الجانب المُظلم المُحتمل لعسكرة المجتمعات الخليجية

I'm an image! ١٤ / أكتوبر / ٢٠٢٠

 

تدعو التداعيات الاقتصادية لإنتشار وباء فايروس كورونا إلى التشكيك في قدرة دول الخليج على تمويل سباق تسلح إقليمي باهظ التكلفة. بدوره، لا يعيد هذا الأمر تشكيل موقفها الجيوسياسي فحسب، بل أيضاً الجهود المبذولة لجعل الجيش ركيزة للهوية الوطنية الجديدة في وقتٍ تضطر فيه هذه الدول إلى إعادة التفاوض على العقود الاجتماعية التي عفى عليها الزمن.

يثيرُ الانخفاض الكبير في إيرادات دول الخليج المالية، نتيجة لانهيار أسعار النفط والغاز الطبيعي وانخفاض الطلب العالمي على مصادر الطاقة الاحفورية بشكل كبيرٍ، التساؤل عما إذا كان بوسع دول مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر أن تحافظ على مستوى نفقات عسكرية ضخمة جعلتها تُصنّف من بين أعلى دول العالم إنفاقاً في المجال العسكري وشراء الأسلحة.

من المعروف أن الإنفاق العسكري السعودي والإماراتي مدفوع بالحاجة المُتصورة لمواجهة التقدم الذي تحققه إيران في تطوير الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة بالإضافة إلى القدرة العسكرية النووية المُحتملة ونشاط وكلائها المتزايد في البلدان العربية. انضمت قطر إلى سباق التسلح في الخليج مؤخراً في مايبدو على أنها عملية رد فعل على المقاطعة الاقتصادية والدبلوماسية التي بدأت منذ ثلاث سنوات بقيادة السعودية والإمارات لهذه الدولة الخليجية الصغيرة الحجم ذات التأثير الإقليمي الكبير.

أحد الدوافع الأخرى لهذا الإنفاق العسكري المُتنامي هو محاولة جعل الجيش قوة لخلق هوية وطنية شاملة مبنية على أسس الإنتماء للوطن بدلاً من الدين أو التراث القبلي بهدف المساعدة في إرساء الأساس لانتقال، قد يكون مؤلماً لمجتمعات هذه الدول، في نهاية المطاف، إلى اقتصادات ما بعد النفط الأكثر تنوعاً وتنظيماً.

 

أدى إدخال الخدمة العسكرية الإلزامية للذكور في الإمارات وقطر والكويت على مدى العقد الماضي والقرار السعودي مؤخراً بفتح باب التطوع للخدمة العسكرية للنساء إلى تهيئة المناخ العام لتحقيق هذا الهدف بالإضافة إلى دعم جهود الحكومات لتوسيع مشاركة المواطنين في القوة العاملة على حساب العمالة الوافدة والمُغتربين، بما في ذلك الخدمة في القوات المسلحة.

شكلت هذه الخطوات انفصالاً عن الماضي الذي اتسم بعدم ثقة الحكام العرب إلى حدٍ كبير بالمواقف السياسية لجيوشهم واستخدموا طرقاً متعددة لحماية أنظمتهم وأنفسهم من محاولات يدعمها الجيش أو يقوم بها بنفسه لإخراجهم من السلطة.

كان توقع أصحاب القرار في المملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية المتحدة أن تدخلهم العسكري في اليمن ومشاركة الإمارات في التدخل العسكري الغربي في ليبيا لازالة نظام معمر القذافي سيعزز هيبة الجيش من خلال تحقيق انتصارات سريعة وحاسمة. لكن وبعد خمس سنوات من بدأ الحرب التي تبدو بلا نهاية، أدى التدخل الخاطئ في اليمن إلى نتائج مختلطة في أحسن الأحوال. كذلك فعلت الجهود الأخيرة للإطاحة بحكومة الوفاق الوطني الليبي ذات اصبغة الاسلامية التي تدعمها تركيا والتي تُعد واجهة لحركة الاخوان المسلمين.

 

انسحبت الإمارات، التي وصفها وزير الدفاع الأمريكي السابق السيد جيم ماتيس، أنها سبرطة الصغيرة، جزئياً من حرب اليمن في محاولة لتقليل الخسائر التي كانت مؤثرة في صفوف قواتها هناك. علاوة على ذلك، عانت القوات الإماراتية من وفاة عشرات العسكريين والمواطنين الإماراتيين، بما يُعّد عدداً مرتفعاً بالمقارنة مع عدد المواطنين البالغ 1.4 مليون فقط من ضمن حوالي 10 مليون مقيم في البلاد. نتيجة لذلك، تعتمد الإمارات العربية المتحدة بشكلٍ متزايد على تجنيد مقاتلين من جنسيات أخرى.

ومع ذلك، ربما كان وضع قوات دولة الإمارات العربية المتحدة أفضل حالاً من الجيش السعودي الذي فقد الكثير، دولياً على الأقل، من صورته التي حاولت السلطات في ذلك البلد بناءها لعقود. ويبدو أن المملكة العربية السعودية، في الآونة الأخيرة، بدأت بالإعتراف ضمنياً بأنه لايمكن كسب حرب اليمن عسكرياً. أشارت تقارير إعلامية مؤخراً إلى أن الحكومة السعودية بدأت بتقليص تمويل الحكومة اليمنية برئاسة الرئيس عبد ربه منصور هادي، المعترف بها دولياً، والتي تدعمها السعودية بشكلٍ كبير.

تضمن اسلوب الحرب التي تنفذها القوات السعودية في اليمن هجمات على أهداف متعددة كان من ضمنها مواقع مدنية، مما أدى إلى إنهاك البنى التحتية الاقتصادية والمدنية للبلاد وجعلت اليمن يعيش واحدة من أكبر الكوارث الإنسانية في العالم. بالمثل، عانى المقاتلون الليبيون المدعومون من دولة الإمارات العربية المتحدة بقيادة المشير خليفة حفتر مصيراً مشابهاً. أطلق المشير حفتر قبل أكثر من عام وعوداً بتنفيذ هجوم سريع ومفاجئ لاحتلال العاصمة الليبية طرابلس والتي أثبتت أنها لم تكن سوى أوهام. استطاعت القوات التابعة لحكومة الوفاق المدعومة من تركيا جعل مقاتليه يتحولون الى موقف الدفاع بدل الهجوم.

يضع اصحاب القرار في المملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية المتحدة آمالهم على التركيز على القيم المرتبطة بالوطن ودور القوات المسلحة مثل الشعور بالمواطنة والتضحية والانضباط والواجب ومفهوم المواطن النموذجي ذو الصورة البطولية من أجل تعزيز تقدير الشعب للجيش على الرغم من سجل أدائه المُتقلب. في الوقت الحالي، يبدو أن ذلك التركيز يحقق جزءاً من تلك الآمال.

حققت المملكة العربية السعودية وبنجاح دعماً شعبياً واسعاً للقوات المسلحة السعودية ومساهمتها في حرب اليمن، على الرغم من الانتقادات الدولية واسعة النطاق، من خلال تمجيد التضحيات الوطنية التي قدمها افراد القوات المسلحة السعودية، وتعويض عائلات المقاتلين الذين أصيبوا أو قتلوا في حرب اليمن بشكلٍ سخي، وإنشاء مؤسسات متعددة لضمان حقوق المحاربين المتقاعدين. قامت دولة الإمارات بإضفاء طابعٍ مؤسسي على عمليات تكريم الشهداء العسكريين. ومع ذلك، فإن السجل المختلط لأداء الجيش السعودي والإماراتي، في نهاية المطاف، يثير تساؤلات حول المستوى الذي يمكن لهذه القوات أن تُظهر نفسها كمؤسسات مؤهلة لحمل وبث القيم للهوية الوطنية الجديدة.

كذلك ياتي السؤال، في السياق نفسه، عما إذا كان المواطنون في دول مثل المملكة العربية السعودية، الذين أجبروا على مواجهة تخفيضات مؤلمة للإنفاق الاجتماعي دون أن يكون هناك إجراء واضح يضمن أن نخب المجتمع ستتقاسم العبء، سوف يستمرون بدعم توجه حكوماتهم في الإنفاق العسكري الضخم في وقت تقشف مالي.

إذا كان لوسائل التواصل الاجتماعي أي شيء آخر تقدمه لنا، فهو فهم الاتجاهات العامة في أي بلد. من خلال متابعة اتجاهات الرأي العام السعودي على منصات التواصل الاجتماعي، كان الاتجاه الطاغي هو ثناء المواطنون السعوديون على حكومتهم لأنها ضمنت عودة المواطنين السعوديين الذين علقوا خارج المملكة في بداية انتشار وباء فايروس كورونا، وتمويل عمليات الحجر الصحي لمنع انتشار الفايروس، ودعم رواتب القطاع الخاص التي تأثرت بسبب عمليات الإغلاق بنسبة تصل إلى 60٪.

ومع ذلك، أعرب عدد لا بأس به من أبناء الطبقة المتوسطة والدنيا عن القلق بشأن من سيتحمل وطأة التداعيات الاقتصادية لإنتشار الوباء وتساءلوا عن جدوى الاستثمار المستمر في فرص استثمارية غير واضحة مثل نادي كرة القدم الإنجليزي نيوكاسل يونايتد من قبل صندوق الاستثمارات العامة، وهو صندوق الثروة السيادية للمملكة. لحد الآن، لم يصبح موضوع الإنفاق العسكري موضع تساؤل.

من المحتمل أن ما يجعل الأمور أكثر تعقيداً هو حقيقة أن غالبية الضحايا الإماراتيين والسعوديين في حرب اليمن ينحدرون من المناطق الأقل نمواً وحظوظاً اقتصادية في الإمارات العربية المتحدة وبعض المناطق في المملكة العربية السعودية التي تقطنها اقليات دينية تملك تاريخاً من الشعور بالحرمان. ونتيجة لذلك، علينا أن ننتظر لنرى ما إذا كان تطبيق لخدمة العسكرية سيُضيّق أو يوسّع الفجوات الاجتماعية في نهاية المطاف.

 

حذرت السيدة إليونورا أرديماني، زميل الأبحاث المشارك في المعهد الايطالي للدراسات السياسية الدولية والاستاذ في جامعة ميلان والخبير في شؤون الخليج، من التزايد المحتمل لعسكرة المجتمعات في دول الخليج بالقول: "تُعزز العسكرة أمن النظام، وبالتالي تخدم الأمن الوطني على أكثر من صعيد...ومع ذلك، فإن من المرجح أن تعزز المشاعر الوطنية المتزايدة الاستقطاب الإقليمي".

يُركز تحذير السيدة أرديماني على خطر العسكرة التي يمكن أن ترسخ الاختلافات بين دول الخليج. السؤال هو ما إذا كان تعزيز العسكرة الذي نجح، لحد الآن، في تعزيز التماسك المحلي، يمكن أن يكون له، في ظروف أقسى،  جانب عكسي يمكن أن يؤدي الى الإستقطاب المجتمعي بدل خلق الانصهار الاجتماعي.