مؤتمر دول الجوار في العراق

I'm an image! ١٥ / أغسطس / ٢٠٢٣

 

مؤتمر دول الجوار في العراق

تقدير موقف

 

 

مقدمة

شهدت علاقة العراق بدول الجوار بعد العام 2003 التباسات متعددة، وتناقض كان وقعه على العراق باهضا في أحيان كثيرة، ففي الوقت الذي أقام العراق علاقات عميقة مع الجمهورية الاسلامية في إيران بحكم الطبقة السياسية الاسلامية المعارضة التي صعدت إلى الحكم، فقد شهدت علاقته توترا كبيرا مع دول الجوار، بل أن بعض تلك الدول التي كانت متحالفة مع الجمهورية الاسلامية ـ صديقة الحكومة العراقية ـ لعبت دورا سيئا في العراق، مثل سوريا التي طالما تشكى رئيس مجلس الوزراء الأسبق نوري المالكي من دور سلبي تلعبه في العراق، وسماحها بتسرب المقاتلين السلفيين عبر حدودها مع العراق، ناهيك عن العلاقات المتشنجة مع المملكة العربية السعودية بشكل خاص، وبقية دول مجلس التعاون بشكل عام.

ومع تكليف رئيس مجلس الوزراء الأسبق حيدر العبادي بتشكيل حكومته، أخذ ينتهج سياسة تقارب إقليمي مع مختلف دول الجوار وبشكل خاص انفتح على السعودية ودول مجلس التعاون، الأمر الذي قاد لاحقا لاعادة افتتاح السعودية لسفارتها في بغداد، وتقديمها الدعم بصور مختلفة للعراق.

ولا يختلف الحال مع تركيا التي تمتلك ملفات تقاطع وتعاون كثيرة مع العراق، وكانت علاقاتها تتصاعد وتنخفض حسب التهاب تلك الملفات، مثل ملف المياه، والأكراد، وحزب العمال الكردستاني.

في ظل كل هذه الظروف، تأتي دعوة رئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي إلى عقد مؤتمر دول الجوار، بما ينسجم مع محاولاته العبور في مناخ إقليمي متوتر، لا يمكن التنبؤ بمآلاته، وفي ظل تغييرات سياسية كبيرة، تمثلت بخروج الاصلاحيين من الحكومة في إيران، وازدياد التوتر مع اسرائيل التي عقدت معاهدات تطبيع مع عدد من الدول الخليجية، الأمر الذي يجعل العراق مجددا في بؤرة تناقضات إقليمية سيكون الخاسر الأكبر فيها إذا لم يسر بحذر شديد بين ألغامها.

بالمجمل، هناك عدة عوامل، وتفسيرات لعقد هذه المؤتمر، سنوجزها فيما يلي:

 

أولا: عودة العراق الى فاعليته الإقليمية.. المرغوب الخطر.

 

يذهب البعض الى أن ما يحاول العراق فعله منذ مدة هو العودة إلى لعب دور اقليمي، ورشحت معلومات عن دور بغداد بتقريب وجهات النظر بين تركيا ومصر، وايران والسعودية، ولكن يبدو أن حقيقة دور العراق في حل الأزمات الإقليمية لا يعدو أن يكون محاولة تقريب وجهات النظر وليس حل الخلافات بشكل فعلي.

من جانب آخر، لا يزال العراق يشكل معضلة معقدة بالنسبة لدول الجوار، القريب والبعيد، ليس من مصلحة أي دولة إقليمية أن يعود العراق قويا فاعلا في الإقليم، لأن قوته تعني تمدد نفوذه إقليميا، بما سيأكل من نفوذ هذه الدول الذي حازته منذ خروج العراق من المعادلة بعد غزو الكويت، ناهيك عن انتهاء نفوذ هذه الدول في العراق ذاته في حال استعاد العراق قوته.

ولكن في الوقت نفسه، فإن بقاء العراق بحالته غير المستقرة يعني قلق مستديم لدول الإقليم، إن انفلات السلاح في العراق، وضعف سلطان الدولة، سوف يقودان آخر الأمر إلى حدوث عدم استقرار اقليمي، ويطلق في المنطقة أزمات ومشاكل معقدة ومتداخلة، كتهريب السلاح والمخدرات والبشر، ناهيك عن انطلاق عمليات الحرب بالوكالة دون قدرة أحد على السيطرة عليها.

هذا التعقيد العراقي الممض سوف يكون حاضرا أمام أي مؤتمر إقليمي بشأن العراق، مؤتمر سترغب كل دولة إقليمية بأن تكون نتائجه في صالحها بالدرجة الأولى، دون أن يكون للعراق أوراق قوية يستطيع استخدامها للخروج كرابح أكبر من حصيلة التفاعلات المعقدة إقليميا وانعكاساتها في المؤتمر، وسترغب الدول الإقليمية بضمان أن لا يكون العراق في حال تعافى محورا للسياسات الأمريكية في المنطقة على حساب دول الخليج العربي؛ التي ترغب أن تظل صاحبة هذا الدور، ومحورا أمريكيا مستقرا، خصوصا أن هناك تقارير ذكرت أن الكاظمي يرى أن انتقال مركز الثقل الى دول الخليج منذ عقد من الزمن قد سبب تدهورا في البيئة الأمنية في الإقليم، ويذهب الى أن العراق ومصر والأردن مستعدين لتحقيق الاستقرار المفقود، بما يعني عودة العراق الى لعب الدور العربي الأهم في الإقليم.

بالمجمل، وعلى الرغم من رغبة الجميع بالتهدئة في الاقليم، فإن قيام العراق بدور فاعل في عملية التهدئة هذه سيعني أن العراق قد عاد، وهو أمر مقلق جدا للدول الاقليمية. 

ثانيا: من يسبق من؟ المشاكل الداخلية وتعقيداتها الإقليمية.

 يبدو من الضروري قبل انعقاد المؤتمر التساؤل بشأن قضية مهمة، وهي قدرة العراق على حل مشاكلة وأزماته الداخلية قبل أن يحل مشاكل الإقليم، والواقع أن هذا السؤال معقد بدوره، مشاكل العراق الداخلية ترتبط بشكل كبير بالمشاكل الإقليمية والتعقيدات المترتبة عليها.

والاتفاق على حد إدنى من وجهات النظر لـ (أصدقاء الدول الاقليمية) من العراقيين سيكون مقدمة لأي تسوية كبرى، إن ترتيب البيت الداخلي وتطمين وتحييد "الوكلاء المحليين" سيكون شرطا أساس لنجاح أي تحرك إقليمي، ويبدو أن الكاظمي يحاول أن يبدأ من الخارج الى الداخل في حل الأزمة العراقية، فبجمعه للمتناقضين الاقليميين على حد من الاتفاق سوف يعطيه مساحة لفرض قرار الدولة داخليا.

من جانب آخر، يرى البعض أن هذه المؤتمرات إذا لم يكن لها انعكاس ايجابي وأثر حقيقي داخليا فإنها ستكون مجرد تجمعات شكلية، ولن تختلف عما سبقها مثل مؤتمر دعم وبناء العراق في الكويت الذي لم يكن له انعكاس واقعي بما ولد اليأس لدى العراقيين من إمكانية إيجاد أي حل حقيقي للوضع المتأزم.

ثالثا: التناقض والعقلانية.. مآل المؤتمر في ظل خلافات متصاعدة.

هناك عقبات خطرة ستعترض المؤتمر، إذ كيف يمكن تجميع عدد من الدول التي وصلت العلاقات بين بعضها إلى مراحل شديدة من القطيعة، فتركيا لديها مشاكل عميقة مع الإمارات، والسعودية، وبشكل غير مستقر مع مصر، ومع إيران فيما يخص موضوع حزب العمال الكردستاني وحركتهم في العراق، ومع العراق بشأن أزمة المياه، ومشاكل الجمهورية الاسلامية مع السعودية والمحور الخليجي ومع الدول الغربية التي يعتزم بعضها حضور المؤتمر.

مع ذلك، ربما يكون قادة هذه الدول المتناقضة قد قرروا أن يتم تبني سياسات أقل تضاربا وصراعا حرصا على مصالح دولهم السياسية والاقتصادية، آخر الأمر فإن تذبذب اسعار النفط، ودخوله ضمن الحرب السياسية الدائرة لن يكون من مصلحة هذه الدول مع تصاعد الجدل بشأن مستقبل النفط، الأمر الذي يحتم استثمار فاعليته وجدواه الاقتصادية مادامت موجودة.

 

رابعا: المضمر والمعلن.. أهداف المؤتمر بين الغموض والإفصاح

هناك عدم وضوح فيما يخص أهداف العراق من هذا المؤتمر، فهناك من يربطه بالكاظمي وحلم العودة للحكم، على الرغم من عدم وضوح موقف رئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي تجاه خوضه للانتخابات ورغبته بالعودة لمنصبه من عدمها، لكن حراكه الخارجي وسعيه إلى اكتساب رأي عام دولي وأقليمي مؤيد له، يمكن أن يكون جزءا من تحضيره لمستقبله السياسي.

بينما هناك من يرى أن بغداد تسعى من خلال هذا المؤتمر إلى تجسيد رؤيتها الاستراتيجية وحضورها الاقليمي كعامل تهدئة واستقرار ونقطة وصل بين المتصارعين في المنطقة، ويرتبط الموضوع أيضا بموضوع سعي العراق إلى الانفتاح وتعميق الصلات مع الدول العربية وبشكل قريب مع المملكة السعودية ودول مجلس التعاون بعد قطيعة مضرة طويلة، ويأتي المؤتمر كمتمم طبيعي للقمة الثلاثية بين العراق ومصر والأردن التي عقدت خلال هذا العام.

ولكن هناك بعض الوقائع التي تثير تفسيرات أخرى أو عوامل مختلفة تكمن خلف الدعوة للمؤتمر، فوزير التخطيط العراقي خالد بتّال الذي حمل دعوة رئيس مجلس الوزراء إلى أمير الكويت، قام بزيارة صندوق التنمية الكويتي، والتقى برئيس الصندوق غانم الغنيمان ، وطلب دعم الكويت لتمويل بناء مستشفيين في محافظة نينوى ومحافظة المثنى، فهل تهدف حكومة الكاظمي تفعيل مقررات مؤتمر دعم العراق الذي سبق أن عقد في الكويت؟

ولم تخل التحضيرات للمؤتمر من بعض الوقائع غير المفهومة، وتتعلق بالموقف الدولي، فبينما رحبت الولايات المتحدة كثيرا بالمؤتمر دون زيادة في التفاصيل، فإن إعلان الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون عن تطلعه للمشاركة في المؤتمر حمل تفاصيل مثيرة، فقد نقلت وكالة الانباء الكويتية أن المؤتمر جرى التنسيق لعقده بالتعاون مع فرنسا! ما هو الدور الفرنسي المرتقب في هذا المؤتمر؟ تاريخيا لم يكن للفرنسيين النفوذ المؤثر في العراق، على عكس دورهم في الشام مثلا، كما أن فرنسا ليست الفاعل الأهم في مفاوضات الملف النووي مع إيران، ولعل نقطة التقاطع الوحيدة الموجودة في المؤتمر بالنسبة لفرنسا هو الوضع السوري، الذي تلعب إيران فيه دورا مهما.

إن حركة فرنسا في هذا السياق تثير اسئلة لما تزل بلا إجابة حول تصاعد الدور الفرنسي في العراق، فرنسا التي تدعم الكثير من عمليات إعادة الإعمار في المناطق المحررة، وتقدم دعما لبرامج مكافحة التطرف العنيف، ناهيك عن مشاريع أخرى سياسية وأمنية الطابع، يشير الى إعادى ترتيب النفوذ وإدارة ملفات الصراع في المنطقة، ويكفي أن نقارن تعاظم دور المانيا وفرنسا في العراق بالمقارنة مع تضاؤل الدور البريطاني. 

كما أن مجلة الفورين بوليسي ـ المجلة الأمريكية المهمة ـ ذكرت في تقرير لها أن المؤتمر الإقليمي المنشود هو قمة أمنية سرية، وهو جهد يعود الى العام 2019، تحاول القيادة العراقية عبره أن تكون قوة بناءة في الشرق الأوسط، الامر الذي يعيدنا الى الفقرة الأولى التي ناقشنا فيها عودة العراق لدوره الاقليمي، بين الممكن والخطِر.

آخر الأمر، يبين التقرير أن ما يحدث جزء من محاولة الكاظمي لتحقيق هدفين، الأول إحداث استقرار داخلي عبر تحقيق استقرار إقليمي بين الدول المتصارعة التي تنتقل مشاكلها بطريقة أو بأخرى الى العراق، والثاني هو تحقيق علاقة دولة أمام دولة مع إيران، مع إدراك الكاظمي التام أن النفوذ الإيراني لن ينتهي ، وأنه لن يستطيع إخراج الإيرانيين من العراق، ولكن المهم تحقيق نوع من التوازن في العلاقة، عبر إقامة علاقات متينة مع قوى إقليمية مهمة كمصر وتركيا والسعودية والإمارات، الأمر الذي يمنحه دعم قوي يستند عليه وهو يسحب العراق تدريجيا من النفوذ الإيراني.

 

خاتمة

إن السؤال الأهم الذي ينبغي أن يكون حاضرا أمام صانع القرار العراقي يجب أن يكون: هل من مصلحة العراق فعلا أن يرسل إشارات برغبته بالعودة كفاعل إقليمي في الوقت الحاضر؟

خوف الدول الإقليمية من تجربة النفوذ العراقي التي انتهت بكارثة غزو الكويت عام 1990 لما تزل غضة، كما أن نشوة القوة التي امتلكتها الدول الاقليمية تجاه العراق الضعيف لا تزال قوية وفاعلة، لهذا لا يبدو من المنطقي أن يقوم العراق، الذي يعاني ضعفا عاما، ومشاكل داخلية بتعقيدات دولية وإقليمية ببث رسائل عن عن رغبته باستعادة دور إقليمي قوي، إن الأسلم في الوقت الحاضر، والأكثر منطقية، واتساقا مع القدرة العراقية الحاضرة هو محاولة تحييد العراق عن الصراعات الاقليمية، وجلب الاستقرار الوطني، الأمر المفقود في العراق منذ سنوات، وفي حال مرور المدة الكافية من الاستقرار، فإن القوة التي تترتب على الاستقرار سوف تعيد مكانة العراق تلقائيا دون الحاجة الى بث الرعب لدى جيرانه الإقليميين.