القانونية الجاري بها العمل.
5- الهيئة العليا المستقلة للانتخابات: عبرت على لسان رئيسها (نبيل أفون) عن صدمتها من القرارات التي أعلن عنها رئيس الجمهورية، مستبعدة الحديث عن انتخابات مبكرة في ظل فراغ دستوري خلفته قرارات سعيد الاستثنائية.
المستوى الثاني: مواقف الأطراف الإقليمية والدولية
1- التصاريح القلقة تجاه انقلاب تونس اتخذتها كل من ( تركيا- ليبيا- الامم المتحدة- الولايات المتحدة الامريكية- الاتحاد الاوربي).
2- التصاريح المؤيدة له اتخذتها كل من( مصر- السعودية- الامارات-الدول المغاربية)
3- التصريح المحايد انتهجته قطر عبر دعوتها إلى ضرورة تغليب صوت الحكمة وتجنب التصعيد بين أطراف الأزمة في تونس، وذلك عبر مسلك الحوار لتجاوز الأزمة التي تمر بها البلاد وتثبيت دعائم المؤسسات وتكريس حكم القانون في سبيل الحفاظ على استقرار تونس وتحقيق طموحات وتطلعات شعبه.
وختاماً يمكن القول، بأن نجاح أي تحول ديمقراطي رهين بالمرور في ثلاثة مراحل أساسية: الأولى/ مرحلة الانفتاح، التي يبدأ فيها النظام بعمل إصلاحات وتحرير بعض القيود على الحياة المدنية والسياسية بسبب الضغط الشعبي.
الثانية/ المرحلة الانتقالية، والتي يتم فيها وضع أسس جديدة للنظام والمؤسسات السياسية، أبرزها صياغة دستور جديد.
الثالثة/ فهي مرحلة التثبيت التي يصير فيها السلوك الديمقراطي راسخا لدى الفاعلين والمؤسسات، ويصبح التداول السلمي للسلطة عبر الانتخابات قاعدة أساسية في الدولة.
وقد نجحت تونس بالمرحلتين السابقين واخفقت بالمرحلة الاخيرة عبر انقلاب قيس سعيد على الشرعية السياسية والدستورية بتبريرات وإن كانت مقنعة، ويبدو كذلك أن رئيس الجمهورية يتعامل مع الفصل 80 كبوابة “سحرية” للخروج من ضيق الشرعية الدستورية إلى رحاب المشروعية الشعبية بالنسبة إليه، بما يحوّل الفصل إلى جسر نحو فترة انتقالية جديدة للبلاد منتهاها “الجمهورية الثالثة”. والقرار الاخير لحل البرلمان التونسي سوف يمثل دافعاً محفزاً للرئيس التونسي لاستكمال رؤيته لإعادة هيكلة جذرية للنظام السياسي في تونس، خصوصاً في ظل غياب المحكمة الدستورية، وهو الاعتبار الذي يجعله يملك منفرداً صلاحية تأويل الفصول الدستورية.
سيماء علي مهدي سيماء علي مهدي سيماء علي مهدي سيماء علي مهدي سيماء علي مهدي سيماء علي مهدي سيماء علي مهدي سيماء علي مهدي سيماء علي مهدي سيماء علي مهدي