داعش وإمكانية تكرار سيناريو تكتيك حرب الأبراج

I'm an image! ٠٥ / يونيو / ٢٠٢٢

داعش وإمكانية تكرار سيناريو تكتيك حرب الأبراج

علي نجات - کاتب وباحث متخصِّص في شؤون الشرق الأوسط والحرکات الإسلامیة.

المقدمة

بدأ تنظيم داعش في اواخر 2017 حرباً جديدة في العراق، من استهداف أبراج نقل الكهرباء وخطوط أنابيب النفط، إلى تفجير محطات المياه ونسف الجسور وخطوط سكك الحديد في غرب العراق. في الواقع، نفذ تنظيم داعش استراتيجية الأرض المحروقة بعد تعرضه لهزائم ثقيلة أمام الجيش العراقي وخسارة الأرض لا سيما في مدينة الموصل. وتعد سياسة الأرض المحروقة هي إستراتيجية عسكرية أو طريقة عمليات يتم فيها إحراق أي شيء قد يستفيد منه العدو عند التقدم أو التراجع في منطقة ما.

وبعد خسارة وفشل داعش في السيطرة على المدن المحررة، لجأ التنظيم إلى تكتيكات الحرب الاقتصادية في العديد من المدن العراقية حيث بلغت هجمات التنظيم على البنية التحتية الاقتصادية في العراق، على مدى السنوات الخمس الماضية، 424 هجوماً، بما في ذلك 304 هجمات في العامين 2020 و2021. وتتنوّع الأهداف بين الآبار الارتوازية والبنية التحتية للنفط والغاز والمحاصيل وإمدادات الكهرباء والمياه. وهكذا، أصبح تدمير البنية التحتية العراقية، وخاصة أبراج الكهرباء، إحدى خطط تنظيم داعش الإرهابي منذ عام 2020. فعلى سبيل المثال، شهد العراق، في شهري تموز/يوليو وآب/أغسطس من العام 2021، سلسلة من الهجمات التي استهدفت أبراج نقل الطاقة الكهربائية، وتسببت بشلل في الطاقة، وانقطاع الكهرباء عن مدن لأيام، وتبنى تنظيم داعش العمليات في إصدار مرئي كان قد نشره في وقتٍ سابق. وبخصوص تكثيف عمليات تدمير أبراج الطاقة يكفي ذلك في ثمانية اشهر فقط من عام 2021 دمر تنظيم داعش ما يقرب من 200 برج كهرباء في مناطق مختلفة من العراق.

لذا فإن السؤال الرئيسي الذي يطرح نفسه هو: هل يستخدم تنظيم داعش تكتيك حرب الأبراج مع بدء فصل الصيف والارتفاع الشديد في درجات الحرارة وزيادة حاجة العراق إلى الكهرباء؟ للإجابة على هذا السؤال، تم تقسيم هيكل البحث إلى ثلاثة أقسام. فبعد تحليل وضع قوات داعش ومنشآتها في العراق، سيتم اختبار سيناريو تكتيك تدمير أبراج الطاقة في العراق وفي النهایة سيتم ذكر بعض التوصيات لضرورة اتخاذ التدابير المضادة.

 

وضع قوات داعش ومنشآتها في العراق

بعد ثلاث سنوات ونصف من المعارك أعلنت الحكومة العراقية في كانون الأول/ ديسمبر 2017، استعادة السيطرة على كامل الأراضي العراقية من تنظيم داعش الإرهابي، التي سيطر عليها عام 2014، لكن بعد عام من إعلان الهزيمة، تصاعدت نشاطات التنظيم، ولا يزال يشن بين الفينة والأخرى هجمات تستهدف المدنيين والعسكريين إلا أنها لم تصل إلى مستوى الاحتلال العسكري للمدن والقرى. وقد كانت هجمات داعش الإرهابية في العراق متذبذبة، فمنذ آب/ أغسطس عام 2020 شهد العراق 100 هجوم لداعش، إلا أن شهر كانون الأول/ ديسمبر من العام نفسه شهد أقل ضحايا منذ اندلاع المعارك عام 2014، لكنها عادت واشتدت منذ بداية عام 2021

وبحسب إحصائيات مؤسسة أعماق وأسبوعية النبأ التابعة لتنظيم داعش الإرهابي، بلغ عدد الهجمات التي نفذت في عام 2020 نحو 1422 عملية، منها عمليات انتحارية وتفخيخ وعمليات قنص، خلفت 2748 شهيداً وجريحاً. وقد نفّذ التنظيم 1,079 هجومًا في عام 2021 وأكثر من 200 هجوم في الفترة من كانون الثاني/يناير إلى نيسان/أبريل 2022.

وتشير التقديرات في العراق خلال العامين الماضيين إلى أن التنظيم لديه القوة الكافية لتنفيذ العمليات الإرهابية، ويوضح مسؤول مكافحة الإرهاب التابع للأمم المتحدة فلاديمير فيرونكوف في آب/ أغسطس 2020، إلى أن أكثر من 10 آلاف مقاتل داعشي ينشطون في العراق وسوريا، فيما يبين تقرير صادر عن لجنة معاقبة القاعدة وداعش التابعة لمجلس الأمن للأمم المتحدة في فبراير2021، أن داعش لديه حالياً 10 آلاف مقاتل في سوريا والعراق معظمهم في العراق، بعد حين كان تعدادهم أوائل عام 2021 يقدر بـ 6000 مقاتل، ولكن بالنظر للاعتقالات وقتل العديد منهم، يمكن تقديرهم الان بـ 5000 مقاتل، وبالإضافة إلى هذا فإن لديهم 5000 آخرين كقوة نائمة تعمل على الدعم اللوجستي.

وعلى وفق لتقارير صادرة عن الأمم المتحدة في شباط/فبراير 2021، أن الموارد المالية لداعش تقدر بأكثر من 100 مليون دولار. فضلاً عن امتلاكها عائدات محدودة من الاتجار بالمخدرات والاختطاف والابتزاز وأخذ الإتاوات، ومن خلال زيارات ميدانية لمسؤولين أمنيين عراقيين، أكدوا أن داعش تمكن من تمويل نفسه ذاتياً عن طريق تهريب المخدرات، كما شهدت صحراء الأنبار مرات عديدة نقل شحنات من المخدرات عبر أراضيهافي الحقيقة، في مختلف المناطق التي ينشط فيها داعش، يعاود التنظيم التواصل مع السكان والقبائل لتدبير التمويل الذاتي، والانخراط في أنشطة اقتصادية غير قانونية مع الجهات الفاعلة الناشئة الجديدة التي تتورط في تهريب السلع والتجارة غير المشروعة في السجائر والأدوية والأسلحة والنفط والمخدرات والآثار والخردة المعدنية والنحاس والأسمنت والمواد الغذائية والإلكترونيات. والجدير بالذكر أن الإيرادات التي يجنيها داعش توفر له الأموال اللازمة لتنفيذ هجماته الإرهابية، والحصول على الأسلحة والغذاء والدواء والمركبات وكل ما يلزم لاستمرار التنظيم ومواصلة أنشطته المتمردة، فضلًا على تجنيد عناصر جديدة.

ویمکن القول بأن رغم هزيمة داعش ميدانياً، فإن عصابات داعش لديها الموارد المالية الكافية لمواصلة أنشطتها وتنفيذ العمليات الإرهابية، إلا أنها غير قادرة على احتلال المدن، فبعد اقترابها من الموت والاختفاء كليا كما حصل بين عامي 2007 و 2009، استطاعت استرجاع قواها في صحراء العراق، وبعبارة أخرى هناك إمكانية كبيرة للقضاء على داعش، إلا أن مقاتليه سيبقون على مسرح الاحداث استنساخا لتجربة القاعدة. لذلك فإن داعش حالياً يخطو خطى القاعدة في بلاد الرافدين بعد هزيمته عام 2007، والسنوات التي سبقت 2013، وقبل أن تحتل أي رقعة جغرافية، ومن اجل ان تثبت وجودها على أرض الواقع استخدمت تكتيكات قتالية مختلفة، فما تركز عليه الآن هو تنفيذ عمليات إرهابية متعددة، والعمل على انعدام الأمن في بعض أجزاء العراق، وبالنظر لتقلص أعدادها عن ما كانت عليه عامي 2014 و 2015، أو السنوات التي سبقت إنشاء الخلافة في الموصل، فقد ركزت على زيادة الهجمات الإرهابية، ولاسيما ضد قوات الأمن، بدلاً من إعادة احتلال الأراضي في بعض المحافظات، وخاصة في مربع كركوك وصلاح الدين والأنبار وديالى، والتي يزعم التنظيم أن له القدرة على التجنيد وخلق الخلايا النائمة فيها.

يستطيع داعش من خلال الاستفادة بمعرفته بطبيعة الأراضي، والمناطق النائية، والفضاء الصحراوي، والجبال، والمجموعات المتنقلة، والعديد من الخلايا، والمؤيدين في العراق، العمل وتنفيذ أنواعٍ مختلفة من الهجمات في مناطق عديدة، مثل الأنبار وشمال بغداد وكركوك وصلاح الدين ونينوى وديالى ودجلة/ ديالى وبابل الجزيرة وبادية الفرات والفلوجة ومنطقة واسعة في جنوب، التي يُطلق عليها القطاع الجنوبي.

وفيما يتعلق بمناطق تواجد داعش لا بد من التنويه إلى أن كثرة تواجدهم في جزيرة كنعوص في نينوى، وذلك نظراً لصعوبة العبور اليها وكثافة الأشجار فيها، وكذلك الامر في وادي الثرثار بمحافظة صلاح الدين وسلسلة جبال قره جوخ في مدينة مخمور جنوب شرق جبال نينوى وجبال مكحول، وسلسلة جبال حمرين المنتشرة في ثلاث محافظات ديالى وصلاح الدين وكركوك شمال العراق، وهي قاعدة رئيسية ونقطة انطلاق حقيقية لهجمات داعش في مناطق واسعة من تلك المحافظات إلى أطراف بغداد، فالخصائص الجغرافية لهذه المناطق مثل وجود الكهوف والانفاق والممرات الجبلية تمتاز بصعوبة الوصول إليها حتى مع استخدام الآليات العسكرية، ما دفعت داعش إلى استخدام هذه المناطق كملاذ آمن تتحصن به عصاباته.

وبعد الهزيمة التي مني بها داعش نهاية عام 2017 وطرده من جميع الأراضي التي سيطر عليها، لم تتوقف أنشطته السرية؛ بهدف إعادة تنظيمه ونشاطه، حتى أنه بعد خمس سنوات من دحره لا يزال لديه ما يكفي من القوة لزعزعة استقرار وأمن المدن العراقية. وعلى الرغم من التقدم الواضح الذي حققته القوات الأمنية في محاربة داعش خلال العامين الماضيين، الذي أسفر عن مقتل عدد من كبار قادة داعش وتدمير خلاياه واوكاره، ما تزال هناك مناطق في العراق خاصة في الشمال والغرب، ولاسيما مربع “كركوك وصلاح الدين والأنبار وديالى” تشهد اعتداءات إرهابية متكررة، وقد حافظت داعش على هيكلها الهرمي، حتى بعد اغتيال كبار قادتها، حيث عينت حكامًا وقادة من مناطق مختلفة لمواصلة عملياتها وأنشطتها. وفي ظل نقص القوات وانخفاض التمويل، فأن داعش الآن غير قادرة على العودة واحتلال المدن العراقية، لأن أسلوبه القتالي في التفجير والقنص المتفرق، يؤكد على عدم قدرته لمواجهة قوات الأمن العراقية والجيش للسيطرة على مناطق جغرافية.

کما يبدو أن الجهود العسكرية المكثفة في العراق، خلال الأشهر الخمسة الماضية، واستمرار ملاحقة بقايا تنظيم داعش، قد أسهمت بتراجع عمليات العنف والهجمات الإرهابية، سواء على مستوى المناطق المحررة التي لا تزال بعض أطرافها تعتبر مخابئ لعناصر التنظيم؛ أو في بغداد وبقية المدن التي لم تعد تشهد أي تهديدات أمنية كما في الأعوام السابقة، فيما لا تزال القوات العراقية تواصل تمشيط المناطق الشمالية والغربية، منها نينوى وكركوك وديالى وصلاح الدين والأنبار وضواحي بغداد، إلى جانب الضربات الجوية المتواصلة لاستهداف تحركات التنظيم.

وحققت عملية "الإرادة الصلبة" تقدماً في تفتيش المناطق النائية والصحراوية، لا سيما صحراء الحضر في نينوى، وصولاً إلى صحراء محافظتي الأنبار وصلاح الدين، إذ تمكنت من كشف نحو 10 مقار كانت تعتبر مأوى لعناصر تنظيم داعش، إضافة إلى مواد لوجستية، وتدمير أكداس للعتاد وأنفاق وتفجير ألغام مزروعة على الطرق. وأعلنت القوات العراقية عن مقتل عدد من عناصر التنظيم خلال المواجهات. ويعتقد قادة أمنيون أن التنظيم لم يعد قادراً على المواجهة المباشرة مع القوات العراقية، لكنه قد يواصل الكمائن لاصطياد عناصر الأمن والمدنيين، والأهم هو تراجع هجماته بشكلٍ كبير، جرّاء محاصرته في مناطق معروفة ومشخصة من قبل السلطات الأمنية، وأنه ينتهي تدريجياً.

داعش وتكتيك تدمير أبراج الطاقة في العراق

بعد الهزيمة في العراق، حاول تنظيم داعش العودة واستعادة قدرته بتبني تكتيكات واستراتيجيات مختلفة. وفي غضون ذلك، أحد الاستراتيجية والتكتيكات التي وضعتها عصابات داعش مؤخرًا من اجل الوصول إلى ذروة قدرتها هي: الحرب الاقتصادية. تشمل هذه الاستراتيجية الهجمات على المنازل والمزارع، وتدمير المحاصيل، والهجمات على مرافق البنية التحتية العامة والخاصة، مثل محطات الوقود، وآبار النفط، وخطوط أنابيب النفط والغاز، ومرافق إمدادات المياه، وأبراج الكهرباء، وأبراج الاتصالات السلكية واللاسلكية. وقد شنّ التنظيم أكثر من 400 هجوم في العراق خلال عام 2021، أي ما يمثل 80 في المائة من عمليات الحرب الاقتصادية العالمية للتنظيم.

فقد أمر الخليفة السابق أبو إبراهيم القريشي عناصره بشن غزوة اقتصادية ضد العراق، من خلال مهاجمة أبراج نقل الطاقة الكهربائية، وتهديد السوق العراقية، وفيما نشرت داعش في نشرتها الاسبوعية “النبأ”، أنها خلال سبعين يومًا من 1 أيار/ مايو إلى 8 تموز/ يوليو 2021، تحت عنوان “الغزو الاقتصادي” نسفت 75 برجاً رئيسياً لنقل الطاقة في شمال وشمال شرق العراق، ولاسيما “خط المرصاد” الرابط مع إيران في محافظة ديالى، كما أعلنت وحدة المعلومات الأمنية العراقية، في 3 تموز/ يوليو 2021، عن تعرض 61 برج طاقة لعمليات تخريبية في أيام قليلة، ومنذ ذلك الحين تعرضت العديد من أبراج النقل لهجمات تخريبية ايضاً.

فقد دمر تنظيم داعش ما يقرب من 200 برج كهرباء في العراق في ثمانية أشهر فقط من عام 2021. وفي شهر آذار/مارس 2022 عادت الهجمات التي يُتهم عناصر ينتمون لتنظيم داعش بتنفيذها ضد خطوط وأبراج نقل الطاقة الكهربائية في غرب البلاد. وتتمركز الهجمات في محافظات الأنبار، وديالى، وصلاح الدين، فضلا عن منطقة جرف الصخر، جنوبي العاصمة بغداد. وتواجه القوات الأمنية العراقية، تحديات كبيرة في إيقاف تلك الهجمات؛ بسبب وجود تلك الأبراج في مناطق نائية، وغير مرصودة أو مأهولة بالسكان، وهو ما يجعل تحركات عناصر داعش فيها طبيعية. إذ يمتلك العراق نحو 40 ألف برج فائق لنقل الطاقة يقع منها أكثر من 19 ألف شمالي وشرقي البلاد، أغلبها يمر من مناطق صحراوية وأرض شاسعة مفتوحة يصعب السيطرة عليها أمنياً.

يقوم إرهابيو داعش بتدمير أبراج الطاقة بأساليب وتكتيكات مختلفة. إذ استُخدمت في بادئ الأمر عبوات ناسفة فقط، ولكن تم إحراز تقدم في العملية، کتفخيخ الأبراج بالأحزمة الناسفة والقنابل الموقوتة، وتوجيه الصواريخ إلى الأبراج لإسقاطها بالكامل، واستخدام قناصين في استهداف أسلاك الطاقة، عبر قنصها وقطعها. وأما الهدف من استهداف داعش لأبراج الطاقة هو خلق الفوضى والقلق الأمني ​​في العراق. أي أن الهدف من هجمات داعش على قطاع الكهرباء هو لتأزيم موقف الحكومة وإثارة الشارع إضافة إلى إرباك المشهد الأمني في جميع أنحاء البلاد.

عادة ما يستخدم تنظيم داعش تكتيك حرب ابراج الطاقة بالتزامن مع ارتفاع درجات الحرارة في معظم المحافظات العراقية إلى أكثر من 50 درجة مئوية، وفي الواقع یلجأ داعش إلى هذه الاعمال من أجل ازدياد آلام الناس لتحريكهم وبدء موجة جديدة من الاحتجاجات. وتجدر الإشارة إلى أن خلق موجة من الاضطرابات والفراغ الأمني ​​في العراق أمر مهم للغاية لداعش. لأن وجود حكومة هشة وما يترتب عليها من فراغ امني قد يؤدي إلى استعادة قوة داعش، فمن اهم العوامل التي أدت إلى ظهور داعش عام 2013 في مدن العراق هو الفراغ الأمني والاختلافات السياسية والدينية والعرقية، وانعدام التماسك بين النسيج السياسي، وقد خلقت هذه التوترات ارضية خصبة لاستغلال تنظيم داعش وتوسيع نفوذه وسيطرته، ولاسيما في مناطق المكون السني، فبعد الاحتجاجات السنية المتكررة واستمرار الخلاف مع الحكومة وعدم ايجاد حلول ناجعة وشاملة، عمدت جماعات داعش الى النفوذ من تلك الفجوة واستغلالها بشكل كامل، ولهذا السبب يمكن القول أن الاضطرابات ستؤدي إلى عودة ظهور داعش مجدد.

في الواقع، إن أحد العوامل المهمة في ظهور وزيادة نشاط داعش وتوسيع رقعته الجغرافية عامي 2013 و2014 هو الفراغ الأمني، حيث يذكر عبد الله بن محمد من المنظرين للحركة السلفية الجهادية في كتاب المذكرة الاستراتيجية: “يمكن للجماعات الإسلامية الجهادية جذب أشخاص آخرين وإحياء الخلافة وإقامة دولة إسلامية من خلال عدم الاستقرار والانفلات الأمني.” وفي هذا السياق يمكن القول أن الوضع السياسي المتردي في عامي 2019 و 2020، زاد من قوة داعش. فبعد انطلاق المظاهرات التشرينية والتي تحولت الى فوضى فيما بعد، أعطت الحكومة جل اهتمامها صوب التظاهرات المندلعة، بدلا من الاستمرار بمطاردة الخلايا النائمة، فضلا عن دخول العراق بفراغ سياسي أمني بعد استقالة رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي، حيث غير بوصلة توجه القوات الامنية من تطهير الخلايا النائمة وصد الهجمات التقليدية إلى الانشغال بالوضع السياسي الهش.

وفي الآونة الأخيرة، تشهد مدن وسط العراق وجنوبه تظاهرات ووقفات احتجاجية، تخلل بعضها قطع طرق رئيسة ومهاجمة دوائر حكومية، بسبب تراجع معدل توفير التيار الكهربائي للمدن، في ظل ارتفاع درجات الحرارة واستمرار أزمة شحّ المياه. وتنظر حكومة تصريف الأعمال في العراق برئاسة مصطفى الكاظمي وقوى سياسية عدة إلى ذلك بقلق بالغ. وتبدو الأوضاع في البصرة تحديداً غير مشجعة، حيث بدأت الرطوبة ترتفع مع درجات الحرارة وانقطاع الكهرباء، وتلاعب أصحاب المولدات بوقت التشغيل والإطفاء بحجج مختلفة، من بينها عدم توفير الحكومة للوقود بسعر مخفض أو بسبب الأعطال نتيجة التشغيل المتواصل. إضافة إلى ذلك، يواجه العراق أزمة سياسية لتشكيل الحكومة منذ عدة أشهر، وقد يؤدي استمرار هذه الأزمة إلى انتشار الاحتجاجات ويؤدي إلى تظاهرات واسعة في مختلف المدن العراقية. فإذا انتشرت الاحتجاجات، سيحاول تنظيم داعش الاستفادة من الفراغ الأمني ​​ومضاعفة المشاكل للشعب من خلال تدمير أبراج الكهرباء.

علاوة على ذلك أبو الحسن القريشي الزعيم الجديد لداعش، يشبه الصندوق الأسود، ويخض لعملية التمويه التي يمارسها التنظيم في السنوات الأخيرة، عبر منح قياداته الرئيسة عددا ً كبيرا ً من الأسماء والكنى، في محاولة لحماية هوايتهم الحقيقية من أجهزة الاستخبارات العربية والأجنبية. ومن المتوقَّع، سيسير الزعيم الجديد على الدرب نفسه، وسيواصل محاولة شن هجمات في جميع أنحاء العراق، وقد تكون عنده رؤيته الخاصة لكيفية تنفيذ الهجمات. خصوصا أن القائد الجديد قد يكون عنده مؤهلات عسكرية أكثر من أبي إبراهيم القريشي. ومن المحتمل قد تتغیر هجمات داعش وعملياته اعتمادا ً على أسلوب القائد الجديد وسياقه إذا كان يؤمن الزعيم الجديد بالهجمات واسعة النطاق، واستخدام القنابل والهجمات الانتحارية. لذلک سيناريو تكثيف العمليات الإرهابية وتصعيدها من قبل زعيم داعش الجديد أبي الحسن القريشي في المستقبل القريب بهدف إثبات وجوده وتقديم صورة زعيم قوي، وكذلك استقطاب المؤيدين وجذبهم وتحفيز قوات داعش في مختلف البلدان ممكن.

 

 

تكتيك حرب الأبراج وضرورة اتخاذ التدابير المضادة

كان من الواضح منذ بعض الوقت أن داعش لم يهزم ولا يزال يُشكّل تهديدًا لأمن واستقرار العراق، والمنطقة بأسرها، التي ينشط فيها في المقام الأول، وحيث تتمركز قيادته المركزية بأكملها. وبالتالي، فإنه من غير المرجح زوال التهديد الذي يمثله التنظيم في العراق على المدى القصير مهما كانت الاستراتيجية العسكرية والسياسية التي ستقرر.

وتجدر الإشارة إلى أن استخدام تكتيك حرب الأبراج من قبل داعش لا يعني قوة هذا التنظيم في العراق، بل يعني ضعفه. ونظرًا لأن مقاتلي داعش غير قادرين على محاربة الجيش العراقي بشكل مباشر بسبب الضعف العسكري، فقد لجأوا إلى التكتيكات والاستراتيجيات العسكرية التي تتطلب القليل من القوة. ومع ذلك، يجب على الحكومة العراقية والجيش اتخاذ تدابير مضادة خلال الأشهر الثلاثة من الصيف لمنع تكرار سيناريو تكتيك حرب الأبراج، بما في ذلك ما يلي:

·       تفعيل الجهد الاستخباري لرصد تحركات تنظيم داعش.

·       التركيز على الجهود الاستخبارية للتسلل إلى بنية داعش بهدف تحديد أهدافها وخططها.

·       نشر قطاعات عسكرية ونقاط متحركة قرب المناطق التي تقع عند مساراتها خطوط الضغط العالي.

·       نصب كاميرات حرارية لتأمين الأبراج من الاستهدافات المتكررة.

·       استخدام طائرات مسيرة للجيش فوق المناطق التي تصنف خطرة وتسجل تكرارا لعمليات الاستهداف.

·       استخدام دوريات دائمة للجيش للاستطلاع.

 

وبشكل عام يتطلب التعامل مع عودة ظهور داعش وهزيمة جذوره عددًا من الإجراءات في المجالات السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية منها:

·       دعم تشكيل حكومة مركزية مستقرة وقوية في العراق.

·       تعزيز قدرات القوات الأمنية والعسكرية العراقية.

·       تعزيز الدوريات الأمنية التي يقوم بها الجيش العراقي وقوات الأمن العراقية في المناطق الحدودية والصحراوية.

·       استمرار الهجمات البرية والجوية على مقار وملاجئ داعش الرئيسية.

·       إعادة تنشيط جهود الاستخبارات والعمل مع القوات المحلية لكشف الخلايا النائمة.

·       استمرار الضغط على خلايا داعش الإرهابية لتدمير التنظيم بالكامل.

·       تجفيف الموارد المالية لداعش عن طريق قطع المساعدات المالية وعدم دفع الفدية.

·       تأمين الحماية المضاعفة للسجون التي تضم نزلاء عناصر داعش.

·       ضبط حدود العراق مع سوريا ومنع تسلل الدواعش من سوريا إلى العراق.

·       الإسراع في توطين العرب السنة من النازح وارجاعهم الى مناطقهم.

·       التركيز على إعادة إعمار المدن التي دمرتها الحرب ضد داعش.

·       توفير التسهيلات الاقتصادية والمعيشية لمواطني المناطق المحررة.

·       حل المشاكل الاقتصادية ومضاعفة الجهود لخلق فرص عمل للشباب لمنعهم من الانضمام إلى داعش.

·       تجنب ومنع نشوب الصراعات الطائفية.

·       إيجاد طريقة لنزع فتيل الطائفية الدينية.

·       إنشاء غرف عراقية مشترکة مع دول الجوار بهدف تبادل المعلومات.

 

الخاتمة

يعاني العراق أزمة نقص الكهرباء منذ عقود، جراء الحروب المتعاقبة وعدم استقرار الأوضاع الأمنية في البلاد، فضلا عن استشراء الفساد. ويمثّل ملف الكهرباء إحدى أبرز المشكلات الخدمية التي يعاني منها العراقيون منذ الغزو الأميركي للبلاد عام 2003، على الرغم من إنفاق الحكومات المتعاقبة أكثر من 41 مليار دولار على القطاع في السنوات الـ18 الماضية. لكن البلاد تشهد انقطاعات طويلة في التيار خلال الصيف، إذ يصل معدل التغذية بالطاقة في بعض المناطق إلى ساعة واحدة باليوم.

وقد شهد عام 2021 موجة واسعة من عمليات استهداف أبراج الطاقة في محافظات بغداد ونينوى وكركوك وصلاح الدين والأنبار. وفي بداية عام 2022 أعلنت وزارة الكهرباء العراقية خروج ستة أبراج للطاقة عن الخدمة في محافظة الأنبار كبرى مدن البلاد، عقب هجوم من قبل مجاميع إرهابية، وهو ما يثير مخاوف مما وصف بحرب أبراج الكهرباء التي عانى منها العراق العام الماضي، والتي ربما تطل برأسها من جديد.

خاصة وأن لدى تنظيم داعش الآن القدرة على تدمير أبراج الطاقة؛ لأن لديها ما يكفي من القوة البشرية والمال لبدء هذه العمليات. لا سيما أن يحتاج القائد الجديد لداعش أيضًا إلى إطلاق عملية إرهابية من أجل اكتساب الكاريزما والترويج لداعش في وسائل الإعلام وجذب مقاتلين جدد. لذلك، يجب على الحكومة العراقية والجيش مضاعفة جهودهما لمنع تكرار سيناريو حرب داعش ضد أبراج الطاقة.

ختاماً يمكن القول أن إعلان الحرب الاقتصادية من قبل داعش يظهر أفول نجمه وتراجع قدرته على شنّ عمليات كبيرة، إذ تتركز هذه الهجمات على أهداف سهلة وغير محمية، ما يدل على تراجع قوته بشكل كبير في العراق. لكن تغير الظروف وتوفير الفرص مثل وقف عمليات ملاحقة الخلايا النائمة لداعش، وخلق عدم استقرار وفراغ أمني، ونجاح داعش في مهاجمة السجون وتحرير عناصره، يمكن أن يؤدي إلى استعادة قوة داعش في العراق، ومع ذلك فإن استمرار ملاحقة عناصر داعش الارهابية والضغط المستمر على خلاياها النائمة قد يجبر القوات الإرهابية المتبقية على مغادرة العراق، والتوجه صوب أفغانستان أو دول أفريقية أخرى، حيث يوجد الفراغ الامني والارضية الرخوة لنشاطها.