التداعيات الاقتصادية لإعادة سعر الصرف للدينار العراقي

I'm an image! ٠٥ / ديسمبر / ٢٠٢٢

التداعيات الاقتصادية لإعادة سعر الصرف للدينار العراقي

أ.المتمرس د. كامل علاوي كاظم الفتلاوي

جامعة الكوفة/كلية الإدارة والاقتصاد

توطئة

تشكل الإيرادات النفطية المصدر الأساس للمقبوضات في ميزان العمليات الجارية، وتشكل أكثر من 90 بالمائة من إيرادات الموازنة العامة للدولة، فضلاً عن أنها تسهم بحوالي نصف الناتج المحلي الإجمالي، ولا يلعب سعر الفائدة دوراً في حركة رؤوس الأموال أو في الطلب على العملة الأجنبية، ويمول العجز في الموازنة العامة من الاقتراض غير المباشر من البنك المركزي الذي تراكمت لديه حوالات الخزينة وأصبحت ديون جامدة (على الرغم من أن البنك المركزي يتمتع بالاستقلالية يُحظر عليه اقراض الحكومة بشكل مباشر أو غير مباشر وفق المادة 26 من قانونه 56 لسنة 2004)، لأن مصادر التمويل الأخرى غير فعالة والمتمثلة بالضرائب والاقتراض الداخلي والخارجي والاصدار النقدي،

إدارة سعر الصرف

حددت المادة/4/1 وظائف البنك المركزي العراقي (بصياغة وتنفيذ السياسة النقدية بما في ذلك سعر الصرف)، وقد نجح البنك وسيطر على معدلات التضخم من خلال التأثير في المعروض النقدي عن طريق نافذة بيع العملة، فقد انخفض ذلك المعدل من 53.2 في المائة الى أن أصبحت سالبة (2.8)  في المائة سنة 2009 وبلغت 5.3 في المائة سنة 2021 بعد تغيير سعر الصرف، وهو معدل لا يثير المخاوف، وعمل في البداية على تقوية العملة العراقية بعد أن تم فقدان الثقة فيها قبل 2003 وفقدانها لاهم وظائفها ألا وهي مخزن للقيمة، فانخفض سعر الصرف من 1487 دينار/دولار في سنة 2003 الى 1166دينار/ دولار سنة 2014 ليعود الى الارتفاع الى أن وصل الى 1304 دينار/دولار في كانون الأول(ديسمبر) 2020، وأن البنك عمل على سياسة تقوية الدينار العراقي وهي سياسة لا تؤيدها أي تجربة في حين أن خفض قيمة العملة (رفع سعر الصرف) يمكن أن توظف لتحسين الأداء التنموي.

ومن خلال تتبع تطور سعر الصرف نجد أنه يتسم بالثبات وأن البنك المركزي يدافع عنه بالاحتياطيات الأجنبية، وهذا جعل الأسعار دالة في تقلبات أسعار النفط.

بعد الانتصار على تنظيم (داعش) الارهابي عقد العراق اتفاقيات الاستعداد الائتماني مع صندوق النقد الدولي للمدة 2016-2019، جرت المناقشة الأولى في 7 تموز/ يوليو 2016 والمناقشة الثانية في 24 حزيران/يونيو 2016، ووافق المجلس التنفيذي للصندوق على اتفاق الاستعداد الائتماني مع العراق بقيمة 5.34 مليار دولار وهي تشكل 230 في المائة من حصة العراق في الصندوق؛ وجاء ذلك لدعم الإصلاح الاقتصادي وقد حصل العراق على 1.24 مليار دولار في تموز/يوليو 2015 من خلال "أداة التمويل السريع". يهدف برنامج الإصلاح الاقتصادي الى سد العجز في ميزان المدفوعات ليتوافق مع تغيرات أسعار النفط، وتحقيق استدامة الدين وحماية الفقراء ودعم الاستقرار الاقتصادي واستقرار القطاع المالي والحد من الفساد ويكون هذا البرنامج مدعوم من قبل المجتمع الدولي([1]).     

وأكد الصندوق خلافاً للمنطق الاقتصادي على المحافظة على سعر الصرف الثابت كونه ركيزة أساسية، في حين أن حال الاقتصاد يتطلب أن يكون سعر الصرف مرناً لتعرض البلد الى الصدمة المزدوجة، أو أن يتحرك ضمن حدود معينة وكان تبرير الصندوق في حينها أن العواقب الاجتماعية تكون كبيرة.

ويرى الصندوق أن تخفيض الدينار العراقي لمواجهة الازمة واستيعاب الصدمة الخارجية لا يعطي النتائج المرجوة منه؛ لعدم مرونة الصادرات لذا فإن التخفيض سوف لن يكون له تأثير يذكر، ومن الضروري اللجوء الى ضبط أوضاع المالية العامة بدلاً من ذلك.  

   مبررات رفع سعر الصرف في كانون الأول (ديسمبر)2020

تعرض العراق الى صدمة ثلاثية تمثلت بالصدمة السياسية التي افرزتها انتفاضة تشرين واستقالة حكومة السيد عادل عبد المهدي والصدمة الصحية التي اوجدتها جائحة كوفيد -19 وصدمة انهيار أسعار النفط، فقد انخفضت أسعار النفط في السوق العالمية الى أن أصبحت في لحظة معينة سالبة وهي أول مرة في التاريخ الاقتصادي، أما أسعار النفط العراقي فقد وصلت أدنى مستوى لها في نيسان(أبريل) 2020؛ اذ بلغت 13.801 دولار/برميل وارتفعت بفعل الاغلاق الجزئي لمواجهة تداعيات كورونا الى 47.765 دولار/برميل، هذا الحال أدى الى تراجع الإيرادات النفطية التي هي مصدر التمويل الأساس للموازنة العامة للدولة، مما اضطر الحكومة للجوء الى الاقتراض الداخلي والخارجي لتمويل العجز في الموازنة، وأدى الاقتراض الداخلي الى رفع الكتلة النقدية المصدرة من 51.835 ترليون دينار في كانون الأول(ديسمبر) 2019 الى 66.031 ترليون دينار في كانون الأول(ديسمبر) 2020، ونتيجة لذلك فقد ارتفع الطلب على الدولار وانخفضت الاحتياطيات الأجنبية بشكل سريع لانخفاض الإيرادات النفطية التي هي المصدر الأساس للدولار.

من جهة أخرى، يواجه الاقتصاد العراقي نوعين من الاختلالات فضلاً عن الاختلالات الاخرى؛ الاختلال الخارجي، المتمثل في عجز الحساب الجاري الى الناتج المحلي الاجمالي الذي بلغ حوالي 20%، مما يعني تدهور سعر الصرف الحقيقي الموازي من خلال انخفاض مبيعات العملة الاجنبية عبر نافذة بيع العملة، وكذلك انخفاض مبيعات الحكومة للمركزي من العملة الصعبة فضلاً عن التوقعات المتشائمة التي سادت حول الدينار العراقي. أما الاختلال الداخلي فيتمثل بعجز الموازنة العامة خلال عام 2020، الذي مُوِّل عن طريق الاقتراض الداخلي بصورة مباشرة، ليبلغ حوالي 27ترليون، مما شكل ضغطاً كبيراً على قيمة العملة المحلية. وازاء هذا الوضع لم يكن امام السلطات المعنية الا ان تتدخل لاحتواء هذين الاختلالين من خلال تخفيض قيمة العملة المحلية، وذلك لمعالجة العجز المزدوج في الحساب الجاري والمعطوف على عجز الموازنة العامة، لغرض المحافظة على الاحتياطيات الاجنبية بحدودها الامنة نسبة الى العملة المصدرة ، فضلاً عن أن ارتفاع سعر الصرف سوف يوفر للحكومة إيرادات إضافية تمول فيها العجز الحكومي، ومن جهة أخرى سوف تقلص المبيعات من الدولار لخفض الاستيرادات لكون الأسعار المحلية سوف تكون أرخص من الأسعار المستوردة([2])، ولكن لابد من التأكيد على أن تغيير سعر الصرف سياسة صحيحة لكن التوقيت والحجم غير صحيحين.  

إعادة سعر الصرف: وجه نظر اقتصادية

     يجادل بعض الاقتصادين والسياسيين على ضرورة رفع قيمة العملة (خفض سعر الصرف) الى ما كانت عليه قبل كانون الأول 2020 أي 1200 دينار/دولار، تساق الحجج المتعلقة بارتفاع معدلات التضخم والنمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، وبشكل مختصر حدث تغيير كبير في بداية رفع سعر الصرف لكنه سرعان ما عاد وأصبح بحدود 5.3 في المائة في شهر كانون الاول 2021 أما في عام 2022 يعود ارتفاع معدلات التضخم الى حال الاقتصاد العالمي بسبب الحرب الروسية الأوكرانية. أما معدل النمو الاقتصادي، فإن النمو في العراق يتحقق بفعل التحسن الذي يطرأ في القطاع النفطي، لذا فقد تم تحقيق ثاني أكبر معدل نمو اقتصادي في العالم بأكثر من 9 في المائة، والأول عربياً، لكن هذا المعدل لا يفصح عن حال الاقتصاد العراقي بشكل سليم لكونه اقتصاد ريعي يعاني من اختلالات هيكلية مزمنة، فضلاً عن أن رفع قيمة العملة تعني انخفاض القدرة التنافسية؛ ومن ثم تؤثر سلباً في النمو الاقتصادي لذا فإن هذه الحجة غير مقبولة، أما بالنسبة للفئات الهشة يستوجب على الحكومة أن تواجه تداعيات رفع سعر صرف الدينار لكونها الأكثر استفادة من رفع سعر الصرف والتي تقدر بحدود 25 ترليون دينار. وعليها تفعيل شبكة الحماية الاجتماعية بشكل سليم بعيد عن الفساد والعمل على إعادة توزيع الدخل لصالح الطبقات الفقيرة فضلاً عن ضبط البطاقة التموينية.

ماذا يحدث لو تم تغيير سعر الصرف (رفع قيمة العملة)

1-  إن تخفيض سعر صرف الدينار (رفع قيمة العملة) تعني انخفاض القدرة التنافسية، وتصبح السلع المحلية أعلى سعراً من السلع الأجنبية وهذا يضيف عبءاً اضافياً على الاقتصاد؛ لأن القطاعات الاقتصادية تصبح غير قادرة على المنافسة ومع أن العرض المحلي غير مرن لكن يبقى اجراء المواجهة ضروري.

2-  وعلى الجانب الآخر فان تخفيض سعر صرف الدينار (رفع قيمة العملة) سيؤدي الى زيادة الاستيراد بشكل كبير؛ لان الشركاء التجاريين(تركيا ىوايران) قد خفضوا من قيمة عملاتهم لمواجهة الاجراء الذي اتخذه البنك المركزي أواخر عام 2020؛ ومن ثم فان تخفيض سعر الصرف سيصب في مصلحتهم اذ انه يحقق لهم منافع وللعراق خسائر.

3-  يبني قطاع الاعمال قراراته على وفق الأسعار المتوقعة، والقيمة الحالية للعوائد المستقبلية؛ لذا فإن استقرار سعر الصرف يؤدي الى تحسين بيئة الاستثمار وتساعد رجال الاعمال على بناء توقعاتهم بشكل سليم.

4-  إن تغيير سعر الصرف بأوقات قصيرة تعطي مؤشراً سلبياً على تصنيف البلد للحصول على القروض بشروط ميسرة.

5-  تؤدي تغيرات أسعار الصرف الى ارباك الأسواق وارباك النظام المالي برمته، ومن ثم تؤدي الى تشوه الأسعار.

6-  تنص المادة 2 من قانون البنك المركزي على أنه مستقل ولا يتلقى أي تعليمات من أي كيان، لذا فإن التأثيرات السياسية الساعية الى التدخل في عمل البنك تعد انتهاكاً لاستقلاليته وتضعف من مصداقيته ومن قدرته على تحقيق الاستقرار النقدي.

7-  إن ربط سعر الصرف بالإيرادات النفطية تعني فتح قناة جديدة لنقل الصدمات الخارجية الى الاقتصاد المحلي.

8-  يعد تكرار تغيير سعر الصرف حافزاً الى المضاربة على العملة، ومن ثم تؤدي الى التحول الى الأصول الحقيقة مما يؤثر في أسعارها، فضلاً عن أنه يؤدي الى اتساع الفجوة بين سعر الصرف الرسمي وسعر الصرف الموازي.

9-  إن إعادة سعر الصرف الى ما كان عليه، يعني فقدان أكثر من 20 ترليون دينار من الإيرادات العامة؛ وهو مبلغ ضخم قد لا تتحمله الموازنة في ظل النفقات المتزايدة وعدم اليقين اتجاه أسعار النفط.

10-          إن رفع قيمة العملة المحلية (الدينار) يتطلب الدفاع عنها (في ظل ثبات سعر الصرف) بالاحتياطيات مما تؤدي الى تآكلها، وهذا يؤثر في الوضع النقدي والمالي للبلد.

11-    إن الحجة بأن تخفيض سعر الصرف سوف يؤدي الى انخفاض معدل التضخم، حجة غير دقيقة؛ لأن التجربة التاريخية تؤكد أن الأسعار لا تعود الى ما كانت عليه.

12-    ان العمل على رفع قيمة الدينار العراقي إزاء الدولار سيؤدي الى تشغيل المزيد من العاملين لدى الشركاء التجاريين وزيادة البطالة في الاقتصاد العراقي.

13-  إن خفض سعر الصرف سيؤدي الى زيادة طلب العراقيين على الخدمات (الصحة، التعليم، السياحة والسفر.....) في الخارج أي استنزاف رصيد العملة الأجنبية.

خلاصة القول أن إعادة سعر الصرف الى ما كان عليه له عواقب وخيمة على الاقتصاد في الوقت الحاضر وفي المستقبل القريب، اذا علمنا أن قيمة الدينار لازالت مقومة بأعلى من قيمتها الحقيقية، وأنه قد تم تقديم مقترح تحريك سعر الصرف عندما كان الوضع مناسباً في عام 2014 الا أن إدارة البنك المركزي رفضت المقترح بحجة تأثير ذلك على الفقراء، الا أنه عاد وحرك سعر الصرف بتوقيت وحجم غير مناسبين.