مستقبل العراق بحاجة الى كوادر قيادية بخبرة تكنولوجية وفكر رقمي في القطاع الحكومي

I'm an image! ١٩ / يناير / ٢٠٢٥

يواجه العراق مفترق طرق في رحلته نحو تحقيق إمكاناته الاقتصادية الكاملة. فبينما يشكل قطاعا النفط والغاز والبناء العمود الفقري لاقتصاده التقليدي، تشهد الاقتصادات العالمية تحولًا سريعًا نحو التكنولوجيا والابتكار باعتبارهما أساس بناء اقتصادات مستدامة ومرنة. ومع ذلك، فإن العراق لا يزال في نهاية الترتيب العالمي فيما يخص الاقتصاد الرقمي.

نظرة سريعة الى بعض المؤشرات تعطينا لمحة عما سبق، فمثلا يحتل العراق المرتبة 148 في مؤشر تطور الحكومة الالكترونية لعام 2024 من أصل 193 دولة (بينما تحتل السعودية المرتبة السادسة). (1)

الاسباب كثيرة، من أهمها برأيي هي نقص الخبرة والوعي بالتكنولوجيا وقطاع الشركات الناشئة بين القيادات التنفيذية في الحكومة (وزراء، مدراء عامين، واغلب الكوادر الإدارية الوسطية).

تأتي غالبية تلك القيادات والمؤثرين في الحكومة العراقية من خلفيات تركز على الاختصاصات التقليدية، او لديهم خبرات في دوائر الدولة بصورة عامة، حتى في الوزارات التي لها علاقة بالتكنولوجيا. وبينما لا يمكن التقليل من قيمة الخبرات في مجالات النفط والغاز والانشاءات، إلا أن افتقارهم للخبرة في القطاعات التكنولوجية والرقمية يعوق تطوير سياسات تدعم الابتكار وريادة الأعمال وجذب الشركات التكنولوجية الكبيرة.

ونتيجة لقلة هذه الخبرات، لا يوجد فهم واضح لأهمية الشركات التكنولوجية بين أصحاب القرار الحكومي، وقنوات التواصل مع تلك الشركات غير كفؤة. حيث انه من الصعوبة إيجاد اشخاص في الحكومة يتحدثون بلغة عالم الاعمال الحديث، مما يؤدي الى فشل التواصل وعدم اهتمام الشركات التقنية بالدخول الى العراق، بل واكتفائهم ببيع خدماتهم في العراق وإدارة الأمور من الدول المجاورة التي لديها تلك الخبرات وتمنحها البيئة والمحفزات المطلوبة.

شهد العالم أمثلة عديدة على كيفية تحول الاقتصادات عبر التكنولوجيا. دول مثل الإمارات العربية المتحدة وسنغافورة والسعودية استفادت من التكنولوجيا والابتكار ليس فقط لتنويع اقتصاداتها، بل لتصبح مراكز عالمية لريادة الأعمال.

المملكة العربية السعودية مثال يُحتذى به في المنطقة. فقد ركزت على جذب الكفاءات السعودية العاملة في شركات دولية كبرى بالخارج، وأسندت إليهم مناصب قيادية داخل البلاد من بين هذه الأمثلة:

  • المهندس عبدالله السواحه: وزير الاتصالات وتقنية المعلومات منذ 2017، وقبل منصبه الحكومي، شغل منصب المدير التنفيذي لشركة "سيسكو" في السعودية، مما جعله يجلب خبرات القطاع الخاص إلى منصبه الحكومي، وساهم بحكم علاقاته السابقة في توقيع شراكة بين الحكومة السعودية وشركة سيسكو لتسريع خطة التحول الرقمي. (1)
  • ديما اليحيى: قادت منصب الرئيس التنفيذي للوحدة الوطنية للتحول الرقمي، وكانت أول سعودية تتقلد دورًا قياديًا في مايكروسوفت العربية. خبرتها ساهمت بشكل مباشر في مبادرات الابتكار الرقمي (2).

هذا النهج السعودي يُظهر بوضوح كيف يمكن تسخير الخبرات الوطنية التي تم اكتسابها عالميًا لدفع عجلة التحول الرقمي في الداخل.

لسد هذه الفجوة، يجب على الحكومة اتخاذ خطوات حاسمة لجلب أفراد لديهم فهم لصناعة التكنولوجيا وإمكاناتها. وفيما يلي بعض المقترحات:

1- تعيين قادة على دراية بالتكنولوجيا:

يجب أن يتم شغل المناصب المؤثرة في السياسة الاقتصادية والصناعية، بأشخاص لديهم معرفة بقطاع التكنولوجيا وخبرة في شركات التكنولوجيا العالمية. حيث يمكن لهؤلاء القادة أن يشكلوا جسورًا بين الحكومة والقطاع الخاص التكنولوجي لضمان توافق السياسات مع الاتجاهات العالمية.

2- ابرام الشراكات مع الشركات الاستشارية الكبرى

: يمكن للحكومة العراقية أن تستفيد من التعاون مع شركات استشارية عالمية مثل "McKinsey & Company" و"Rolan Berger" وشركات الاستشارات الكبرى الأربعة (KPMG, Deloitte, E&Y, PWC) وغيرها. هذه الشركات تمتلك خبرات عميقة في صياغة استراتيجيات التكنولوجيا ودعم الحكومات في تطوير سياسات مبتكرة تُعزز من تنافسية القطاع التكنولوجي، وهي متواجدة بثقل كبير في الدول التي تسعى لتحقيق طفرات في مجال التحول الرقمي وتبني التكنولوجيا مثل الامارات والسعودية وقطر وتركيا. الا انه لا وجود يذكر لها مع كل الأسف في العراق.

على سبيل المثال كان حجم سوق الاستشارات في دول الخليج في سنة 2023 هو 5.4 مليار دولار بنمو مقداره 13% عن السنة السابقة، أكثر من نصف هذا المبلغ كان فقط في السعودية بقيمة 3.2 مليار دولار، مما يعكس ثقة إدارات دول الخليج في الشركات الاستشارية كشركاء في التحول الرقمي (3).

التعاون مع هذه الشركات بشرط توظيفها وتدريبها للشباب العراقي سيساهم في نقلة نوعية في المهارات والخبرات المحلية، بالإضافة الى رفع ثقة الشركات العالمية للدخول للسوق العراقي كون اغلبها تعمل مع الشركات الاستشارية الكبرى في جميع انحاء العالم.

3- إنشاء لجان مخصصة للتكنولوجيا:

ينبغي على الحكومة إنشاء لجان متخصصة تتولى مسؤولية صياغة السياسات وتقديم التوصيات للحكومة في كيفية تسهيل دخول الشركات التكنولوجية العالمية للعراق ودعم الشركات التقنية الناشئة وتعزيز الابتكار، بشرط ان يتم اختيار قياداتها من كفاءات لها خبرة في الشركات التكنولوجية العالمية وليسوا موظفين من الوزارات والدوائر الحالية الا اذا كانت لديهم خبرة سابقة في التعامل مع الشركات التكنولوجية.

4- التواصل مع قادة التكنولوجيا العالميين:

يمكن للشراكات مع الشركات التكنولوجية الكبرى وأن تزود العراق بالخبرات والموارد اللازمة لتسريع انتقاله إلى الاقتصاد الرقمي ونقل الخبرات التكنولوجية الحديثة للشباب العراقي إذا قدمت الحكومة التسهيلات والمحفزات المطلوبة لذلك. للعلم فأن دولا ً كثيرة في العالم تقدم محفزات مادية كبيرة لإقناع الشركات العالمية لفتح مراكز إقليمية لها في دولها. على سبيل المثال في أيلول الماضي أصدرت ولاية كارناكتا الهندية قانونا يمنح امتيازات للشركات العالمية التي تفتح مراكز إقليمية لديها من ضمنها تحمل 25% من كلفة رأس المال ومنح مادية للبنية التحتية واستثناءات ضريبية وغيرها. (5)

5- تعزيز التواصل مع الكفاءات العراقية في الخارج

: هناك الكثير من العراقيين الذين يعملون في شركات تكنولوجية دولية رائدة. يمكن للحكومة بناء برامج لجذبهم للعودة إلى العراق وشغل مناصب قيادية لدعم التحول الرقمي.

6- الاستثمار في التعليم والتدريب:

 يجب أن تعطي الحكومة الأولوية للمبادرات التي تزود الشباب العراقيين بالمهارات اللازمة للنجاح في قطاع التكنولوجيا. وهذا لن يخلق فقط قوى عاملة موهوبة للاقتصاد المحلي، بل سيجذب أيضًا شركات عالمية تبحث عن عمالة ماهرة.                                                                                   

7- تنمية ثقافة الابتكار داخل الحكومة:

يجب على الحكومة العراقية أن تتبنى ثقافة الابتكار في عملياتها الداخلية وتشجع التجربة واعتماد الحلول الرقمية لتحسين الكفاءة وتعزيز الشفافية.

 

من خلال استلهام تجارب دول مثل السعودية، والتعاون مع شركات استشارية عالمية، وتعيين قادة ذوي خبرة تقنية، وتحديث القوانين وإشراك الكفاءات العراقية في الخارج، يمكن للعراق بناء اقتصاد أكثر تنوعًا ومرونة واستدامة يفيد الأجيال القادمة.

 لقد حان الوقت للعراق أن يحتضن المستقبل، ويبدأ ذلك بإدخال الخبرة التكنولوجية إلى صميم عملية اتخاذ القرار الحكومي.