إعتبارات متبادلة .. القاهرة وأنقرة: مؤشرات التقارب ومسارات المستقبل
كرم سعيد / خبير الشؤون ا لقليمية ، نائب مدير تحرير مجلة الديمقراطية – الأهرام
تركيا ومصر.. مؤشرا عمرو عادلى،تتتصاعد مساحات التهدئة بين القاهرة وأنقرة، بفعل عدد من المؤشرات الايجابية، فى مقدمتها زيارة وزير المالية التركي للقاهرة لحضور اجتماعات بنك التنميةالسلامي التي استضافتها مدينة شرم الشيخ المصرية في 4 حزيران 2022 وسبق هذه الخطوة إعلان وزير الخارجية التركي في 13 نيسان الماضي أن بلاده ستتخذ خطوات لتطبيع العلاقات مع مصر، منه ا أنّ بلاده قد تعين سفيرا لها في مصر كجزء من تطبيع العلاقات مع مصر 1. وجاءت تصريحات الوزير التركي في الوقت الذي يستعد فيه دبلوماسيون مصريون وأتراك خلال الأيام المقبلة لعقد جولة ثالثة من المفاوضات لصلاح العلاقات المتوترة منذ العام 2013 بين البلدين، والتي تصاعدت حدتها بعد أن دعمت حكومتا البلدين أطرافًا متناحرة في حرب ليبيا، والدخول في تحالفات مت ناقضة في منطقة شرق المتوسط.
تحركات مكثفة
بالرغم من استمرار معالم التوتر على سطح العلاقات التركية – المصرية، لكن انتشر ت العديد من مؤشرات التفاهم خلال الفترة الماضية بين البلدين، وبدا ذلك فى أخذ مصر المطالبات البحرية التركية بشأن اتفاقية ترسيم الحدود مع اليونان، الموقعة في آب 2020 ، في الاعتبار، ما اعتبرته أنقرة بمثابة بادرة حسن نية 2. كما التقى دبلوماسيون مصريين وأتراك في أيار وايلول 2021 ، في إطار سعيهما لبحث أسباب التوتر، ومن المتوقع عقد الجولة الثالثة من المحادثات خلال المرحلة المقبلة .تعززت مساحات التهدئة مع تقليص دعم تركيا لقيادات بارزة بجماعة الخوان المسلمين فضلًا عن إجبار المنصات العلامية، والتي تُبث من تركيا على وقف جانب معتبر من برامجها التي تناهض النظام المصري. التطور الحادث في مسارات العلاقة بين انقرة والقاهرة، دفعت وزير الخارجية المصري في تشرين الاول 2021 للإشادة بحذر بهذا التقدم، وقال فى تصريحات له " أمل في أن يتمكن البلدان من البناء على هذا التقدم". وفي دلالة واضحة على حرص البلدين على تجذير عملية التهدئة، أكد وزير الخارجية التركي في 13 الماضي أن العلاقات مع مصر بحاجة إلى تصحيح، وأضاف خلال كلمة له في اجتماع حكومي "من المهم جدا تطبيع العلاقات بين البلدين بسبب أهميتها للعديد من الدول في شرق البحر الأبيض المتوسط"، وكشف أن نظيره المصري سامح شكري سيزور إسطنبول خلال رمضان الحالي، إذا لم يكن هناك أي طارئ " بالتوازي أعلنت القاهرة في 29 آذار الماضي، عن منح المواطنين الأتراك تيسيرا ت دخول البلاد لمدة عام وفق اشتراطات محددة، ودخلت هذه التيسرات بالفعل حيز التنفيذ اعتباراً من نيسان 2022 ، لرعايا دولة تركيا و 5 دول أخرى هيباكستان والهند والصين والمغرب والجزائر . ملامح التقارب، والقفز على مساحات التوتر بين البلدين، ظهرت مع إعلان قناة "مكملين" المعارضة المصرية التي كانت تبث من تركيا نهاية نيسان الماضي، نقل مقرها إلى خارج الأراضي التركية. كما كشفت بعض المصادر مطلع أيار الماضي عن أن ب عض الشخصيات المحسوبة على المعارضة المصرية بدأت بمغادرة الأراضي التركية، خصوصاً ممن لم يسووا أوضاع إقامتهم القانونية هناك، سواء بإكتساب الجنسية التركية أو حيازة إقامة دائمة هنا ك 3. في المقابل، يشار إلى إن "التقارب التركي الخليجي ساهم أيضاً في تمهيد الطريق لاستعادة العلاقات بين أنقرة والقاهرة، خاصة أن الأولى تعى أن تطوير العلاقات مع المنطقة الخليجية يرتبط في جانب معتبر منه بتحسين العلاقات مع القاهرة، كما أن الأخيرة تريد ألا تضع نفسها تحت أي ضغط لتقارب أكبر بين حلفائها الخليجيين وتركيا، ويشار إلى أن زيارة ولى العهد السعودي لتركيا في 23 حزيران الجاري فتحت الأبواب أمام تقارب جديد بين تركيا والمنطقة.
حسابات متبادلة
تسعى تركيا ومصر خلال المرحلة الحالية إلى كسر حالة التوتر، والتحايل على الملفات الخلافية.
وفي هذا الطار يمكن الشارة إلى أبرز دوافع التقارب على النحو الآتي:
موازنة المصالح الاستراتيجية: على الرغم من استمرار القضايا الخلافية بين أنقرة والقاهرة، خاصةً استمرار الانخراط العسكري التركي في ليبيا، ومعارضة القاهرة التحركات التركية شرق المتوسط، فإنه يتوقع أن يدفع النهج البراجماتي، إدارة البلدين إلى عدم تصعيد حدة الخلاف إلى درجة غير مسبوقة، والعودة إلى موازنة المصالح، بالنظر إلى حاجة تركيا إلى الدور المصري في تأمين مصالحها في منطقة شرق المتوسط، حيث تعتبر القاهرة نقطة الاستناد الاستراتيجية في منظمة غاز المتوسط التي تجمع الدول المشاطئة على حوض المتوسط، وتسعى تركيا أن تكون جزء منه. في المقابل، فإن استمرار حالة السيولة السياسية فى ليبيا، وفر بيئة خصبة لتركيا ومصر بتكريس عملية تطبيع العلاقات، حيث بدأ البلدان في دعم مفاوضات الأمم المتحدة، التي انطلقت في أواخر عام 2020 ، لتشكيل حكومة وحدة وطنية جديدة، كما أصبحا البلدان أك ثر توافقاً بشأن دعم حكومة وحدة وطنية موحدة في ليبيا, ولذلك، فأن استمرار الاحتقان قد يدفع أنقرة والقاهرة إلى تبني خيارات لا تتوافق مع حسابات مصالحهما في مناطق النفوذ المشتركة خلال المرحلة الحالية، وبخاصة فى شرق المتوسط وليبيا. ومن هنا، فإن البناء على جهود التقارب الحالية، وترسيخ حالة الهدوء بين البلدين يمثل فرصة لتوفير المزيد من الفرص لمعالجة القضايا الشائكة بين أنقرة والقاهرة، والأخذ بعين الاعتبار المصالح المشتركة. استيعاب المتغيرات القليمية : لا ينفصل التقارب المصري التركي عن رغبتهما في استيعاب التحولات القليمية، فثمة مخاوف مشتركة من تراجع موقعهما في الاستراتيجية القليمية بعد توقيع الاتفاقيات البراهمية، وتطبيع عدة دول عربية علاقاتها مع إسرائيل. على صعيد متصل، فإن القاهرة ترى أهمية التجاوب مع التوجهات التركية الجديدة، وسعيها لتصفير المشاكل مع القوى القليمية ، وهو ما تجلى في إصلاح العلاقة مع المارات وإسرائيل، وقطع شوط معتبر على صعيد تصحيح العلاقة مع السعودية وأرمينيا .ا ل
تأمين المصالح الاقتصادية: ت سعى تركيا ومصر من وراء تخفيف حدة الاحتقان بينهما إلى تأمين مصالحهما الاقتصادية المشتركة، إذ يحمل التعاون التجاري والاقتصادي أولوية مطلقة في هذا التوقيت، خاصة مع رغبة تركيا ومصر في الحفاظ على المبادلات التجارية، حيث تضاعف إجمالي حجم التجارة بينهما 3 مرات بين عامي 2007 و 2020 ، من 4.4 مليار دولار إلى 11 مليار دولار، وهو الأمر الذى قد ينعكس ايجابيا على اقتصاد كلا البلدين، الذى يعاني أزمة كبيرة بسبب تراجع سعر عملة البلدين، فضلًا عن تداعيات جائحة كورونا، وتداعيات الأزمة الأوكرانية على حركة السياحة في كلا البلدين. كما أن ثمة حرص حكومى مصرى على حماية الاستثمارات التركية لديها، والتي تتجاوز 2 مليار دولار فضلًا عن أن هناك ما يقرب من 200 شركة تركية، منها 40 شركة كبيرة توفر فرص عمل معتبرة . 5 تعزيز مشاريع الطاقة: تعى أنقرة أن الأزمة الأوكرانية الراهنة، واتجاه روسيا إلى معاقبة الغرب بوقف توريد الغاز للأسواق العالمية، يوفر فرصة استثنائية لتركيا لتتحول إلى ناقل للغاز المصري للأسواق الأوروبية. كما أن العلاقة مع القاهرة في مجال الطاقة باتت تمثل أهمية كبيرة في هذا التوقيت، لعتبارات عدة:-
أولها : مخاوف تركيا من ضغوط غربية عليها لمنع استيراد الغاز الروسي والبحث عن بدائل أخرى.
وثانيها : أن مصر أصبحت مؤخرًا مصدرًا مهمًا للغاز الطبيعي المسال إلى تركيا .
وثالثها: احتمال مواجهة تركيا مزيد من الضغوط في احتياجاتها من الطاقة خلال المرحلة المقبلة، بعد انتهاء عقد الغاز الطبيعي المسال النيجيري في نهاية تشرين الاول الماضي دون تجديده، والذي كان يُقدَّرب 1.3 مليار متر مكعب من الغاز المسال ناهيك عن تسجيل تركيا ارتفاعًا قياسيًا في الطلب على الغاز المسال ليصل إلى نحو 60 مليار متر مكعب بنهاية العام 2021 ، على خلفية الاستهلاك القوي في قطاع الطاقة.
ورابعها: أن أنقرة والقاهرة ترى أن ترميم العلاقة مع القاهرة يوفر فرص أكبر للطرفين في شرق البحر الأبيض المتوسط فضلًا عن مساعدة تركيا لحماية مصالحها. وعزز هذه الرؤية إشارات مصرية ايجابية لأنقرة، أهمها في 18 شباط 2020 ، عندما طرحت أول مزايدة عالمية للتنقيب عن البترول والغاز الطبيعي في خليج السويس والصحراء الغربية وشرق المتوسط، فقد أخذت بعين الاعتبار الجُرف القاري التركي المنصوص عليه باتفاق جرى مع حكومة الوفاق الوطني في ليبيا عام 2019.
تنويع الشركاء لتركيا: جاءت جولات الحوار الاستكشافية بين القاهرة وأنقرة في أيار وايلول 2021 إلى جانب وقف التصريحات والتصريحات المضادة بين البلدين، كاشفة عن رغبة أنقرة لتعزيز شراكاتها مع القوى القليمية في المنطقة، وبخاصة القاهرة، خاصة في ظل رغبة النخب السياسية والعسكرية التركية إعادة النظر في العلاقات التركية مع القوى الغربية، وبخاصة الولايات المتحدة بعد استبعاد تركيا من برنامج إنتاج المقاتلات F35 ، ورفض الكونجرس الأمريكي منح تركيا طائرات F16 . كما لا تزال القضايا الخلافية بين تركيا وشركائها الأوروبيينعلى أشدها ، وظهر ذلك في استمرار الانتقادات الأوروبية لملف حقوق النسان في تركيا، ومعارضة انضمام أنقرة للاتحاد الأوروبي ناهيك عن إعلان قمة الاتحادلالأوروبي التي عُقدت في 23 و 24 حزيران الجاري عن دعمها لليونان في خلافاتها مع تركيا .
المسارات المحتملة للعلاقة
برغم الجهود المبذولة لحلحلة القضايا الخلافية بين القاهرة وأنقرة إلا أن ثمة تحديات تلقى بظلالها على طبيعة المسارات المحتملة، وفي هذا السياق العام، يمكن الشارة إلى ثلاثة مستويات، قد تتعرض لها العلاقات المصرية التركية، ويمكن بيانها على النحو الآتي :
المستوى الأول : تحسن شامل: التوجه نحو تحسن شامل يتضمن معالجة كل المشكلات القائمة بين البلدين. لكن هذا السيناريو يظل احتمال ضعيف لعتبارات عدة مهمة:
أولهما: تعارض مواقف البلدين فى أزمات القليم، وبخاصة الأزمة الليبية، وتصاعد هذا القلق مع التحركات التركية المكثفة في شرق ليبيا، وبناء جسور من الثقة مع الهياكل السياسية في شرق ليبيا، وهو ما كشف عنه زيارة السفير التركي لدى طرابلس “كنان يلماز”، في 19 كانون الثاني الماضي. ويُعد هذا اللقاء هو الأول من نوعه، وقد أسفر عن كسر حدة التوتر بين أنقرة ومنطقة شرق ليبيا.
وثانيهما : احتمال عودة حدة المنافسة بين القاهرة وأنقرة، خاصة في ظل شكوك مصرية بشأن الوجود التركي في القرن الأفريقي وشراكتها المتنامية مع إثيوبيا بعد أن منحت في ديسمبر الماضي عدد من الطائرات المسيرة لحكومة أديس أبابا التي تتنازع مع مصر حصتها في مياه نهر النيل.مقا ل
وثالثها: أن ثمة قضية أخرى تتعلق بما إذا كان الرئيس التركي على استعداد للقاء مباشر مع نظيره المصري، خاصة أنه ألمح في تصريحات سابقة إلى أنه لن يرغب في مقابلة "السيسي" شخصيا .
المستوى الثاني : جمود الوضع: تجميد الوضع على ما هو عليه، أي دون إحراز أي تقدم ملموس في أية مشكلة، لكن مع الحفاظ على انتهاء التراشق العلامي والتأكيد على الرغبة في تطوير جهود المصالحة، واستمرار اللقاءات على مستوى الوفود الأنية والدبلوماسية، وهو السيناريو الذى يضمن تخفيف الضغوط على البلدين من دون أن يضطر البلدين لتقديم تنازلات فى القضايا الخلافية الكبرى .
المستوى الثالث : التحسن المحدود : رغم تصاعد حدة التوتر بين تركيا ومصر، خلال الفترة الماضية إلا أن ذلك لا ينفي أن ثمة اعتبارات مضادة، ربما تدفع الطرفين ليس فقط إلى محاولة ضبط حدود هذا التوتر، وعدم تصعيده لدرجة غير مسبوقة، بشكل يمكن أن يفرض تداعي ات سلبية على مصالحهما، وإنما أيضا السعي للوصول إلى محاور توافق حول بعض القضايا التي تحظى باهتمام مشترك. ويبدو أن هذا السيناريو هو الأوفر حظاً، لاعتبارات عدة:-
أولها : إنهاء حالة الخصومة، وعودة العلاقات الدبلوماسية على مستوى القائم بالأعمال .قا ل
ثانيهما: التطور الحادث فى العلاقات التجارية، فقد ارتفع مُعدل النمو في التبادل التجاري بين مصر وتركيا بمقدار 32.6 في المئة في 2021 ، كما ارتفعت كمية البضائع المستوردة والمُصدرة بين البلدين بمقدار الثلث، أي ما يُعادل 1.6 مليار دولار إضافية في حجم التجارة بين البلدين. كما قام وفد مصري في 21 كانون الثاني الماضي بزيارة تركيا، وتم التوافق على زيادة الاستثمارات بين البلدين
ثالثها: المواقف اليجابية للقيادة التركية، فقد أكد الرئيس التركي في تصريحات له في تشرين الثاني 2021 على أن بلاده ستقدم على خطوات لتحسين العلاقات مع مصر .
رابعها: أن التطورات المحلية في كلا البلدين، يمكن أن تمثل في المستقبل القريب قوة دفع لتحقيق سيناريو التحسن المحدود. ففي الوقت الذى لا تعارض القاهرة تطبيع العلاقة مع تركيا شريطة عدم التدخل في شؤونها الداخلية، لا تحمل المعارضة التركية توجهات معادية لمصر . كما تتعالى أصوات غير قليلة داخل حزب العدالة والتنمية، بشأن ضرورة تطوير السياسة الخارجية التركية حيال دول القليم، وبخاصة القاهرة وسوريا وليبيا.
ختاماً : يمكن القول أن ثمة مؤشرات متبادلة على تعزيز جهود التقارب بين مصر وتركيا خلال المرحلة الحالية، وفي الصدارة منها إعلان تركيا عن خطوات جديدة تجاه القاهرة التي أبدت استجابة لافتة حيال التوجهات التركية، كما وفرتمقا ل الجهود التركية الحالية بيئة خصبة لتعزيز التقارب، خاصة أن أنقرة اتجهت مؤخراً نحو محاصرة المنصات العلامية المصرية التي تُبث من أسطنبول ناهيك عن أن القاهرة راعت المصالح البحرية لتركيا عند توقيع اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية مع اليونان . بالتوازي، تعي تركيا أن التقارب مع القاهرة يضمن مصالحها شرق المتوسط، ويساهم في معالجة ضعف المناعة القليمية والدوليةلتركيا. كما أن الأزمة الأوكرانية باتت تمثل ورقة ضاغطة على تركيا لجهة إصلاح العلاقة مع القاهرة، إذ أن ثمة مخاوف تركيا في تصاعد الضغوط الغربية لمنع استيراد الغاز الروسي. لذلك تعتقد أنقرة أن التقارب مع القاهرة يمكن أن يمنح تركيا فرصة أكبر لتعزيز مشاريع الطاقة مع القاهرة، وبخاصة تحويلها كناقل للغاز المصري أو على الأقل تأمين ورادتها من الغاز المصري المثال . من جملة ما سبق، فإنه برغم التحديات التي تمنع تحقيق تحسن شامل إلا أن ثمة مؤشرات تلمح إلى تصاعد فرص تحسن محدود بين البلدين، منها إعلان تركيا عن رغبتها في تعيين سفير لها بالقاهرة، وتصريحات وزير الخارجية التركي عن لقاء محتمل فى اسطنبول خلال رمضان مع نظيره المصري.
كاتب وباحث متخصص في الشؤون الإقليمية