القوة والديمقراطية: بين مكر الليبرالية وجموح الشعبوية في النموذج الأمريكي

I'm an image! ١٤ / نوفمبر / ٢٠٢٤

عاد دونالد ترامب إلى سدة الحكم في البيت الأبيض، وجاءته التهاني من أرجاء العالم، من زعماء الديمقراطيات إلى رؤساء الأنظمة الدكتاتورية. وتهافتوا بالثناء، ليس فقط تعبيراً عن التهنئة، بل اعترافاً بموقعه الجديد الذي أثار جدلاً عميقاً في أوساط السياسة العالمية. وقد نشر إيلون ماسك على منصته "إكس" صورة وهو يؤدي التحية للعلم الأمريكي، ثم لحقه ترامب بنشر صورة لمنافسته كمالا هاريس مع تعليق يقول: "وأخيراً، لقد رحلت عنا للأبد". جاءت هذه الأفعال كرمزٍ لـ"هزيمة ساحقة لليبرالية وقيمها في أمريكا"، وما كان من داعمي الليبرالية في أوروبا إلا أن تلبّسهم الحزن، من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وحزبه، إلى رئيس وزراء بريطانيا ورئيس الوزراء الكندي، حيث شعروا وكأن أعمدة النظام العالمي الليبرالي تتصدع وتتهاوى.

إن الليبرالية الحديثة التي بشّر بها قادتها، كما يقول المفكر جان جاك روسو، "لا تعدو كونها عبودية بوجه أكثر أبهة"، فهي وإن تدّعي تحرير الإنسان، إلا أنها تحوله إلى مجرد رقم داخل منظومة رأسمالية صارمة، تنظر إلى الإنسان من خلال قيمتها المالية والاقتصادية، وتسعى إلى توظيف قضايا المناخ كأداة لتكريس هيمنتها العالمية. إنهم، كما يقول الفيلسوف هربرت ماركوز، يحاولون "تدجين الطبيعة والإنسان في الوقت ذاته، لتطويعهم لخدمة مصالحهم".

ورغم ذلك، أفرزت عودة ترامب ونزعته الشعبوية، تحدياً لهذه الليبرالية المتسلطة. فالشعبوية التي يتبناها، رغم معارضتها لقيم الديمقراطية التقليدية، تفتح باباً آخر لإعادة هيكلة المجتمع وفق إرادة شعبية أكثر استقلالاً، ولو كان ذلك عبر النزوع إلى القوة والانتقام. كما يقول نيتشه: "القوة هي الحق حين تضيع الحقائق"، فتأتي الشعبوية وكأنها قوة تهدف إلى هدم النظام القائم دون أي رادع، ولا تخشى، بل تتباهى باستخدام وسائل تثير حفيظة الفكر الحر.

وفي ذلك كله، يبقى السؤال الأكبر: هل يمكن للشعبوية أن تعيد للعالم نظاماً أكثر إنسانية وعدالة؟ أم أنها تفتح أبواباً لمجتمع يرزح تحت وطأة النزاعات والأهواء وحكم الدكتاتوريات الساحقة؟ إن في ذلك مجادلة فلسفية لا تنتهي، لكن الحقيقة الواضحة أن الليبرالية نفسها قد أساءت استخدام مفاهيم حقوق الإنسان، حتى باتت تتخذ منها سلاحاً لتقويض إرادات الشعوب.

أتذكر زيارتي للعاصمة الأمريكية واشنطن في ربيع عام 2019، حيث دُعيت للمشاركة في برنامج "إدوارد مورو للصحفيين". كانت غايتي الغوص في أعماق الديمقراطية الأمريكية، تلك التي يُروج لها كنموذج مثالي للحكم والحرية، لكن ما وجدته هناك أثار في نفسي تساؤلات كثيرة، حيث أدركت أن القيم التي تُرفع شعاراتٌ لا تعني بالضرورة الالتزام بها. وفي نقاشاتي مع المسؤولين، تجلى لي أن الديمقراطية الأمريكية ليست سوى غطاء لمصالح ذاتية، ويصدق هنا قول الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، حين قال: "كل نظام قائم على القوة يقتضي الإخفاء والتبرير".

في لقاء من تلك اللقاءات التي تمتلئ بالوعود والتصريحات الفخمة، كان من المقرر حضور وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، لكنه غاب، وأرسل من ينوب، فدخل بديله شامخاً، متوشحاً ثوب الفخر بما سماه "الإنجازات الأمريكية" في العراق، واصفاً إياها كأنها قدوة للديمقراطية ومنار للحرية. بيد أن في كلماته، إنصاتًا لعنجهيّة باطنة، كأنه يريد لنا أن نتلقف تلك "الإنجازات" بإذعان وامتنان، دون تفكير أو تساؤل.

ولما سُئل عن حقوق الإنسان في الشرق الأوسط، بدأ كلماته بتردد، فقال بشيء من التبرير الغريب: "القوة هي السبيل الوحيد لإرساء الديمقراطية وحقوق الإنسان". وكأن الديمقراطية قد أضحت غرساً لا ينمو إلا إذا سقته يد السلطة المطلقة. وهنا، تساءلت في نفسي: أيمكن حقاً أن تقوم الديمقراطية على قاعدة من السطوة والإكراه؟ أليس هذا النموذج الأمريكي سوى وسيلة لفرض الهيمنة تحت ستار الحقوق والحرية؟

يناقش الكاتب في مقالته الاثار والتداعيات والسلوك المحتمل لإدارة الرئيس ترامب، يمكنكم الاطلاع النص الكامل لهذه المقالة..