اليمين المتطرف على عتبات السلطة في فرنسا الخطر المتجذّر

I'm an image! ٢٢ / أبريل / ٢٠٢٢

 

اليمين المتطرف على عتبات السلطة في فرنسا

الخطر المتجذّر

 

 إعداد: موسى أشرشور

 

لم يكن صعود مرشحة التجمع الوطني، مارين لوبان، إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية في فرنسا مفاجئا للمراقبين والرأي العام، مثلما حدث في انتخابات عام 2017 وقبل ذلك، مع والدها جان ماري لوبان، في انتخابات 2002. بل كان جد متوقع لأنه جاء بعد حملة انتخابية طغى عليها الخطاب الشعبوي والمناهض للأجانب بشكل غير مسبوق. إذ صار حتميًا على كل المرشحين، بمن فيهم الرئيس إيماونيل ماكرون، أن يحددوا قبل كل شيء موقفهم من الهجرة ومن الهوية القومية ومن الإسلام، قبل الخوض في أي موضوع آخر.

جرت تلك الحملة في جو من المزايدة التي فرضت انتصار اليمين المتطرف. لأن بغض النظر عن نتائج الدور الثاني المقرر إجراؤه يوم 24 أبريل، فإن الخطاب اليميني الشعبوي استطاع أن يكرّس مفاهيمه ومقولاته في المشهد السياسي الفرنسي وأن يدفع بالمسئولين ـ أيّا كانت توجهاتهم ومشاربهم الأيديولوجيةـ إلى تبني نهج سياسي راديكالي، أقل ما يقال عنه أنه متهوّر، إزاء المهاجرين والجالية الإسلامية بشكل خاص.

بين الدور الأول والثاني، جاءت معظم التعاليق والتحاليل الصحفية منصبّة حول الخطر المحدق بفرنسا ـ أمّة وحضارة ـ في حال فوز مرشحة اليمين المتطرف التي يبدو أنها تملك نفس حظوظ النجاح التي انطلق بها الرئيس الحالي.

معجزة مارين لوبان

الكاتب الصحفي جان ماري كولومباني، المدير السابق ليومية "لوموند" الشهيرة، يدق ناقوس الخطر على موقع "سلايت"Slate ، محذرا من الاستهانة بحظوظ مرشحة اليمين المتطرف في الفوز. كتب: "إن الفرنسيين والفرنسيات، ومعهم فرنسا كلها، يقفون في هذه اللحظات أمام مسئولياتهم. بعد أسبوعين، سيكون انتصار اليمين المتطرف ممكنًا. لم تكن المعجزة التي حققتها مارين لوبان فقط في كونها استطاعت أن تُنسي الناس اسمها - "انتخبوا مارين" - وإنما أيضًا وقبل كل شيء طبيعة برنامجها، الذي تنطبق عليه كل مواصفات اليمين المتطرف التقليدية. معجزتها هي أيضا في كون أن حملتها، التي تركزت كليا على القدرة الشرائية، في الوقت الذي تغاضى كل الآخرين عن هذا المطلب، نجحت في تلميع صورتها بدهاء".

وكتب مدير "لوموند" Le Monde الحالي في افتتاحية العدد الصادر غداة الإعلان عن نتائج الدور الأول، محذرا من احتمال فوز مرشحة التجمع الوطني ومن تداعياته. وفي تفسيره لهذا الوضع، يقول: "للمرة الثانية على التوالي، تتمتع مرشحة التجمع الوطني مارين لوبان بحظوظ وافرة للمشاركة في الجولة الثانية. وللمرة الأولى، إذا ما صدقنا استطلاعات الرأي، نجد أن فرصها للفوز ببرنامج يميني متطرف قائمة. وبالطبع، لا يجب الإسراع في إصدار أي حكم على مدى صدق هذه الفرضيات التي ينبغي التعامل معها بكل حذر". ويتابع الكاتب: "قرأنا تعاليق كثيرة على أسباب الوضع غير المسبوق الذي وجدت فيه نفسها مرشحة التجمع الوطني. الرأي السائد هو أنها تدين بالكثير لوجود غريمها والمرشح الآخر لليمين المتطرف، إريك زمور، الذي يساهم اليوم رغما عنه، بعد فشله في الإطاحة بها، في منحها المصداقية التي تريدها وفي تحسين صورتها بفعل خطاباته المغالية والمزايدة في الغلو. كما أنه أعدّ لها مخزوناً لم تحلم به من الأصوات للجولة الثانية."

وعلى نفس المنوال، كتبت يومية "لوتون" Le Temps السويسرية الناطقة بالفرنسية معلقة على الحدث المزلزل أن الانتخابات الفرنسية أفرزت "فرنسيين أو بلدين متواجهين" يصعب التصالح بينهما، على أحدهما بالحسم في جولة 24 أفريل. "في يوم 10 أبريل، ومن غير مفاجأة، خرجت فرنسيان اثنتان من صناديق الاقتراع. الأولى هي فرنسا إيمانويل ماكرون التي تعبّر عن رغبته في مواجهة المستقبل جنبًا إلى جنب مع شركائه الأوروبيين، وهو مقتنع بأن مقولة "مهما كلّف الأمر" لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية. أما فرنسا الثانية، فرنسا مارين لوبان، فهي تعتقد أن الوقت قد حان للرئيس لرأب التصدعات الاجتماعية التي تمزق البلد. هذان البلدان بعيدان جدًا عن بعضهما البعض. وسيكون تنافرهما بين الجولتين أساس الحملة الانتخابية الجديدة التي بدأت مساء الأحد."

نفس الرؤية بنفس المفاهيم خرجت بها يومية "لوبينيون" الليبرالية الفرنسية التي تتحدث عن صراع بين فرنسا ماركون وفرنسا لوبان، معتبرة أن الدور الثاني الذي سيجمع بين المرشحين يكرر سيناريو انتخابات 2017، إلا أن عدة عوامل تجعل من منازلة العودة أخطر على الرئيس من المنازلة الأولى.

وبلهجة أحد، كتبت يومية "لومانيتيه" L’Humanité التابعة للحزب الشيوعي الفرنسي أن خطر فوز لوبان بالرئاسيات لم يعد ضربًا من المستحيل. وفي تحليلها تستدل بالأرقام. تقول: "إننا مقبلون على 21 أبريل جديد. وهو الثالث في ظرف عشرين سنة منذ صعود جان ماري لوبان إلى الجولة الثانية في عام 2002. منذ ذلك اليوم، أصبحت العبارة دارجة في الأحاديث اليومية، غير أن الوضع السياسي الراهن مختلف. نجحت سليلة جان ماري لوبان التي فازت بنسبة 23.3٪ من الأصوات، بتعزيز مكانتها وتجاوز النسبة التي حققتها في الجولة الأولى من انتخابات 2017 (21.3٪). غير أن الوضع، وفي غضون خمس سنوات، تغير بشكل جذري. ذلك أن انتصار اليمين المتطرف لم يعد أمرا سرياليًا أو من ضرب الخيال مثلما كان في الماضي. فحسب معهد استطلاع الرأي Ifop، سوف لن تكون نتيجتها أقل من 49 ٪ في الجولة الثانية، مع تقدير هامش الخطأ."

يواصل الكاتب تحليله: " هناك عدة عناصر تدعم هذه الأطروحة المشؤومة. منها تشبّع الإعلام بمواضيع اليمين المتطرف مما أدى إلى تعميمها وتطبيعها. ومنها أيضا ظهور مرشح بيتيني (نسبة إلى المارشال بيتين الذي تحالف مع ألمانيا النازية أثناء الحرب العالمية الثانية) الذي ساعد بشكل كبير على توسيع قاعدة المعسكر القومي، مما وفّر لمارين لوبان مخزوناً لا يستهان به من الأصوات لأول مرة. وثالثاً، هناك السياسة الاستبدادية وغير الشعبية التي سادت خلال ولاية ماكرون والتي فتحت الطريق واسعاً لرئيسة الجبهة الوطنية."

انقسام سوسيولوجي وثقافي

ويذهب الخبير السياسي جيروم فروكيه، مدير قسم "الآراء" في معهد Ifop، في تحليل لنتائج الانتخابات إلى اعتبار أن هناك "كتلتين سوسيولوجيتين وثقافيتين ستتواجهان". يقول في حوار مع يومية "لوفيغارو" Le Figaro  اليمينية، أن نتائج التصويت في الجولة الأولى "أكدت إعادة تشكيل المشهد السياسي الفرنسي". يرى أن التصنيف التقليدي يمين/يسار لم يعد صالحاً ليحل محله تصنيف جديد يقسّم الفرنسيين إلى فئتين: فرنسيي الطبقات العليا وفرنسيي الطبقات الدنيا." 

وردا على سؤال حول مدى تجذر السيناريو الذي كتب سنة 2017، يرى الخبير أن الصعود الثاني للثنائي ماكرون/لوبان يؤكد أن ما حدث قبل خمس سنوات لم يكن حادثاً طارئاً. ويشبّه هذه المخارج بطبقات الأرض العميقة التي تضبط حركات الزلازل والتي تمضي في إعادة تكوين المشهد السياسي من أساسه. وفي نظره إن هناك "كتلتين سوسيولوجيتين وثقافيتين تتواجهان على الأرض". كتلة يمثلها إيمانويل ماكرون تشمل المتقاعدين. وهذه الفئة معروفة بتمسكها بالاستقرار والإبقاء على الوضع القائم، وتخاف من المستقبل المستقبل ومن انهيار الاقتصاد. وكتلة أخرى تقودها مارين لوبان، تشمل طبقات العمال والموظفين الذين يتطلعون لمزيد من المكاسب دون المغامرة بمصالحهم، ويطالبون بإلحاح، مثلما بيّنته مظاهرات "السترات الصفراء" خلال عامي 2020 و2021، بإعادة توزيع المداخيل بصفة أكثر عدلاً على المواطنين، وبالتخفيف من أعباء الضرائب على ذوي المداخيل الضعيفة."    

من جهته، يرى المفكر السياسي إروان لوكور، الأخصائي في شؤون اليمين المتطرف، أن الفرنسيين يعيشون اليوم "لحظة تاريخية". يقول: "لقد كنا نتحدث منذ عدة سنوات عن الاستقطاب الثلاثي للحياة السياسية، فها نحن اليوم في صددها. سينتهي الحديث عن اليسار واليمين [...] لأن لدينا اليوم ثلاث كتل: كتلة محافظة ورجعية وقومية، كتلة ليبرالية مع إيمانويل ماكرون، وكتلة لم يتم تشكيلها سياسيًا بعد ولكن حاول ميلينشون بناؤها ويمكن أن نطلق عليها اسم الكتلة الاجتماعية البيئية".

وينبّه إروان لوكور إلى حقيقة مفادها أن اليمين المتطرف في أوروبا مستمر في كسب مواقع جديدة له والظفر بمراكز قيادية في أكثر من بلد حتى في ظروف الحرب الحالية بين روسيا وأوكرانيا. يذكرّ في هذا الصدد بفوز فيكتور أوربان في المجر، وفوز الرئيس الصربي المعروف بقربه من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. يلخص ذلك بقوله: "إن بوتين يساعد على انتصار حلفائه في أوروبا". وما يجعل أيضا هذا الباحث لا يستبعد حدوث أي مفاجأة ليلة 24 أبريل، أن عامل العداء الشعبي التلقائي للرئيس ماكرون وردّ الفعل العاطفي للناخبين، ونسبة الامتناع عن التصويت هي التي ستحدد مصير المعركة.     

كيف يعمل اليمين المتطرف للانتصار في معركة الأفكار؟ في مقال استشرافي نشر قبل الانتخابات بشهرين على أعمدة جريدة "لادبيش" La Dépêche، جاء فيه أن مرشحي اليمين المتطرف، إريك زمور ومارين لوبان، كانا حريصين قبل كل شيء على الفوز بمعركة الأفكار. ترتكز هذه المعركة على مفهوم ابتكره وطوّره المثقف الشيوعي الإيطالي الشهير غرامشي، يقوم على مبدأ "الهيمنة الثقافية" القائل بأن من يريد الاستيلاء على السلطة عليه أولا باحتواء الرأي العام. استخدم هذا المفهوم منذ فترة طويلة من قبل اليسار، وكان في صلب أبحاث مركز للأبحاث الخاص بالحضارة الأوروبية في السبعينيات ظهر في اليونان، وهو عبارة عن مختبر للأفكار القومية أشرف عليه الفيلسوف آلان دي بينويست، مدير مجلة "Elements" ، وعمل كثيرا على تطوير ما سميّ بـ"الغرامشية اليمينية".  

تطوّرت الفكرة، حتى أن الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي تبناها في عام 2007 حين قال: "اقتنعت بصلاحية نظرية غرامشي القائلة بأن المرء يفوز بالسلطة من خلال الأفكار.  إن هذه هي المرة الأولى التي يخوض فيها رجل يميني هذه المعركة." معركة خاضتها بعد ذلك ماريون ماريشال، حفيدة جان ماري لوبان وأحد أصوات اليمين الواعدة التي تدافع عن فكرة توحيد صفوف اليمين القومي تحت راية واحدة. تقول أن المعركة يجب أن تكون "ميتابوليتيكية" (ما وراء سياسية) قبل أن تكون انتخابية بحتة. ولقد أسست لهذا الغرض مؤسسة علمية مهمته التعمق في البحث عن الموضوع، هو معهد العلوم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية (ISSEP).

في دراسة نشرتها قبل عدة أشهر، تنبأ معهد جان جوريس بفوز مارين لوبان، أو على الأقل بمرورها إلى الدور الثاني في أصعب وأخطر انتخابات رئاسية تشهدها فرنسا في تاريخها المعاصر. في رأي مجموعة البحث التي أعدت التقرير، إن فرضية فوز مارين لوبان بالانتخابات الرئاسية لا تكون مستبعدة في حالة واحدة وهي تفكك "الجبهة الجمهورية" التي وقفت عام 2002 وقفة رجل واجل في وجه ممثل اليمين القومي وسحقته في الجولة الثانية التي خرج منها الرئيس الأسبق جاك شيراك بنسبة تفوق 80 بالمائة. وكانت أعلى نسبة يتحصل عليها مرشح للرئاسيات في فرنسا على الإطلاق. في السابق، كان لخطاب التهويل من خطر اليمين المتطرف على مستقبل الديمقراطية وقيم الجمهورية صدى واسع في أوساط النخبة والمجتمع على حد سواء. لكن الوضع تغيّر اليوم، بدليل أن فوز مارين لوبان في الجولة الأولى لم يحرك الشارع الفرنسي ولم يثر موجة من الهلع. وهذه تعتبر أول ثغرة يستغلها اليمين القومي في طريقه للجلوس على العرش. 

باحث: الرئاسيات ستكرس تطبيع باليمين المتطرف

في نفس النطاق، حذر الباحث إميليان هوارد فيال المتخصص في تاريخ اليمين من أن ترشيح مارين لوبان وإريك زمور تم في سياق جرى فيه "تطبيع" أفكار اليمين المتطرف من قبل بعض وسائل الإعلام والقيادات السياسية، ممهدة الطريق لنصر ممكن "في السنوات القليلة المقبلة".

جاء في المقال: "منذ ما يقرب من أربعين عامًا، كان اليمين المتطرف أحد الأقطاب الرئيسية في الحياة السياسية الفرنسية. كان قطبا منفّراً أكثر من كونه قطبا جذابًا، سعى الجميع لعزله بدلاً من دمجه في المؤسسات، لكن لا أحد كان باستطاعته تجاهله على الرغم من كل شيء. اليوم أصبح يمثل، من خلال ثلاثة من مرشحيه (مارين لوبان وإريك زيمور ونيكولاس دوبون-آينيون)، ما يقرب من ثُلث الوعاء الانتخابي. وبغض النظر عن حركة الاستقطاب الجارية لدعم الصفوف وعن أي نتائج مرتقبة، فيمكننا اعتبار أن الانتخابات الرئاسية لعام 2022 ستمثل انتصارًا من نوع آخر، هو انتصار التطبيع، وذلك من زاويتين.

من جهة، أصبح اليمين المتطرف مألوفًا منذ أن صار لا يُعامَل كقوة سياسية مختلفة عن بقية القوى السياسية التي تنشط في البلد، وأصبح مجبرا باستمرار على إثبات براءته وتبرير انحرافاته الأخيرة. وهذا نفسه منطبق على استراتيجيته الخاصة التي تتلخص في السعي، على مدى خمسين عامًا، للاندماج في اللعبة الانتخابية، إدراكاً منه بحدود خطابه وأساليب عمله المعتادة. ولهذا نجد أن مارين لوبان دأبت على التخلص تدريجياً من أساليب والدها الاستفزازية لتجسّد نوعًا من المعارضة "الناعمة".

من جهة أخرى، فإن اليمين المتطرف تحوّل إلى كيان عادي حيث أن موضوعاته ورؤاه وحتى أفكاره أصبحت هي المعايير التي تحكم النقاش العام. هذه الظاهرة قديمة بالنسبة لليمين، من قوانين باسكوا إلى ترشح إريك سيوتي، مروراً بوزارة الهجرة والهوية الوطنية. لتمتد وتشمل اليوم الوسط بمفهومه الواسع. ففي عام 2021 وحده، أقرت الحكومة قوانين "الأمن الشامل" و"الإرهاب والاستعلامات" و "الانفصال الإسلامي"، في الوقت الذي كان الوزيران جان ميشيل بلانكير وفريديريك فيدال يعلنان الحرب على ما يصطلح عليه إعلامياً بـ "اليسار الإسلامي"، وكان أوّل من أطلق هذا المصطلح في الأصل هم قادة اليمين المتطرف.

م. أ.