حكومة إئتلاف إدارة الدولة.. تركمان العراق والمادة 140
محمد تحسين كوك قايا
ان إقرار مجلس النواب العراقي قانون الانتخابات الجديد رقم (9) لسنة 2020، والذي اعتمد على نظام الدوائر المتعددة (أي ان كل محافظة تتكون من عدة دوائرة انتخابية)، والترشيح المستقل، ونظام عدم تحويل الأصوات، لم تكن لصالح التركمان؛ حيث أن تقسيم كل محافظة الى عدة دوائر افقدتهم الكثير من الأصوات في مناطقهم، وأثر ذالك على تراجع تمثيلهم في السلطة التشريعية (البرلمان) خصوصًا "قائمة جبهة تركمان العراق الموحد" والتي تعتبر أكبر كتلة جامعة للأحزاب التركمانية حصلت على نائب واحد في عموم العراق.
وبعد خمسين يوماُ من تاريخ الاقتراع أعلنت المفوضية العليا للانتخابات النتائج النهائية للإنتخابات (10 اكتوبر 2021)، والتي بينت فوز الكتلة الصدرية، بدأ إصرار وخطوات التيار الصدري الحاصلة على (73) مقعداُ تتزايد بإتجاه تشكيل حكومة أغلبية وطنية تقابلها معارضة وطنية، ومن أجل تحقيق ذلك ذهبت الكتلة الصدرية الى تحالف مع الحزب الديمقراطي وتحالف السيادة وتشكيل تحالف إنقاذ وطن. كانت في الطرف المقابل كتلة الاطار التنسيقي (التي تجمع اغلب القوى السياسية الشيعية) في اتفاق مع الاتحاد الوطني وبعض الاطراف السنية المتمثلة بتحالف العزم، الذين دعوا الى تشكيل حكومة توافقية تحتى مسمى حكومة الوحدة الوطنية على ان تكون شبيهة الحكومات السابقة والتي تعتمد على المحاصصة السياسية.
أنتهى طموح حكومة الأغلبية مع تقديم نواب الكتلة الصدرية استقالاتهم من عضوية مجلس النواب في 12 حزيران 2022، وإعلان زعيمهم السيد مقتدى الصدر إنسحابه من العملية السياسية بعد أن تحولت الاعتصامات الى نزاع مسلح في 29 اغسطوس 2022؛ وعلى إثر إنسحاب التيار الصدري تفكك تحالف إنقاذ وطن. وبالمقابل إستطاع الإطار التنسيقي زيادة عدد مقاعده في المجلس من خلال استبدال مرشحيه الاحتياط بدلا من المستقيلين من التيار الصدري، وبعد ان أصبح عدد نواب الإطار التنسيقي 138 نائباً، أصبحت الكتلة البرلمانية الأكبر الماسكة بزمام تشكيل الحكومة. حيث استطاع الاطار التنسيقي التحالف مع كل من تحالفي السيادة والعزم و الاتحاد الوطني والحزب الديموقراطي وحركة بابليون -المسيحيين-، واعلنوا عنها في سبتمبر/أيلول 2022 تحت اسم "تحالف إدارة ألدولة".
أزمة التمثيل التركماني في حكومة السوداني
بقيت الاطراف التركمانية على حياد خلال تجاذبات الكتلتين الشيعيتين (التيار الصدري و الإطار التنسيقي) والتي أدت إلى الإنسداد السياسي وتجاوز جميع المهل الدستورية والتي أطالت فترة تشكيل الحكومة لسنة كاملة دون الوصول الى حل مرضي للطرفين. بعد سنة من التجاذبات والتصعيد بين القوى السياسية تحول الانسداد الى الانفراج وعلى إثره اتفق الاطراف في تحالف إدارة الدولة على تشكيل حكومة مشابهة للحكومات السابقة والتي تعتمد على أساس التوافقات والتقاسم.
تم استبعاد التركمان من أن يكونوا جزءاً من تحالف إدارة ألدولة التي شكلت الحكومة الحالية، حيث ان الأحزاب التركمانية يدركون ان التمثيل في الحكومة الحالية يكمن من خلال الانضمام الى تحالف إدارة الدولة اولا ومن ثم المشاركة في الحكومة، ولذلك هم ينتظرون دعوتهم للإنضمام إلى التحالف والمشاركة في اجتماعاته من أجل تحقيق التمثيل التركماني في حكومة محمد شياع السوداني، مؤكدين ضرورة المشاركة في الحكومة من أجل الوقوف على مجريات الملفات التي تم الاتفاق عليها بين القوى السياسية والتي تم درجها في البرنامج الحكومي، وهو ما يمس التركمان ومستقبل مناطقهم بشكل مباشر، على سبيل المثال ملف المادة 140 من الدستور العراقي النافذ.
ابدى ممثلوا التركمان استنكارهم للأسلوب المستمر اللذي تتبعه الكتل السياسية في استبعادهم الممنهج من الحكومات العراقية ومن اجتماعات قادة الكتل لمناقشة الملفات الوطنية التي تمس حياة جميع الشعب العراقي بما فيهم التركمان، ومناقشة ملفات حساسة من الضروري عدم مناقشتها من دون وجود ممثليهم. وانهم يخشون من ان سبب استبعادهم من مجلس الوزراء مرتبط في نية الحكومة من إعطاء تعويضات للاحزاب الكردية بخصوص ملفات تخص مناطقهم (المناطق المتنازعة عليها).
قلق التركمان من إعادة المادة 140 على طاولة التفاهمات
بعد سقوط النظام البائد عام 2003، شهد العراق مرحلة سياسية جديدة، حيث قام بول بريمر الحاكم المدني لسلطة إئتلاف إدارة الدولة بإعداد وسن قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية الذي تم التصويت عليه في 8 مارس 2004 من قبل مجلس الحكم في العراق. حيث كان القانون بمثابة دستور مؤقت للبلاد. وقد نال هذا القانون تأييد البعض من الأطراف السياسية مقابل تحفظ واعتراض أطراف اخرى. ومن أهم المواد التي إعترض عليها التركمان هي الفقرة (أ) من المادة (53) والمادة (58) من هذا القانون لانها كانت تهدد مستقبل مناطقهم، وبسبب تحويل بنود المادة (58) بشكلها الكامل الى ان تكون المادة (140) من الدستور والتي تضمنت (التطبيع، الإحصاء وتنتهي باستفتاء في كركوك والمناطق الاخرى المتنازع عليها لتحديد ارادة مواطنيها)، على ان تنجز فقرات المادة كاملة في مدة اقصاها 31 كانون الاول 2007. حيث بسبب المادة (140) خصوصا، ومواد وفقرات أخرى اعترض التركمان على الدستور وصوتوا بـ كلا في إستفتاء الدستور العراقي الدائم، والتي أجريت في 15 أكتوبر 2005.
وبعد انتهاء الفترة الأنتقالية وإقرار الدستور العراقي الدائم وإنتهاء الفترة الزمنية المحددة دستوريا لتنفيذ المادة 140، تبين ان بنود المادة لم تكن كافية لحل المشكلة او الاختلافات حول المناطق المتنازع عليها، ومن ضمنها محافظة كركوك. لان الرؤية والتعامل السياسي في المادة قد طغت على الجوانب القانونية والإنسانية فيها، والتي خلقت تفاوتا في الآراء والمواقف لمكونات المحافظة وخصوصا التركمان الذين يعتبرون ان مدينة كركوك مدينة ذات خصوصية تركمانية والتي ينبغي الحفاظ عليها وعلى تاريخها وتراثها، وكذلك تمثل مركز تواجدهم أيضا. حيث اعتبروا ان المادة تهدد وجودهم في البلاد وان تطبيقها يجعلهم فريسة لدى الاحزاب الكردية الحاكمة في الاقليم. ووقفوا بالضد من اجراء اي تقدم لتنفيذ فقرات المادة دون ان يتم إخراج النازحين من الكرد الذين جاءوا الى كركوك والمناطق التركمانية الأخرى بعد 2003 بهدف تغيير ديموغرافية المدينة.
مثلما أصبح عدم المضي قدما بتطبيق المادة 140 سببا للخلافات بين حكومة الاقليم والحكومة المركزية، كذلك المفاوضات بين اربيل وبغداد بخصوص تطبيقها اصبح عنصر خلاف بين التركمان والحكومة المركزية.
حكومة السوداني والمادة 140
بعد ان منح مجلس النواب العراقي في 27 أكتوبر 2022 الثقة بالأغلبية للكابينة الوزارية لحكومة محمد شياع السوداني، كانت القيادات التركمانية تعبر عن مخاوفها من البرنامج الحكومي واعترضت عليها بسبب وجود البنود والفقرات التي تعتبرها خطيرة وتهدد السلم الاجتماعي والوحدة الوطنية، جاء اجتماع قادة تحالف إدارة الدولة في منزل الأمين العام للإتحاد الوطني الكردستاني في 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2022 والتي تم فيها مناقشة إعادة تشكيل اللجنة العليا لتفعيل المادة 140 من الدستور العراقي التي كانت يجب أن تنتهي نهائياً في 2007 حسب ما حدد في الدستور. وحسب ما جاء على لسان وزير العدل خالد شواني (القيادي في حزب الاتحاد الوطني الكردستاني)؛ في تصريح لقناة روداو، أشار إلى أن الاتفاق بشأن إعادة تفعيل المادة 140 يأتي ضمن الاتفاق السياسي والبرنامج الحكومي للسوداني.
حيث جدد الأحزاب والنواب التركمان وعبر مؤتمر صحفي مشترك، في يوم 3 ديسمبر/كانون الأول 2022، عن موقفهم الرافض لتطبيق المادة 140 من الدستور العراقي، محذرين في الوقت ذاته من إمكانية اندلاع "حرب أهلية" بمحافظة كركوك المتنازع عليها بين أربيل وبغداد في حال المضي قدماً في إجراءات تطبيق هذه المادة. وأكدوا على ان المادة فشلت في إيجاد حلول مستدامة سلمية لقضية كركوك وحى الفقرات الإيجابية فيها المتعلقة بحل نزاعات الملكية وإعادة الأراضي التي استولى عليها النظام البائد لم تنفذ لحد الان.
الغاية والنتيجة من اثارة المادة 140
بالرغم من أن أغلب فقرات تلك التفاهمات بقيت عالقة دون اي تقدم في تنفيذها، فمنذ العام 2006، و تشكيل جميع الحكومات على أساس التوافق بين القوى السياسية قامت الاطراف المشاركة فيها بتوقيع ورقة تفاهم تتضمن مواد تأتي لصالح "جمهورهم" على الأغلب، وإن المادة 140 من الدستور "المثيرة للجدل" كانت متواجدة في جميع تلك التفاهمات والمناهج الوزارية من أجل الحصول على الدعم الكردي لتمرير الحكومات. جدير بالذكر أن الحكومة العراقية السابقة برئاسة مصطفى الكاظمي لم تدرج المادة 140 في برنامجها الحكومي.
حيث ان جميع الأطراف الذين يوقعون على استئناف العمل في إجراءات المادة التي تحدد مستقبل المناطق المتنازع عليها يدركون تماماً أن تطبيق تلك المادة سوف يكون صعب جداً وتحديداً ليس لأسباب دستورية أو قانونية وإنما لخطورة العواقب التي ترافق إجراءات تنفيذها. وان المراحل الثلاثة لتطبيق المادة التي تبدأ بالتطبيع بإعادة السكان غير الأصلين لمناطقهم بعد تعويضهم ماليا، ثم إجراء إحصاء لسكانها، ليتبعه استفتاء شعبي حول عائديته لحكومة بغداد أو أربيل، يصعب تطبيقها من ناحيتين:
الاولى، ان الحكومة المركزية دائما امام ملفات مصيرية وحساسة تهدد مستقبل العملية السياسية. فالحكومات تعمل لتسيير الامور دون الدخول لملفات يصعب الخروج منها بشكل سليم، وان المادة المذكورة تعتبر من تلك الملفات التي تهدد الامن القومي وتعرض البلاد للتدخلات الاقليمية والخارجية. اي ان المادة لاتعتبر شأناً داخليا فقط، وانما تمس الأمن القومي لدول الجوار، وتغير التوازنات الاقليمية والدولية أيضاً، خصوصاً مع وجود حساسية ومواقف واضحة من قبل قوتين أقليميتين تركيا و إيران الرافضتين لإنشاء دولة كردية من على حدوديهما.
الثانية، بعد استفتاء الانفصال الذي أجرته حكومة أقليم كردستان العراق في أيلول 2017 والذي ضمت فيه أيضاً مناطق خارج حدود الاقليم (خط العرض 36)، كمحافظة كركوك بالكامل واجزاء من صلاح الدين والموصل وديالى، وعدم أخذها مخاوف وتحذيرات الحكومة المركزية والدول الاقليمية والدولية بعين الاعتبار، أصبحت نية الأحزاب الكردية في الأنفصال عن العراق وتقسيم وحدة البلاد واضحة عند الأطراف السياسية العراقية والشعب العراقي بشكلها العام، الشيء الذي كان متخوف منه التركمان وينادي بخطورته. حيث أن من غير الممكن أن تذهب الحكومات في بغداد باتجاه منح الاحزاب الكردية حق التصرف في المناطق بما تسمى بالمتنازع عليها، مع أنهم حققوا فرض سلطة القانون على تلك المناطق في 16 أكتوبر 2017، بعد ان كانت غائباً منذ 2003.
إن الاطار التنسيقي الذي يضم أغلب الأحزاب والقوى السياسية الشيعية القريبة من (طهران) هي اقوى مما كان عليه سابقا بكثير، رغم تراجع مقاعدهم في الانتخابات الاخيرة أستطاعوا ان يشكلوا نفوذا قويا من خلال الحكومة الحالية. ومن غير المنطقي التفكير على أنهم جادون في التنازل عن مكتسبات عام 2017 وان يعيدوا الأمور الى سابق عهدها. ان الأطراف السنية المتمثلة في تحالف السيادة القريبة من (أنقرة) هي أيضاً لها وجود في الحكومة الحالية أقوى من الحكومات السابقة، ومن المؤكد ان يكون لهم موقف رافض لتطبيق المادة 140.
حيث ان الاجتماع الاخير لقادة إتلاف إدارة الدولة والذي عقدت في منزل باڤل طالباني، يفسر بشكل واضح نية الإطار التنسيقي الساعي في إتجاه إعادة قوة وشعبية الإتحاد الوطني الكردستاني (الحليف الإستراتيجي للشيعة)، حيث ان الانقسام والخلافات الداخلية بين قيادات الصف الاول في الاتحاد الوطني ادى الى فقدان نفوذه أمام حركة الجيل الجديد والحزب الديمقراطي ونشطاء من المستقليين، إذا في الحكومتين الاخيرتين حصلوا على منصب رئيس الجهمورية بصعوبة. وإن تصريح خالد شواني من ان السيد باڤل هو من تبنى تفعيل المادة 140 يراد منها ارسال رسالة الى الجمهور الكردي بالدرجة الاولى بأن الاتحاد الوطني هو من يدافع عن كركوك والمناطق الاخرى. وان وجود هذه المادة على طاولة المفاوضات لا تتعدى كونها ورقة للضغط على تمرير مكاسب أخرى بين الكتل السياسية، كالتصويت على قانون النفط والغاز مثلاً.
بالنتيجة أن القوى السياسية المتمثلة في الحكومة المركزية لن تجازف في إعادة كركوك والمناطق المتنازعة عليها الى الوضع الذي فرضها إحتلال 2003. حيث أن اللجنة المشكلة لغرض تنفيذ بنود المادة 140 تقتصر على دفع المستحقات المالية والإدارية الخاصة باللجان والهيئات المنفذة لبنود المادة الدستورية، بالذات في ما يخص تعويض الفئات الاجتماعية المتضررة من المادة.
مثلما الاحزاب الكردية التي تهدف الى شحن جمهورها من خلال تأجيج ملفات سياسية قومية، كذلك الأحزاب التركمانية أيضا يستفيدون من ذلك. لأن كلا الطرفين فقدوا جمهورهم كما حصل في الانتخابات النيابية الاخيرة، حيث ان أحداث 16 اكتوبر 2017 أدت إلى الإنكسار داخل الجمهور الكردي والتراجع في تأييد أحزابها، كذلك الإحساس بالنصر أدى إلى الراحة أو الرخاء داخل الجمهور التركماني أيضاً. وأن البعض من الأحزاب في الطرفين يعتمدون على الخطاب المعادي، من أجل كسب تأييد جمهورهم خصوصاً مع احتمالية إجراء انتخابات مجالس المحافظات التي حددها البرنامج الحكومي على ان تجرى في اول سنة من عمر الحكومة.
محمد تحسين كوك قايا