عراق 2020 ... الخيارات والمآلات

I'm an image! ٠٣ / أبريل / ٢٠٢٠

عراق 2020 ... الخيارات والمآلات

د. نعمه العبادي

باحث في السياسة والامن

منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عاما 1921 لم تكن يوما ما معبرة بشكل صادق وعادل عن كل مكونات الأمة العراقية، وظلت إشكالية التمثيل في السلطة والقرار والعدالة في توزيع الحقوق والواجبات جدلية مستمرة، كما أن الهوية هي الأخرى ضاقت وأتسعت بمقدار منظور السلطة لـ (الموالين والمعادين) من تكوينات الشعب في عملية صراع مع الشعب إمتدت مدياتها من عدم المقبولية والرفض النفسي حتى القمع والحرب الداخلية، وبقيت الدولة غير المستوعبة، والهوية غير المستجيبة، والسلطة المستفردة، تغذي المزيد من الهشاشة في الكيان العام، وشعور الإغتراب داخل الوطن، فضلاً عن قضية المحرومية على مستوى الحقوق والواجبات، التي خلفت بلاداً غارقة في الفقر والحرمان والخوف على الرغم من خيراتها العظيمة .

إصطبغت مسارات الرفض (المعارضة – المنظمة / الشعبية) التي إنبثقت مع بدايات تأسيس الدولة الحديثة بالصبغة الآيدولوجية، وجاءت موضوعة الحقوق أو حتى مشروع الدولة المعافاة كخيار متأخر بعد المنحى الآيدولوجي بمسافة طويلة، ولم تخلو تلك المسارات المقدمة كبديل للسلطة الواقعة من صور )ماثل او تزيد) على قبائح السلطة الواقعة ومشكلاتها، وقد أستهلك سؤال (من يحكم؟) كل هذا السجال بمختلف مستوياته، ولم يكن لسؤال (من يحكم؟) موقعه المناسب ضمن هذا المخاض الذي امتد لأكثر من مائة عام الأمر الذي قدم المزيد من نماذج السلطة والحكم دون أن يقدم تجارب أو مقاربات ناجحة أو مغايرة لكيفية إدارة الدولة وقيادة الشعب. 

ومع أن إشكالية (إحتلال/تحرير) التي خلقتها مخرجات عراق ما بعد نيسان 2003، شظت المواقف والمكونات بحسبها (ظاهراً) إلى أن جدل (الأحقية) و (الأجدرية) للحكم هو الذي كان المحور الأساس للصرع الداخلي الذي شهدته البلاد خلال أكثر من عقد ونصف، منتظماً مع صراع إقليمي ودولي (سري وعلني)، تداخل بشكل مقصود وموجه، لتحديد مسارات فعل (الدولة والسلطة) في العراق سعياً لتوظيف ذلك في خدمة أغراض ومقاصد (قديمة ومستحدثة).

تتفاوت التقديرات والفهومات في تقييم محتوى وأثر هذا المسار (الخارجي) المتداخل مع الصراع الداخلي بفعل جملة مفاعيل تقوض الإستقرار وتمنع المشاركة العادلة، فقد ذهب العديد إلى وسمه بالمشروع المتكامل الذي يتحرك وفق خطة مدروسة ومعدة بعناية، ويزيد هذا الإتجاه التأكيد على أن ما يتخيل تصوره على أنها (إرتباكات وتقطعات) في مسيرة هذا السيناريو المعد في حقيقتها خطوات مدروسة ومراقبة بشكل منضبط ومضمون النتائج، ولا يوجد أي فجائي أو غير متوقع ضمن هذا المسار، وأن الوقائع تكون ذهاب الأمور حيث ما تم رسمه لها.

يقدم هذا المسار تفسيره على أن عملية التغيير المدارة والمسيطر عليها من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، والموجهة من قلب وروح التوجهات الأمريكية الكبرى التي تساوي وتتطابق مع (إسرائيل الفكرة) بدرجة تامة ومع (إسرائيل الدولة بنسبة عالية)، قد رسمت خطواتها عبر عملية تهيئة البديل، والذي تمثلت بالتعاطي مع كيانات وأطراف منخرطة بعملية التغيير ضمن مشروع ما يسمى بـ (المعارضة العراقية) ولكن بأهداف ومآلات تختلف عما يتضمنه المشروع الأمريكي، وأن عملية خرط تلك الجهات في صميم التغيير وجعلها ظاهراً حمالته الأساسية، سيكون بداية تآكلها الداخلي من خلال خدش الشرعية والمقبولية التي تمثل مصدر قوتها وإستقطابها عبر تقديمها للآخرين على أنها حليف متماهي حد النخاع معهم، ودفعها للتنافس في بيئة مشبوهة يطلق عليها الديمقراطية من باب (المزحة السخيفة)، ثم تشجيعها لتنخرط في عملية ( تغالب وتكالب ) على السلطة والمنافع مع تغذية وتطوير مفاعيل الفشل والتحديات، الأمر الذي طور أمراضها الموروثة والمنتقلة بالعدوى الجديدة، وجعلها تعمق قبرها بيدها يوماً بعد يوم، وهي تصر على عدم المراجعة والمحاسبة ، وتدير الظهر كاملاً لكل أصوات الإستغاثة التي يطلقها الفقر والجوع والموت في شوارع العراق في كل يوم، وتشعر بنشوة أكبر وأكثر ثمالة من خلال غرقها في مباهج السلطة ومردوداتها الخيالية من الثراء المفرط الذي لا يخطر على بال أحد منها، وهي منكبة على تقنيات تطوير الفساد ومضاعفة مردوداته بدلاً من مواجهته، وإيجاد صيغ ونماذج تضمن عملية إستمرار التغانم بشكل أكبر يساوق ذلك كله فعل جماهير مرتبك ومضطرب ومزاجي، يندفع مرة في التماهي معها لدرجة أنه يتبرع مجاناً بالدفاع المستميت عن جلاده، ومرة ينكسر إلى داخله منسحباً من وجوب حضوره في لحظات حسم مهمة تاركاً للواقع الفاسد الإستمراية في تشكله كما يريد، وتوجهه في مرات أخرى للحديث عن بدائل هلامية أو مجرد صياغات لفظية أو حتى الإنخراط (علم أو دون علم) في مشاريع تقويض مصالحه وتفتيت دولته كما حصل في جزء كبير من النشاط التظاهري الذي أمتد لسنوات وتمثلت قمته في تظاهرات تشرين 2019 وما بعدها.

يرى هذا المسار أن عملية عزل ذاتي بنفس أدوات الديمقراطية، أسقطت كل (الفاعلين القدماء والجدد) ممن لا يتوائمون مع المشروع المشار إليه (مع التأكيد على أنهم مهيأون ومستعدون لهذا التساقط بفعل أمراضهم الموروثة والمستجدة)، وأن فكرة الإستبدال التدريجي جاءت تحت أغطية المجايلة المنطقية، لكن هذا المسار يصر على أن أنها عملية مدروسة ومنظمة.

ويطور هذا الفهم منظوره على أن مرحلة الإنسداد السياسي الحانق التي جاءت نتيجة تصاعد موجات التظاهر مع حزمة متغيرات داخلية وخارجية أخرى، مضافاً الى عوامل طارئة دخلت بقوة على الخط، أهمها جائحة كورونا وإنهيار أسعار النفط والتداعيات الاقتصادية الكبيرة، مثلت عملية تسريع كبير لإنجاز هذا المشروع على صورته المطلوبة، وأن المرحلة الإنتقالية المنظورة، وما سيتم من ترتيبات خلالها، عبر رسائل تم صياغتها بحذاقة، والذي يكشف عنه إعادة تشغيل (داعش وأخواتها) والكيفية التي تتعاطى بها حكومة المرحلة الإنتقالية مع هذا التشغيل الجديد، مضافاً إلى إنجازات مهمة ستتم ملاحظاتها بشكل واضح عبر تضخيم ممنهج  لتسويقها الإعلامي، ستكون المدخل المناسب الذي تكتمل معه عملية الإستبدال الذاتي للقوى (المناوئة والغير مرغوب فيها) من كل المكونات وفي مقدمتها (الشيعة)، والذي يعني عراق جديد بالمنظور المطابق )حقيقة) لمرادات قوة التغيير الأساسية، وأن الأنموذج الإنتخابي الجديد، والنقمة الجماهيرية المتزايدة، والفشل المتعاظم، وجهود خارجية أخرى كافية في تحويل مخرجات العملية الإنتخابية المرتقبة إلى مسار مباين تماماً لخط العملية السابقة، والذي سيكون منسجماً فكرياً وعملياً مع مسار صفقة القرن ومخرجاتها، وكل ما يتبع ذلك من تبدلات على مستوى الفكرة والعمل

يقدم مسار آخر نظرته لتفسير حركة عراق ما بعد 2003 بطريقة أكثر ميلاً للواقعية، ومع عدم إغفاله للدور الخارجي وإرادته، لكن لا يضيع المشهد في إطار مرتسم صارم معد مسبقاً ويرى أن قوى الصراع على العراق تتكيف وتجتهد في توظيف مخرجات الحراك الداخلي بطريقة تضمن لها مصالحها، وأن الخلل الداخلي وكل ما تم الإشارة إليه سابقاً من أمراض وموبقات متأصلة في القوى التي تتغالب وتتكالب على حكم البلاد خلال العقد والنصف المنصرم كفيلة بتمكين الآخرين (بسخاء) من تحقيق أغراضهم دون الحاجة إلى دفع فاتورات مكلفة.

وبناء على هذا المنظور فإن مدخلات ومخرجات العملية الإنتقالية المنظورة، ستكون محكومة بنفس صيغة العمل السابقة التي حكمت ما قبلها، حيث سيتم الإستثمار في خطئ ونقائص القوى الحاكمة، وتوظيف التوجه غير المنتظم للجمهور في تقديم مشروع البديل المناسب، الأمر الذي يقرب مسار الأمور تدريجياً من مرادات ورغبات قوى الصراع الخارجية خصوصاً مع وجود عوامل طارئة فعلت بشكل مؤثر جداً في المشهد العام والمتمثلة بجائحة كورونا وما رافقها من تبعات.

وخلاصة المشهد في ظل هذا المسار، هو إستمرار عملية التدافع بين إرادات خارجية وقوى مصلحية مع رجحان أكثر للأولى على الثانية، ولكن ذلك كله يحكم بفلسفة التعاطي العملي المرن مع المخرجات دون الحديث عن سيناريوهات معدة ومشروع مؤامرة كبير، ومع هذا المسار تكون فرص التدارك والخروج من قبضة التأثير الخارجي أكثر من الصورة السابقة.

يتوافق الإتجاه الثالث الأكثر تفائلا مع الكثير من التأشيرات التي طرحها المساران السابقان، ولكنه ينفرد في تفسير عملية التغيير الجارية على أنها عملية تعافي تدريجي تحققت بفعل جملة عوامل متشابكة، وأن هذه العملية هي التي ستبعد قوى الفساد والمحاصصة والتغانم التي حكمت البلاد في الفترة السابقة من خلال عميلة الإستبدال التلقائي عبر الادوات التي وصلتها بها، وتعضد رؤيتها بتقديمها لمخرجات التظاهرات على أنها أصبحت محدداً ملزماً وضاغطاً، غير معادلة السلطة وشروطها بشكل واضح، وأجبر الجميع بالإمتثال الى قدر غير قليل من المطالب سواء على مستوى قانون الإنتخابات الجديد أو مفوضية الإنتخابات أو حتى الشروط التي يتم على أساسها  اختيار الوزارة الجديدة، وأن هذا التعافي سيأخذ طريقه التصاعدي من خلال ما تحققه له المرحلة الإنتقالية التي تهيء للإنتخابات المرتقبة، والتي تراهن على أن عملية فرز واعية سيقوم بها الجمهور مندفعاً بتحفيز ذاكرته الحاضرة لكل الأداء السابق، والذي يكفل  تحقق صورة جديدة، تبتعد بشكل أكبر عن الفساد والمحاصصة، وتقترب كثيراً من مشروع الدولة الواعد.

يوجد مسار يقابل هذه المسارات الثلاثة، يقدم مقاربته بطريقة مختلفة، ويقرأ صراع القوى الخارجية على أنه يقوم على أساس الإستثمار عن بعد، كما أنه يدخل قائمة مختلفة من التغييرات والعوامل غير ما تمت الإشارة إليه مسبقاً كمتغيرات فاعلة في المشهد المحلي، ويرى أن كل ما تم عرضه على أنه عملية إختناق وإنسداد حقيقي ما هو إلا مناورات ذكية من قوى السلطة القابضة، وأن المرونة التي تم تقديمها خلال المرحلة السابقة بما فيها الإستجابة لإشتراطات المرحلة الإنتقالية تتمثل بذكاء سياسي قرأ الظروف والمتغيرات، وفضل التماهي الجزئي على الصدام، على أن يتم إستيعاب هذه الإمور عبر عمليات إلتفاف ذكية.

وبناء عليه، فإن القوى القابضة على السلطة لا تزال تملك مقومات الإستمرار في تسيد المشهد والإستثمار فيه، وأنها مهيأة أكثر من غيرها للنجاح في لعبة الإنتخابات مهما تغير قانونها ومفوضيتها، وأن قوى الصراع الخارجي لم تجد بديلاً ناجحاً يدعم توجهاتها أكثر من هذا النموذج القائم، كما أن تفتت التظاهرات، وأفول نجم شرعيتها بشكل تدريجي، بدرجات متفاوتة، سيبقي الإمور في المنظور القريب على حالها دون حدوث تغيرات مهمة.