عودة العنف: دوافع وتداعيات هجوم أسطنبول

I'm an image! ١٨ / نوفمبر / ٢٠٢٢

عودة العنف: دوافع وتداعيات هجوم أسطنبول

كرم سعيد

باحث متخصص في الشؤون الإقليمية- الأهرام

في سابقةٍ هي الأولى من نوعها منذ نحو خمس سنوات، شهدت منطقة تقسيم في أسطنبول في 13 نوفمبر الجاري هجوم عنيف راح ضحيته 6 مواطنين وجرح نحو 84 آخرين، واتهمت تركيا حزب العمال الكردستاني الذى تصنفه إرهابيا بتدبير الهجوم، وقامت بتوقيف سورية تدعى أحلام البشير- اعترفت خلال التحقيق بانتمائها إلى "وحدات حماية الشعب" الكردية في شمال سوريا، وأضاف الأمن التركي في بيان له أن منفذة الهجوم اعترفت بتلقي تدريباً على يد مسلحين أكراد في عين العرب "كوباني".  وبرغم نفي حزب العمال الكردستاني مسئوليته عن الحادث إلا أن أنقرة لم تعير اهتماماً  بنفي الكردستاني، واعترفت أنالكردستاني يسعى لتبرئة ساحته  في إطار محاولته تجنب الارتدادات السلبية عليه داخليا في تركيا، وكذلك على صعيد ردود الفعل التركية ضده في كل من سوريا والعراق.

شكّل الهجوم الإرهابي بمدينة اسطنبول تقويضًا للفرضية التي سعى حزب العدالة والتنمية إلى تصديرها "النموذج التركي الآمن"، إذ كان يُنظر إلى تركيا  خلال السنوات الخمس التي خلت  كدولة مستقرة، نجحت في محاصرة الإرهاب رغم وجودها في بؤرة عدد واسع من الصراعات الإقليمية.

سياقات محفّزة:

يرتبط الهجوم الإرهابي الذي نفذته السورية أحلام البشير المحسوب على حزب العمال الكردستاني بسياق محفز للكراهية بين تركيا والتيارات الكردية في المنطقة، تم التكريس له خلال السنوات الأخيرة، فقد نشأ خطابٌ في تركيا معاد للأكراد، ووصل الذروة مع صعود الوزن السياسي لقوات سوريا الديمقراطية "قسد" فضلاً عن النجاحات التي حققها حزب الشعوب الديمقراطي في الداخل التركي، ودخوله البرلمان، وفوزه بعدد واسع من البلديات المحلية في العام 2019، وهو ما دفع تركيا إلى تبنى إجراءات مناهضة للطموحات الكردية.

واتّسم السلوك التركي تجاه أكراد الداخل بالتشدد، وظهر ذلك في إقصاء رؤساء البلديات الكردية عن مناصبهم، وإبطال عضوية عدد من نواب الشعوب الديمقراطي في البرلمان. كما حافظت تركيا على الاستمرار في توظيف القوة الصلبة ضد قوات سوريا الديمقراطية "قسد" في الشمال السوري، وكان آخرها قتل أربعة من مقاتلي "قسد" في أغسطس الماضي بقصف نفذته طائرة مسيرة تركية في الشمال السوري إضافة إلى استمرار العمليات العسكرية ضد مقاتلى حزب العمال الكردستاني شمال العراق.

في المقابل تزامن الهجوم مع تصاعد حدة الاستقطاب السياسي في الداخل التركي، والتي كشف عنها تنامي الاحتقان بين النظام الحاكم وحليفه حزب الحركة القومية من جهة، وأحزاب المعارضة التركية من جهة أخرى، وبخاصة حزب الشعوب الديمقراطي الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني، وهو ما ظهر في رفض الإفراج عن صلاح الدين ديمرطاش، والتضييق على الحريات في مناطق جنوب شرق تركيا ناهيك عن العمليات العسكرية التركية المستمرة ضد قواعد حزب العمال الكردستاني شمال العراق جنباً إلى جنب استهداف قوات سوريا الديمقراطية. وهنا، يمكن القول أن  الدوافع المحلية شكلت أحد السياقات المحفزة لدخول تركيا مجدداً دوامة العنف والعنف المضاد، خاصة مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي المقرر له منتصف العام المقبل.

على صعيد ذي شأن جاء هجوم اسطنبول مع اتجاه تركيا نحو تكثيف الضغوط على الأطراف الإقليمية والدولية المنخرطة في المشهد السوري، لتمرير الحملة العسكرية التي تسعى لشنها على الشمال السوري ضد عناصر سوريا الديمقراطية، بهدف وئد المشروع الكردي الذى تراه أنقرة تهديداً لأمنها القومي. ويشار إلى أن تركيا منذ مايو الماضي، تهدد بشن عملية عسكرية تستهدف مواقع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في منبج وتل رفعت، بهدف إقامة منطقة آمنة بعمق 30 كيلومتراً تكون بمثابة حزام أمني على حدودها الجنوبية، إلا أن الولايات المتحدة وروسيا وإيران ودولاً أوروبية أعلنت معارضتها لأي تحرك عسكري تركي في شمال سوريا، محذرة من خطورته على المنطقة وعلى جهود مكافحة الإرهاب.

لذلك، فإن هجوم اسطنبول، ربما يشير إلى أن التيار الكردي الذي تتهمه تركيا قد يتجه نحو عمليات نوعية تشنها المجموعات الخارجية التابعة له من أجل تقليص الضغوط التركية التي يتعرض لها في المناطق الرئيسية التي ينشط فيها شمالي سوريا والعراق، فضلاً عن تعزيز قدرته على إقناع مناصريه وخصومه في آن معاً بأنه ورقة من الصعب تجاوزها في الإقليم.

تداعيات محتملة

ثمة العديد من التاثيرات المحتملة لهجوم اسطنبول على توجهات السياسية التركية على كافة المستويات، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:

1-عسكرة الأزمة مع القوى الكردية: قد تسعى تركيا إلى استثمار هجوم اسطنبول لشرعنة تدخلاتها العسكرية شمالي سوريا والعراق، وظهر ذلك في 15 نوفمبر الجاري، حيث لوح الرئيس التركي على هامش مشاركته في قمة العشرين الأخيرة بإندونسيا، مجددا بإطلاق عملية عسكرية في شمال سوريا، وقال: إن على العالم أن يدرك أن تركيا ستقوم بما يلزم على ضوء التحقيقات. وأضاف إن بلاده ستواصل، "بكل حزم، تنفيذ استراتيجيتها في القضاء على خطر الإرهاب من جذوره".

ولم تكن تصريحات الرئيس التركي وحدها التي تعزز الاتجاه نحو عسكرة المشهد المشهد شمالي سوريا والعراق، ففي 16 نوفمبر الجاري، نقلت وكالة رويترز عن مسوؤل تركي، إن أنقرة تعتزم ملاحقة أهداف في شمال سوريا، بعد أن تكمل عمليتها ضد مسلحي "العمال الكردستاني" في شمال العراق. ويشار إلى أن تركيا هددت مرارا بإطلاق عملية عسكرية جديدة في شمال سوريا، لإبعاد المجموعات الكردية عن حدودها، إلا أن معارضة الولايات المتحدة وأيضا روسيا وإيران حالت دون ذلك.

بالتوازي مع ما سبق، يتوقع أن ينعكس الهجوم على استمرار الممارسات التركية ضد حزب الشعوب الديمقراطي في الداخل التركي، وذلك من خلال رفض الاستجابة للضغوط الأوروبية بالإفراج عن زعيم الحزب صلاح الدين دميرطاش فضلاً عن تشديد الإجراءات الأمنية في مناطق جنوب شرق تركيا.

2-صعود التوتر مع واشنطن: على الرغم من محاولات لتهدئة التوتر مع واشنطن خلال الفترة الماضية، وتفاؤل أردوغان بتمرير صفقة طائرات F16 بعد حصول الجمهوريين على الأغلبية في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس إلا أن هجوم اسطنبول، قد يزيد من مساحات التوتر بين البلدين، خاصة بعد تصريحات وزير الداخلية التركي سليمان صويلو، الذى أعلن رفض بلاده رسالة تعزية نشرتها السفارة الأمريكية في أنقرة عشية هجوم أسطنبول، وقال "لا نقبل... ونرفض التعزية المقدمة من السفارة الأمريكية... نعرف من يدعم الإرهاب في شمال سوريا، ونعرف الرسالة التي أرادوا إيصالها لتركيا من خلال هذا الهجوم". وأضاف أن "من يدعم المنظمات الإرهابية في شمال سوريا هو من نفذ هجوم إسطنبول"، متهماً الولايات المتحدة بدعم وحدات حماية الشعب الكردية شمال سوريا.

3-استهداف اللاجئين السوريين: ساهم هجوم اسطنبول الأخير في تفاقم حدة الغضب التركي ضد اللاجئين السوريين في الداخل التركي، ووصل استهداف اللاجئين السوريين إلى مستويات غير مسبوقة بين الأتراك، وتجلى ذلك على سبيل المثال في الحملات العدائية  على الفضاء الالكتروني ، جيث طالب قطاع واسع من المغردين الأتراك بضرورة طرد السوريين ناهيك عن مطالبة بعض الأحزاب التركية على غرار حزب النصر اليميني، وحزب الشعب الجمهوري بضرورة طرد السوريين وترحيلهم إلى بلدهم، خاصة أن كثافة اللاجئين السوريين زاد من وطأة الأزمة الاقتصادية التي تعيشها تركيا، وادخل البلاد في دوامة من العنف المجتمعي، كشف عنها العنف والعنف المضاد بين مواطنين أتراك ولاجئيين سوريين.

4-عرقلة جهود التسوية مع دمشق: اعتبرت الحكومة السورية في بيان لها عقب استهداف شارع الاستقلال في منطقة تقسيم التركية، أن هذا العمل الإرهابي هو تحدٍّ سافر للمجتمع الدولي، وإن سوريا تدين الإرهاب أينما كان، لكنها نددت في ذات الوقت بمحاولات تركيا توظيف هجوم أسطنبول لشن عملية عسكرية جديدة على مناطق سيطرة الأكراد في شمال البلاد، متعهدة بالتصدي لأي هجوم تركي. وأكد وزير الخارجية السوري فيصل المقداد في تصريحات له في 15 نوفمبر الجاري "أنه على الإدارة التركية ألّا تتذرع بهذه الحوادث للقيام بخطوات عسكرية في سوريا ربما تزيد الوضع القائم تأزّماً".

5-التأثير على الاقتصاد التركي: أعاد التفجير الذي استهدف منطقة تقسيم في إسطنبول، القلق إلى القطاعات الاقتصادية، وبخاصة القطاع السياحي، خاصة أن المنطقة التي وقع فيها التفجير تمثل أحد أهم المقاصد السياحية في البلاد، حيث يقصدها يومياً قرابة مليوني سائح وعابر، كما أن توقيت الهجوم جاء في ظل ظروف اقتصادية ضاغطة تعاني منها تركيا، في الصدارة منها تراجع مؤشرات الاقتصاد، وانهيار سعر العملة التي فقدت نحو ثلث قيمتها منذ العام 2018. لذلك يحمل هجوم اسطنبول الأخير ارتدادات سلبية على الاقتصاد التركي، وفي القلب منه السياحةت التي توفر فرص عمل لنحو 20% من الأيدي العاملة في تركيا، وتسهم بحوالي 22% من الناتج القومي ناهيك عن مساهمتها بما يقرب من 40% من مجموع الضرائب في الدولة.

6-كشف الاختلالات الأمنية: أرخى هجوم اسطنبول بظلاله على المناعة الاستخباراتية التركية. إذ إن الحادثة فتحت الباب حول تساؤلات مشروعة عن حدود قدرات الأجهزة الأمنية التركية في تأمين المناطق الحيوية في البلاد. لذلك يتوقع أن تتصاعد الإجرءات الأامنية خلال المرحلة المقبلة.

ختاماً، يمكن القول إن هجوم اسطنبول يؤشر إلى احتمال دخول تركيا مجدداً دوامة العنف والعنف المضاد مع الأكراد، وأن وتيرة التصعيد بين الطرفين تنبئ بوجود مزيد من الأزمات في المستقبل القريب، خاصة بعد تأكيد تركيا على تورط الكردستاني في الهجوم الأخير ناهيك عن تلويح الرئيس التركي بعملية عسكرية قريبة شمال سوريا، والتأكيد على استمرار ملاحقة العمال الكردستاني شمال العراق.

 



كرم سعيد

كرم سعيد

 كاتب وباحث متخصص في الشؤون الإقليمية