تمر منطقة الشرق الأوسط بمرحلة غير مسبوقة من التحولات السياسية والأمنية والاقتصادية، وهي احدى نتاجات احداث 7 أكتوبر 2023 التي طالت ارتداداتها المنطقة والعالم، حيثُ تٌعيد القوى الإقليمية والدولية صياغة أولوياتها وتحالفاتها وفقاً لمصالحها المتعلقة بأمنها القومي او انعكاسات التراجع الاقتصادي لبلدانها، وفي قلب هذه التحولات، تقف العلاقة بين بغداد وواشنطن على مفترق طرق: هل تستمر كشراكة استراتيجية قائمة على المصالح المتبادلة؟ أم تتجه إلى مسار جديد تحكمهُ الحسابات التكتيكية والتغيرات المفاجئة في المنطقة؟
شهدت السنوات الأخيرة "انسحاباً تدريجياً للولايات المتحدة من بعض الملفات في الشرق الأوسط، سواء في سوريا أو أفغانستان" ، وهو ما أدى إلى توسيع الفراغ الاستراتيجي في المنطقة كما يصفهُ بعض الخبراء الذي أدى بدوره إلى تصاعد دور قوى أخرى كروسيا وتركيا وإيران، كما أن التقارب الخليجي-"الإسرائيلي" الذي يُعيد رسم خريطة التحالفات وتوسع نفوذ الصين الاقتصادي، يفرضان واقعاً جديداً على دول المنطقة، وفي هذا المشهد، "يحاول العراق أن يجد لنفسه موطئ قدم يحافظ فيه على سيادته واستقراره، دون الانجرار إلى محاور متصارعة" وهو ما جسدتهُ وتؤكد عليه الحكومة الحالية برئاسة السيد محمد شياع السوداني في الكثير من المواقف.
ينتهج العراق سياسة خارجية تتسم بالحذر والتوازن، مستندة إلى شعار "العراق أولاً"، وتسعى الحكومة العراقية إلى أن تكون جسراً للحوار لا ساحة صراع، إلا أن موقع العراق الجغرافي، وتشابك علاقاته مع دول الجوار والولايات المتحدة ودول الخليج، يجعل هذا التوازن معرضاً للاهتزاز في بعض الأحيان عند أي أزمة إقليمية، ورغم تعقيد المشهد، لا تزال هناك ملفات أساسية تجمع الطرفين، وعلى رأسها الملف الأمني، فالولايات المتحدة لعبت دوراً محورياً في دعم العراق في حربه ضد (داعش)، ولا تزال تشارك عبر "التحالف الدولي في تقديم الدعم اللوجستي والاستخباري" الذي من المقرر أن يبدأ بالانسحاب التدريجي في أيلول/سبتمبر من هذا العام وحتى نهاية عام 2026، حيثُ "لا تزال تُناقش اللجنة العسكرية العليا الأمريكية العراقية (HMC)، طبيعة المحادثات على الانتقال من التحالف الدولي للهزيمة الدائمة لداعش إلى علاقة أمنية ثنائية طويلة الأجل" .
اقتصادياً، ورغم إعلان واشنطن لحزمة من التعريفات الجمركية، إلا ان الحكومة العراقية "دعت إلى مراجعة العلاقات التجارية بين البلدين" ، مؤكدة أن العراق يحتاج إلى دعم استثماري وتقني، خاصة من الشركات الأمريكية، لتطوير قطاع الطاقة والبنى التحتية، وهو ما تم تأكيده خلال زيارة أكبر وفد تجاري إلى العراق في الأسابيع الماضية، "حيثُ ضم الوفد ما يقرب من 60 شركة أمريكية، بهدف تعزيز علاقات القطاع الخاص الأمريكي العراقي، ودعم التجارة العادلة والمتوازنة بين الولايات المتحدة والعراق" ، وهو ما يُعبر ايضاً عن سعي البلدين إلى إقامة علاقات استراتيجية تستند إلى تحقيق مصالح متبادلة واحترام سيادة العراق.
ومع مرور أكثر من عقدين على تغيير النظام في العراق لا تزال العلاقة بين البلدين تمر ببعض التقلبات بين وقت وآخر، نتيجة لعوامل داخلية وإقليمية القت بضلالها وتأثيرها على شكل وطبيعة العلاقة، فضلاً عن أن السياسة الأمريكية الخارجية تعاني من غياب استراتيجية واضحة طويلة الأمد تجاه العراق، ما يجعل العلاقة عرضة للتغير بتغير الإدارات في واشنطن، كما أن تأثيرات فاعليين إقليميين تُعرقل في بعض الأحيان مسارات التعاون بين بغداد وواشنطن، إلا أن هذا لا يعني إن العلاقة بين العراق والولايات المتحدة في طريقها للانهيار، لكنها بلا شك تمر بمرحلة إعادة تعريف، اذ تحتاج هذه المرحلة إلى إرادة سياسية واضحة من الطرفين، تقوم على فهم عميق للمتغيرات الإقليمية والدولية، والعراق لا يريد أن يكون تابعاً لأي محور، بل أن يبني شراكات متوازنة تحفظ مصالحه وتعزز سيادته. وفي هذا السياق، تبقى واشنطن شريكاً مهماً، لكن على أسس جديدة فرضتها التحولات الجارية في المنطقة.
الخلاصة:
في ضوء التحولات الجيوسياسية المتسارعة التي تشهدُها منطقة الشرق الأوسط، وما ترتب عليها من انعكاسات مباشرة على العلاقة بين البلدين، تبرز الحاجة إلى مقاربة جديدة لإعادة صياغة شكل هذه العلاقة على أسس متوازنة ومستقرة، وانطلاقاً من تحليل السياق الراهن والتحديات المشتركة، تبرز الحاجة إلى تعزيز الشراكة الثنائية بما يخدم مصالح الطرفين ويحافظ على سيادة العراق واستقراره من خلال:
1. وضع إطار استراتيجي طويل الأمد للعلاقة بين بغداد وواشنطن، يضمن الاستمرارية بعيداً عن تغير الإدارات والسياسات المؤقتة.
2. تعزيز التعاون الأمني القائم على دعم القدرات العراقية في مكافحة الإرهاب والاستخبارات.
3. تفعيل الشراكة الاقتصادية عبر تسهيل دخول الاستثمارات الأمريكية، خاصة في قطاعات الطاقة، التعليم، والتكنولوجيا.
4. تحييد العلاقة عن المحاور الإقليمية المتصارعة، من خلال تعزيز الدبلوماسية العراقية المتوازنة التي ترفض الانحياز لأي طرف.
5. فتح قنوات حوار استراتيجية دورية بين الجانبين لتقييم الوضع الإقليمي وضبط مسار التعاون بما ينسجم مع المتغيرات.
باحث واكاديمي