الدبلوماسية التقليدية والدبلوماسية الشعبية
أحمد عقيل عبد
شهدت الدبلوماسية كغيرها من الحقول المعرفية تطورات عدة على مدى تاريخها الطويل، وتعد الدبلوماسية الشعبية إحدى أشكال الدبلوماسية الحديثة، ونتيجة للتطورات التي مرت بها الدبلوماسية التقليدية، وتبلورت الدبلوماسية الشعبية كحقل أكاديمي في الولايات المتحدة الأمريكية في العام 1965، ومنذ التسعينيات، بدأت الكثير من وزارات الخارجية حول العالم تستخدم مصطلح (الدبلوماسية الشعبية) لوصف نشاطاتها الموجهة نحو الشعوب الأجنبية، وانطلاقاً مما تقدم، تبحث هذه الورقة في طبيعة العلاقة ما بين الدبلوماسية التقليدية التي تمارسها الدول منذ القدم والدبلوماسية الشعبية التي تعد حديثة نسبياً.
أولاً: الدبلوماسية التقليدية
تعد الدبلوماسية إحدى أدوات تنفيذ السياسة الخارجية والوسيلة الرئيسة للإتصالات بين الدول، كما تعد جزءاً أساسياً من الأسباب المنطقية التي تبرر وجود (العلاقات الدولية)، والدبلوماسية (Diplomacy) كلمة مشتقة من الكلمة اليونانية (Diploma) التي تعني الوثيقة الصادرة عن أصحاب السلطة والتي تمنح حاملها بعض الأمتيازات، واستخدمت في اللغة الفرنسية للإشارة إلى عمل المفاوض، ولم تستخدم كلمة (دبلوماسية) للإشارة إلى المعنى الذي نعرفه اليوم، وهو "إدارة العلاقات الدولية" إلا في نهاية النصف الثاني من القرن الثامن عشر، والدبلوماسية هي "علم وفن" معاً، فهي علم لأنها "تستوجب معرفة العلاقات القانونية والسياسية لمختلف الدول ومصالحها وتقاليدها التاريخية وأحكام المعاهدات" وهي فن أيضاً لأنها "تهتم بإدارة الشؤون الدولية وتتطلب المقدرة على تنظيم ومتابعة وتوجيه المفاوضات السياسية توجيهاً ينم عن معرفة وعلم واسعين"، ويعرف قاموس (Oxford) الدبلوماسية بأنها: "إدارة العلاقات الدولية عن طريق المفاوضات، والأساليب التي يتبعها السفراء والمبعوثون في إدارة وتسوية العلاقات بين الدول". ومما تقدم، نخلص إلى أن الدبلوماسية هي الوسيلة السلمية التي تعتمد عليها الدول في تنفيذ أهدافها وتحقيق مصالحها، وتتمثل في عمل السفراء والمبعوثون الدبلوماسيون والمفاوضات التي يقومون بها.
ثانياً: الدبلوماسية الشعبية
تعد الدبلوماسية الشعبية (Public Diplomacy) إحدى أشكال الدبلوماسية الحديثة، ونتيجة للتطورات التي مرت بها الدبلوماسية التقليدية، وتعبر عن تطور وإتساع عملية الإتصال الدبلوماسي بعد الحرب العالمية الثانية لتشمل (الشعوب)، وتجاوز حدود الدبلوماسية التقليدية. وقبل التطرق إلى تعريف الدبلوماسية الشعبية، ينبغي الإشارة إلى أن الدبلوماسية الشعبية قد مر ظهورها بمرحلتين أساسيتين: الأولى هي مرحلة الممارسة قبل تداول المصطلح ومن ثم بلورة مفهومه في الدراسات الأكاديمية، فعلى الرغم من أن مصطلح الدبلوماسية الشعبية يعد جديد نسبياً، إلا أننا نجد أن ممارسة الدبلوماسية الشعبية قديمة ولها جذور تاريخية عميقة، فالإنسان يميل بطبعه لنقل ثقافته ومعتقداته إلى الآخر من أجل التأثير فيه، ومن الأمثلة على أساليب الإتصال بالشعوب الأخرى وكسب عقولهم وقلوبهم، هو تعامل التجار المسلمون الأوائل بصدق وأمانة وأحترام مع شعوب جنوب شرق آسيا، مما أدى إلى تأثر شعوب تلك البلدان - التي يعرف قسم منها اليوم باندونيسيا وماليزيا – بالمسلمين، ومن ثم أعتناقهم للدين الإسلامي. وهناك من يرجع ممارسة الدبلوماسية الشعبية إلى فكرة الإتحادات الدولية (Private International Union) التي ظهرت في القرن التاسع عشر وتحديداً في العام (1840)، وهي إتحادات تتميز بطابعها الدولي، أنشأتها جماعات من شعوب مختلفة بغرض تحقيق مصالح مشتركة على المستوى الدولي، وذلك من خلال عقد المؤتمرات الدولية، ومن الأمثلة على هذه الإتحادات: الإتحاد البرلماني الدولي، وجمعية القانون الدولي، واللجنة الدولية للصليب الأحمر. وفي العصور اللاحقة، تزايدت ممارسات الدبلوماسية الشعبية نتيجة ظهور الطباعة، إذ تشير الأدبيات السياسية إلى أرتباط بزوغ ممارسة الدبلوماسية الشعبية بظهور الطباعة في القرن الخامس عشر التي ساعدت على نشر الأفكار والثقافة، ومن ثم مكنت الدول من الإتصال بالكثير من الشعوب الخارجية، فعلى سبيل المثال، نجد أن (نابليون بونابرت) قد قام بإنشاء وكالة صحفية عرفت بأسم (Monitor) و وجه الصحف الآخرى بتقليدها في أخبارها وتعليقاتها، كما أنه عمل على السيطرة على الصحف الأجنبية وخاصة الإنكليزية والألمانية منها بواسطة جهازه الدبلوماسي والإداري في تلك الدول. وبناءً على ما تقدم، توصف الدبلوماسية الشعبية في الكثير من الأدبيات السياسية بأنها: "نبيذ قديم وضع في زجاجة جديدة" في إشارة إلى أن ممارسة الدبلوماسية الشعبية قد سبقت ظهور المصطلح وشيوعه أكاديمياً بعقود كثيرة.
أما المرحلة الثانية، فهي مرحلة ظهور مصطلح الدبلوماسية الشعبية وبلورة مفهومه أكاديمياً، إذ نجد أن مصطلح الدبلوماسية الشعبية قد تم استخدامه منذ منتصف القرن التاسع عشر وما تلاه، ففي مقال نشر في صحيفة (The Times) اللندنية بتاريخ (15 كانون الثاني 1856)، ذكر مصطلح الدبلوماسية الشعبية في سياق الحديث عن القدوة الحسنة، والتعامل الجيد مع الشعوب، وأنتقاد مواقف الرئيس الأمريكي الأسبق (Franklin Pierce)، كما جاء مصطلح الدبلوماسية الشعبية في تقرير للحكومة الأمريكية نقلته صحيفة (The New York Times) في كانون الثاني من العام (1871) تناول فيه (Samuel Cox) عضو الحزب الديمقراطي، المؤامرات العدائية لدولة الدومينيكان، وأشار إلى أنه يؤمن بأتباع الدبلوماسية الشعبية، وفي مطلع القرن العشرين، نشرت صحيفة (Christian Science Monitor) مقال يحمل عنوان "زمن الدبلوماسية الشعبية" أكد فيه الكاتب على الواجب الأخلاقي لوسائل الإعلام.
وظهر مصطلح "الدبلوماسية الشعبية" كحقل أكاديمي في الولايات المتحدة الأمريكية في العام (1965)، عندما أنشأ (Edmund Gull ion)، وهو دبلوماسي وعميد كلية القانون والدبلوماسية بجامعة (Tufts)، مركز (Edward R. Murrow) الذي وصفت منشوراته الدبلوماسية الشعبية بأنها: "تأثير المواقف العامة في تشكيل وتنفيذ السياسة الخارجية، وتشمل أبعاداً من العلاقات الدولية تقع خارج الدبلوماسية التقليدية، مثل تشكيل الحكومات الرأي العام في الدول الأخرى، والتفاعل بين مجموعات المصالح الخاصة من مختلف البلدان، وتوعية الناس بالشؤون الدولية وتأثيرها على السياسة الداخلية، والتواصل بين أولئك الذين تكون وظيفتهم التواصل كالدبلوماسيين والصحفيين الأجانب، وعملية التواصل بين الثقافات".
وقد حظي مصطلح الدبلوماسية الشعبية في حينها باهتمام خاص داخل الولايات المتحدة الأمريكية، ويرجع سبب هذا الاهتمام إلى أن الولايات المتحدة كانت بحاجة ماسة إلى بديل جديد لمصطلحات مثل (الدعاية) و(الحرب النفسية)، وذلك لتمييز نشاطاتها الموجهة إلى الشعوب في الخارج عن السياسات التي يتبعها الاتحاد السوفيتي السابق، فضلاً عن ترحيب وكالة المعلومات الأمريكية (United States Information Agency) بمصطلح منح أفرادها مكانة الدبلوماسيين، إذ أنهم لم يكونوا يتمتعون بمناصب رفيعة في السلك الدبلوماسي.
ويرى الدبلوماسي (G. R. Berridge) أن السبب الأكثر أهمية وراء أنتشار مصطلح الدبلوماسية الشعبية وتداوله، هو غموض المصطلح نفسه، فيفسر ذلك بالقول: "إن غموض المصطلح يخدم غرض أولئك الموجودين في واشنطن الذين يرغبون في وضع جميع أنشطة الدعاية الأمريكية في الخارج تحت سقف واحد، وهو (وكالة المعلومات الأمريكية) ، وفي التسعينيات، بدأت الكثير من وزارات الخارجية تستخدم مصطلح الدبلوماسية الشعبية لوصف نشاطاتها الموجهة نحو الشعوب الأجنبية .
ونخلص مما تقدم إلى أن ممارسة الدبلوماسية الشعبية قد سبقت ظهور المصطلح بعقود، وأن مصطلح الدبلوماسية الشعبية قد تم تداوله دون الإشارة إلى مفهومه، إذ أن المفهوم تبلور على يد الأكاديميين والممارسين في مراحل متأخرة من استعمال المصطلح.
تعريف الدبلوماسية الشعبية
الدبلوماسية الشعبية لا يوجد لها تعريف واحد متفق عليه عالمياً، إذ نجد أن معظم الدول تقوم بصياغة تعريفها الخاص للدبلوماسية الشعبية بناءً على أهداف سياستها الخارجية والمصلحة الوطنية، وكذلك نجد الباحثين والدبلوماسيين كلٌّ يضع تعريفه الخاص للدبلوماسية الشعبية حسب رؤيته وتحليله لها.
فنجد أن مركز الدبلوماسية الشعبية (Center on Public Diplomacy) في جامعة (Southern California) قام بتعريف الدبلوماسية الشعبية على أنها: "وسيلة شفافة تتواصل من خلالها دولة مع الشعوب في بلدان أخرى، بهدف توعيتهم والتأثير فيهم، بغرض تعزيز المصلحة الوطنية وتحقيق اهداف سياستها الخارجية". ويعرف (Nicholas J. Cull) أستاذ الدبلوماسية الشعبية في جامعة (Southern California) الدبلوماسية الشعبية بأنها: "أسلوب من اساليب ممارسة السياسة الخارجية، يتم عبر الأشتباك والأنغماس في التعامل مع الجماهير في البلدان الأخرى". كما عرفها الدبلوماسي (Hans N. Tuch) الذي يعد أحد الآباء المؤسسين للدبلوماسية الشعبية الأمريكية بأنها: "عملية تواصل الحكومات مع الشعوب الأجنبية لغرض شرح سياساتها وأهدافها الوطنية، وتحقيق فهم لقيمها ونشاطات مؤسساتها وثقافتها".
وعرفتها وزارة الخارجية الأمريكية بأنها: "برامج ترعاها الحكومة تهدف إلى إعلام الرأي العام أو التأثير عليه في البلدان الأخرى". ونخلص مما تقدم إلى أن الدبلوماسية الشعبية هي: "عملية إتصال الحكومات بالشعوب الأجنبية عبر وسائل الإعلام والتبادلات والفعاليات، بغرض تشكيل رأي عام داخل بلدانهم يكون متقبل ومتفهم وداعم لسياسات وأهداف الدولة الممارسة للدبلوماسية الشعبية".
عناصر الدبلوماسية الشعبية
تتكون الدبلوماسية الشعبية من خمسة عناصر رئيسة يمكن تحديدها فيما يلي:
1- الاستماع: يقصد بالاستماع فهم الشعوب التي يتم مخاطبتها واستهدافها ببرامج الدبلوماسية الشعبية، بمعنى آخر عدم الاكتفاء بإيصال الرسالة بل والاستماع إلى آراء الجهة المرسلة إليها الرسالة.
2- البث الدولي: يعد البث الدولي عنصراً مهماً في عمل الدبلوماسية الشعبية، إذ يتم عبره مخاطبة الشعوب المستهدفة، وذلك من خلال التلفزيون أو المحطات الإذاعية أو المطبوعات والمنشورات، أو وسائل التواصل الاجتماعي.
3- التبادلات: تسهم تبادلات الأفراد بين الدول في خلق بيئة حوار وتفاهم بين مواطني الدولة الممارسة للدبلوماسية الشعبية والشعوب المستهدفة.
4- الدبلوماسية الثقافية: تساعد الدبلوماسية الثقافية في جذب إنتباه واهتمام الشعوب المستهدفة عبر تسليط الضوء على ثقافة الدولة وتاريخها وفنونها ولغتها، ومن ثم زيادة جاذبيتها في الخارج.
5- المناصرة: يقصد بالمناصرة هو كسب الدعم والتأييد لقضايا وأهداف الدولة عبر شرح وتبرير سياساتها وسلوكها ومصالحها للشعوب الأجنبية.
ثالثاً: طبيعة العلاقة ما بين الدبلوماسية التقليدية والدبلوماسية الشعبية
كانت ولا زالت الدول تتبع الدبلوماسية التقليدية (Classical diplomacy) التي تهدف إلى إنشاء علاقات مع الحكومات الأجنبية وممثليها الدبلوماسيين، وبعد أن أدركت تلك الدول أهمية الرأي العام والدور الذي يمكن أن تؤديه الجماهير في الضغط على الحكومات، سعت الدول إلى إقامة روابط مع الشعوب الأجنبية متجاوزة بذلك سفاراتهم وحكوماتهم، وهذا ما بات يعرف بالدبلوماسية الشعبية.
وتأكيد الدول على أتباع الدبلوماسية الشعبية في سياستها الخارجية، لا يعني أن الدبلوماسية الشعبية ستحل محل الدبلوماسية التقليدية بين الدول، ولكنها ستؤثر على طريقة عمل وزارات الخارجية والدبلوماسيين، وهنا يرى مركز الدبلوماسية الشعبية (Centre on Public Diplomacy) أن الدبلوماسيين أصبحوا بحاجة للذهاب إلى ما بعد الدبلوماسية الثنائية والدبلوماسية المتعددة الأطراف، وبناء وإقامة علاقات مع الجهات الفاعلة العالمية الجديدة.
وتأسيساً على ذلك، يمكن القول إن الدبلوماسية الشعبية تتكافل في عملها مع الدبلوماسية التقليدية، وأنها تهدف إلى "تهيئة البيئة المناسبة" لتحقيق الأهداف التي تسعى إليها الدبلوماسية التقليدية، ومن ثم فإنها تعمل كميسر للدبلوماسية التقليدية، ويرى (Nicholas J. Cull) أن الدبلوماسية التقليدية، هي محاولة الدولة لإدارة البيئة الدولية من خلال المشاركة مع دولة أخرى، بينما الدبلوماسية الشعبية، هي محاولة الدولة لإدارة البيئة الدولية من خلال التعامل مع الشعوب الأجنبية ، وهنا نجد أن الدبلوماسية التقليدية والدبلوماسية الشعبية تتشاركان الهدف نفسه، وهو (إدارة البيئة الدولية).
ومما لا شك فيه، أن الدبلوماسية التقليدية تختلف من نواحي عدة عن الدبلوماسية الشعبية، ويمكن تحديد أبرز أوجه الأختلاف بينهما فيما يلي:
1- يتمثل أحد الأختلافات الجوهرية بين الدبلوماسية الشعبية والدبلوماسية التقليدية في أن الهدف المباشر للدبلوماسية الشعبية هو (الشعوب) في الدول الأخرى، أي أنها تسعى إلى الإتصال بالشعوب الأجنبية، بينما نجد أن هدف الدبلوماسية التقليدية هو (الحكومات)، إذ أنها تسعى إلى الإتصال بالحكومات والممثلين الدبلوماسيين في الدول.
2- تعتمد الدبلوماسية الشعبية على الأسلوب غير المباشر في عملها، بينما نجد الدبلوماسية التقليدية تتميز بأسلوبها المباشر.
3- تتسم الدبلوماسية الشعبية بالشفافية وتمارس بصورة علنية، بينما نجد أن الدبلوماسية التقليدية يمارس جزء من عملها بسرية.
4- إن الدبلوماسية الشعبية غالباً ما تعبر عن العديد من الآراء المختلفة للأفراد، والمنظمات، والمؤسسات، بالإضافة إلى وجهات النظر الحكومية الرسمية، ومن ثم فإن نشاطها يكون أوسع نطاقاً، وأقل تنظيماً، ولا يخضع للقوانين والبروتوكولات التي تحكم نشاط الدبلوماسية التقليدية للدول.
5- إن المدة التي تتطلبها معظم أنشطة الدبلوماسية الشعبية تكون أطول من مدة الدبلوماسية التقليدية.
6- تنطوي الدبلوماسية الشعبية على عدد كبير من الفاعلين كالمنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية والشركات والأفراد على عكس الدبلوماسية التقليدية التي تقوم بها المؤسسات الرسمية في الدولة.
الخلاصة
مما تقدم يتضح لنا أن الدول تتبنى الدبلوماسية الشعبية الى جانب دبلوماسيتها التقليدية في سياستها الخارجية، فالدبلوماسية الشعبية هي ليست بديلاً عن الدبلوماسية التقليدية ولن تحل محلها، بل تتكافل معها وتعمل إلى جانبها لتحقيق الأهداف التي تسعى إليها الدولة.
احمد عقيل عبد