تركيا الكائن العضوي المتمدد في جغرافية الحدود الافتراضية تأملات في عتبات التغيير الشرق أوسطية

I'm an image! ٠٢ / فبراير / ٢٠٢٥

 تكشف منظورات معالم التغيير التي تمر بها الفضاءات الأرضية المختلفة في منطقة الشرق الأوسط، عن تشكل واقع جيوسياسي جديد يولي اهتمامه بتصاعد جغرافية النفوذ اللامرئية في مسألة البناء الجديد لقواعد النفوذ التي تخضع بتصوراتها لدفة الحدود الافتراضية، لذلك نجد أن مفهوم الحدود بمعناه الاصطلاحي التقليدي يعبر عن مجال جغرافي أرضي واضح المعالم والاتجاهات والامتداد المكاني، يعطي الشرعية للدولة ممارسة اختصاصاتها داخل حدودها السيادية((Sovereign Borders ، غير أن طبيعة المتغيرات التي شكلتها تطورات الأفكار التي رسمها النشاط الذهني للبشر، ساهمت موضوعاتها نحو اخضاع المفهوم التقليدي لمعنى الحدود في حالة من الحداثة يمكن ملاحظتها في حالات الفهم لتفسير تطورات وصف الحدود وعدم اختزالها بمعناها التقليدي لتصبح أمام حالة من السيرورة المتغيرة في عملية تكوين المفهوم في معانيه ودلالاته منذ الخطوات الأولى لتكونه.

الشرق الأوسط والحدود المتغيرة

      يعيد بنا التمعن في أذهاننا عمليات التوسع بضم الأراضي منذ بدا الخليقة سواء المتنازع عليها أو بقصد التوسع  سواء بين الأفراد والجماعات فيما بينهم أو بين القبائل مع غيرها وهي بذلك كانت لا تعترف بمبدأ السيادة أي فكرة وجود خطوط تمثل الحدود الفاصلة عن غيرها ، فكل شيء يبدو لها مشاع وقابل للتملك والضم باعتبارها مرحلة سابقة عن ولادة المفهوم واستخداماته، ومع ذلك كانت تستند في تحديدها للحدود أو التمدد من خلال منظور افتراضي تخيلي تصفها بعلامات كأن تكون أسوار أو آبار للسقي أو تلال أو مراعي خضراء أو منابع للمياه أو الأنهر وغيرها من العلامات التوضيحية التي ساهمت التضاريس الطبيعية للدلالة عليها، لكن نتيجة للتطورات التي شهدتها المجتمعات الإنسانية وتزايد النزاعات والصراعات أخذت الحدود مفهوما جديداً مع الثورة الصناعية وخصوصاً مع ولادة الخرائط وأشكال القياس المعتمدة في رسمها أصبحت وسيلة للحد من التمدد والضم من جانب الدول عبر بناء إجراءات قانونية وسياسية تجعل تلك التوسعات تواجه المزيد من العوائق.

    وعلى الرغم من ذلك فإن حدة النزاعات وتصاعدها جعلت مسوغات التمدد والتوسع طابع غلب على العلاقات الدولية، وأمام هذه التحولات العميقة في نشاطات الدول عبر اخضاعها للمجالات الأرضية للضم عن طريق الاستحكام العسكري أو التنازل على نطاقات أرضية نتيجة اتفاقيات ومعاهدات دولية لأطراف دولية أخرى، كما حصل في اتفاقية سايكس بيكو في عام 1916، وهذا يمثل دليلاَ واضحاً على الكثير من النزاعات والصراعات حول الحدود الطبيعيةبين دول منطقة الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد الاستعماري الغربي والتي جعلتها تعاني المزيد من الأزمات والأحداث، مستلهمة مضمونها نتيجة تعمد بعض الدول تعيين حدودها المتنازع عليها مع غيرها من الدول. 

       زيادة على ذلك أن اندلاع العديد من الأحداث والأزمات الدولية في القرن العشرين والحادي والعشرين تكشفه محاولات العديد من الدول الاستناد على مفهوم الحدود الوضعية واضحة المعالم والاتجاه في توسعاتها بضم مزيد من الأراضي إلى أراضيها أو جعل قواتها متمركز في أراضي بعيدة عن جوارها الجغرافي ويمكن برهنه ذلك بوقائع أحداث الحربين العالمية الأولى والثانية بغض النظر عن التبريرات التي يلجا إليها كل طرف من أجل تحقيق أهدافه من عمليات التوسع والضم، واستدامه ذلك أيضاً في منطقة الشرق الأوسط، إذ ثمة أطرف إقليمية مارست ذلك التوسع، وهذا ما يمكن ملاحظته من استمرار الكيان الإسرائيلي بقضم المزيد من الأراضي الفلسطينية وضمها لمستوطناته المحتلة.

   نستشف مما سبق، إن تلك النزاعات والأحداث تعكسها تطلعات جيوسياسية  لوحدات سياسية مستلهما سلوكها من بنيات ثقافتها العالمية التي تحاول إظهارها كأنها محايدة عندما تتعامل مع الاختلافات الثقافية في تلك البلدان، وبإمكانية التعايش مع جماعات متباينة الثقافة في مجالات الجذب المكانية، وهكذا تولي اهتمامها الذي تبرر حدوثه بسرديات تدعمها بدافع عواطف قومية أو مذهبية يمكن وصفها بأنها أداة لضمان التقبل لتواصل نموها التوسعي، وبالتالي تمكنها من تحقيق أهدافها الاستراتيجية، وفي الوقت نفسه بلورة ملامح التطور في أنماط الإدراكات الذهنية والعقلانية لصناع القرار والاستراتيجيين واستخداماتهم لمناهج معرفية عدة تسترشد من خلالها خياراتهم وتفضيلاتهم الجيوسياسية لأثبات تفوقها المكاني في الإقليم، وهي تتخذ شكل الكائن العضوي الذي يتغذى بفعل الممارسة والتفاعل من أجل النمو والتدرج في التوسع على حد تعبير علماء الفكر الجيوسياسي، وفي بناء نوع من الحدود المتغيرة  تتميز بالسيرورة أو كما يطلق عليها المختصون بالحدود المتحركة أو الحدود الشفافة، والذين يعرفونها:" بأنها تعتمد على التوسع بحسب حاجات الدولة، فإن كبرت وتوسعة وزادت حاجاتها زادت من رقعتها على حساب الدول المحيطة واقتطعت من أراضي الآخرين عبر أنواع الاحتلال الظاهر والمعروف والذي تعرف الدول الواقعة تحته بالدول المحتلة، أو تحت الوصاية، أو تحت الانتداب هذا المفهوم استبدل بمفهوم الحدود الشفافة".

تجلى الحدود الافتراضية في ملامح الجغرافية

  يمكن لنا أن نسترشد بنمو تركيا تجاه محيطها القريب أو البعيد فعلى سبيل المثال نلاحظ ذلك في العراق أو قطر أو الصومال أو ليبيا عبر قواعدها العسكرية أو حدودها الافتراضية والتي تعني"تلك الحدود التي يصورها صناع القرار عن مناطق النفوذ والتمدد والتي تتخذ أشكالاً مختلفة في مجتمعات مختلفة لا يمكن جعلها من الناحية الواقعية جزء من نطاق الحدود القومية، لعدة أسباب منها احتمال أن يكون أحد مجالات النفوذ والتوسع يقع خارج المحيط الجغرافي القريب أو المباشر للدولة المسيطرة أو أنها تقع في مجال جغرافي تتقاسم النفوذ معها عدة دول". وفي هذا المنظور يمكننا أن نعد من خلال خطوات تركيا التأثيرية في ضوء هذه الخلفية التوسعية أساساً يمكن توظيفه في تأهلها لأنظمة حكم جديدة في المنطقة لا تمتلك القدرة من الإفلات من حبلها وهذا ما يمكن ملاحظته في سوريا في الوقت الراهن بعد سقوط نظام بشار الاسد.

     وفي هذا السياق، يتجلى هذا التوسع الجغرافي في بنية الحدود الافتراضية التركية، واظهارها في نطاقات منطقة الشرق الأوسط كانت وفقاً لسلسة من العناصر التي عززت من الديناميكيات السياسية لتركيا وتشكيلها ابتدأت الاستثمار بتصاعد دور الإسلام السياسي في جغرافية منطقة الشرق الأوسط. ثانياً: المشروع التركي بأحياء دورها الإقليمي في الشرق الأوسط وتصفيرها للمشكلات مع دول المنطقة. ثالثا: الدور الوظيفي الذي كانت تؤديه سابقاً ساعدها على إقامة شبكة من العلاقات مع بعض الأنظمة السياسية والجماعات الإخوانية من الحركات الإسلامية.

       إضافة إلى ذلك رأينا من خلال حدود التحرك التركي في منطقة الشرق الأوسط موجباً يتحكم بغايات تمددها الافتراضي وهو الذي يمنح التمييز بين هذا الفضاءات الأرضية بما يلاءم تطلعاتها الجيوسياسية التي تخضعها لماضيها وتوجهاتها العالمية في الوقت الحاضر مفصحة بذلك عن وسائل تنفيذ هذه الرؤية الاستراتيجية من خلال مجالات التعاون الاقتصادية والتنموية والثقافية والدبلوماسية والعسكرية، وهذا ما اعلنته حكومة "رجب طيب اردوغان" بطرحها مشروع "قرن تركيا" (Century of Türkiye)، ضمن حملتها الانتخابية، والذي ينسج فيه " اردوغان" رؤيته لدور تركيا وفاعليتها السياسية على المستويين الإقليمي والعالمي.

      ووفقاً لذلك لتوضيح أبعاد هذا المشروع الاستراتيجية يعبر وزير خارجية تركيا " هاكان فيدان" في سياق أحد أعماله المنشورة له في موقع مجلة رؤية تركية بعنوان (السياسة الخارجية التركية في مطلع القرن التركي) عن التوجهات الجديدة لتركيا قائلاً:" تدخل تركيا في وقت يتّسم بديناميكياتٍ جيوسياسيةٍ سريعة التغير، مقترنةٍ بتحديات عالميَّة متزايدة باستمرار، تبلغ ذروتها في حقبة معقدة تحددها أزمات متعددة. وعلى هذه الخلفية، تبرز تركيا بوصفها جهةً إقليمية بناءة وفاعلةً في تحويل النظام نحو نظامٍ دوليّ أكثر شمولًا وفعالية، وقادرًا على معالجة التحديات العالمية والإقليمية الحالية. وبينما تستمر تركيا في تأمين مصالحها الوطنية في بيئةٍ إقليمية وعالمية متقلبة، ستبقى تعمل على تشكيل الظروف اللازمة لتحقيق السلام والتنمية المستدامين في جوارها وخارجها ".ويمكن القول بهذه الرؤية التي تحدد في مطالباتها بصياغة عالم متعدد الأقطاب (Multipolar World)، واوضح سمة لسلوكها وأفعالها الإقليمية تكمن في منطقة الشرق الأوسط من خلال خطوات إجرائية واضحة أحدثت تأثيراتها الاستراتيجية كما حصل مؤخرا في سوريا وغيرها من دول المنطقة كما اشرنا سابقاً، والتي أرست ملامحها لحدود توسعية افتراضية غير محددة المعالم لا تتوافق مع حدود رقعتها الجغرافية الثابتة على الخرائط من حيث دلالات نموها ونطاقاتها على حساب تقلص نفوذ إيران الإقليمي في المنطقة، وهذا لا يمعنا من القول أن إنتاج تلك الحدود الافتراضية ستكون قليله التكلفة وعالية الأهمية بالنسبة للحسابات الاستراتيجية التركية وذلك توفيرا لإمكاناتها المادية وحتى المعنوية، ويبرر هذا المعنى مقدار المرونة في وجاهة التفكير الاستراتيجي التركي خلال وضع استراتيجياتها الوطنية.

  بطبيعة الحال، لا تخفي تلك التطلعات التوسعية وأن كانت تختفي وراء معاني تحمل سمات إنسانية أو دينية أو عواطف قومية، فهي لم تترد في توظيف تلك الحالات واستخداماتها من أجل تحقيق نموها في منطقة الشرق الأوسط خصوصاً في تلك الفراغات الجيوسياسية التي سارعت لملئها، ولذلك يلاحظ أن المعطيات التاريخية أو السياسية بوصفها موضوعات تدعم هذه النوايا التركية والتي يحاول أن يعممها حزب "العدالة والتنمية" تحت منظور الاوراسية العالمية، وبالتالي يساهم هذا السياق من التفكير في نشأت معاني خرائط النفوذ الافتراضية كمفهوم أكثر تداولاً بين الأوساط الأكاديمية والباحثين المتخصصين في الشؤون الدولية، بفضل مرونته التي يجعلها من الأوصاف المبتدعة جيوسياسياً. لكن تبقه هنالك تساؤلات هل بمقدور تركيا أن تخطي لنفسها هذه الاندفاعية في ساحاتها الجديدة أمام حجم التغيرات المعقدة وتشابك المصالح الإقليمية والدولية في منطقة الشرق الأوس